كًمْ مَنزِلٍ فِي الأرضِ يَألفُهُ الفتى *** وَحَنِينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ ويبقى الحبُّ للأوَّل , فنقِّل فؤادَك حيثُ شئت , ومازالتْ الساحاتُ تنبض وتأبَى أنْ تموت , ولا زالَ المسعفون يعتمدون الشهاداتِ المزيَّفة التي تؤكِّد موت القضية , وسيروي التاريخ حقيقة التمثيل بجثث الأحياء حين تُنزَع الأكباد بعدَ الأرواح , و تُسلَب الكرامةُ خلفَ سلبِ الحقوق والثروات , ويبقى من المشهد ( وحشيٌّ ويحك غيِّب عنِّي وجهَك ) . وسيبقى مفهومُ الوحدةِ شعاراً لا أساسَ له في قلوبِ جلِّ الجنوبيين وعقولِ كلِّ أبناءِ الشمال , ذَلِكَ لأنَّه في صيف العام 1994م تحوَّل إلى مفهومٍ يُكنُّه أصحابُ الشمال ويُصرِّح به أبناءُ الجنوب , ستُختَلَقُ التسمياتُ وستنمَّقُ العناوين وسيبقى المحتوى والواقع هَوَ ما يُفصِح عن حقيقةٍ لا يُنكِرُها إلا الجَاحِدُون , وستبقى الوحدةُ جثَّةً تداولها الأطرافُ بين مؤيِّدٍ لفكرةِ دسِّها في التراب وبين مُصَمِّم على تحنيطها لتكونَ لِمَن خلفَها آية . كَانَتْ خياراً لشعب وحلماً راوَدَ الجميع هنا وهناك , وتحقيقُها العشوائي هَوَ ما أدَّى إلى إعلانِ الانفصال غيرِ المدروس لينتهي المشهد بإعلانِ حربٍ من طرفٍ واحتلالٍ لآخر . و ستبقى الوحدةُ كعبةً وهميَّة لا يُرى منها إلا سِتَار ويُقتل المسلمون من أجلِ سِتَارٍ , خلفَه أصنامٌ تُردِّدُ بعضُ الألسنِ حولَهُ التهليلَ والتسبيح , وقلوبُهم تُتمتِمُ ب ( اعلُ هُبَل ) . العاقلُ بعدَ المجنون والسفيهُ معَ الفقيه والمنتقصُ قبلَ المغالي , يُدرِك كُنْهَ واقعٍ يَأبى إلا أن يَفرِض نفسَه وشكلَهُ أمَامَ الأعمى والبصير , حتَّى و إِنْ زُيِّن الشكلُ القبيح للواقعِ المُعاش بكلِّ ما مَلَكَت قدراتُ المُزيِّنين والمغالين . لمْ يَعُدْ بمقدورِ شعبٍ مغلوبٍ على أمرِه في الشمالِ والجنوب أن يتقبَّل أيَّ قرارٍ أو مصير أصحابُهُ هُم مَن نَزَعَ مِن نفسِهِ روحَ الضمير ولم يَعُدْ مستعدًّا أنْ يُلدَغ , لذلك لم يَعُدْ يقبل مجرَّد النظر إلى الجُحر مرَّةً أُخرَى مِن جديد . عودوا لرشدِكم , فالجنوبيُّون يطالبون بعودةِ الانفصال لأنَّهم ( وحدويُّون ) , عودوا إلى فصل الأرض وأقيموا مشروعاً يُعيدُ توحيدَ القلوب , ف صحَّةُ الأجسامِ تأتي بالعِلَل , والانفصالُ عِلةٌ صَنَعَها مَنْ يدَّعي وحدةً مزعومةً لم يَعُدْ لها غطاء في الضمائرِ والقلوب . وسيلعَنُ التاريخُ قياداتٍ جَعَلت مِنْ ( تفرَّقوا ) خياراً محتوماً , وشوَّهتْ قسماتِ جمالِ الاعتصام , فقد اعتصم الناسُ جميعا في الجنوبِ والشمال , وتفرَّقوا لأنَّ اعتصامَهم لم يَكُنْ إلا بحبلٍ أصحابُه شياطين الإنس , وقد صنعوا مِنْ تآلفِ القلوبِ عداوة . أجرمَتْ قياداتٌ وتمادتْ وتعالتْ أصواتُها ب ( الوحدةُ أو الموت ) فلم يحقِّقوا وحدةً ولم يمُوتوا , بلْ مكثُوا جاثمين على الصدُور يأكلون الطعامَ ويمشُون في الأسواق , كلٌّ يتَّهمُ الآخر ولمْ نرَ عقاباً إلا على الشعبِ المغلوبِ على أمرِه . إِنْ كانتْ الوحدةُ نجاحاً فأين ثمرةُ الانجاز ؟ وإِنْ كانَ الانفصالُ جريمةً فأينَ مَن أعادَ وضع بذرتَه وسقاها في القلوب ؟ وأينَ منْ أجرمَ بالتخطيطِ لهُ و إعلانِه ؟ الجناةُ على منصَّةِ القَضَاء , والضحايا يدفَعُونَ ثمنَ براءَتَهم بمعانقةَ أقسَى أنواعِ العذاب , حُرِمُوا تتويجَ إنجازٍ هُمْ أصحابُه , وَعُوقِبُوا على جرائمَ هُمْ أوَّلُ ضحَايَاها , وتنوَّعتْ مصائرُ أصحابِ القرار بينَ الحصانةِ القضائيَّة واللجوءِ السياسي أو العودةِ إلى سدةِ الحكم على حِلَّةٍ جديدة وفي ثوبٍ جديد . سيبقى مفهومُ ( التابع ) سيِّدا في قلوبِ أبناءِ الجنوب في ظروفٍ لم يرَ فيها أوهنَ خيوطٍ لمفهومِ ( الشريك ) , وشجرةُ الانفصالِ قدْ نمتْ وغارتْ جذورُها وتفرَّعتْ , وقد آتت أكلها بعد أن تغذَّتْ بواقعِ سحقِ الكرامة والظلمِ وسلبِ الثروات فامتلأتْ الساحاتُ , وأصبح لابدَّ مما لمْ يكُنْ مِنهُ بُد . الآلة الحربيَّة لا تستطيع أن تصُد معتقداً تضخُّه القلوب ويسري في العروق , وقد آنَ الأوان لأَنْ نعترف بأن الوحدة جنينٌ مشوَّهٌ أنجبتهُ ثوراتٌ لمْ نرَ جمالَها إلا على صفحاتِ تاريخٍ قبيح , والباطلُ هو ما بُنِي على باطل وسيبقى الحقُّ هو الأحقُّ بأنْ يتَّبَع . لمْ تعُد لسلعة مغالاة المغالين سُوقاً ولمْ يعُدْ للكَذَبِ وللخداعِ سُوق , و آنَ الأوانُ لمن نسوا أنفسَهُم أن ينتهوا مِنْ أنْ يَأمرُوا الناسَ بالبر, ولتبقى الأوس أوس ولتبقى كما هي الخزرج إنْ لمْ ينصهرْ اتحادُهما ليشكِّل قالبا ل ( أنصار ) فلا خيرَ في تلاحمٍ شكليٍّ مصيرُه الانكسار كتلاحمِ كفَّارِ قريش . أقصروها ما دامَ تطويلُها باعثاً للفتنة ولا تجعلُوا من الوحدةِ صلاةً تطُول وتشتِّتُ الخشوع , فتكونوا عرضةً لاستفهام العتابِ والتوبيخِ ( أفتَّانٌ أنتَ يا مُعاذ ) . لو انتصرَ الجنوبيُّون في حربِ صيف العام 1994م لرأينا حركات المطالبة بالانفصال واستعادة الدولة من نصيب الشماليِّين حتَّى و إنْ رأوا من الواقع ما ينبئ برغدٍ في العيشِ وعدالةٍ أو مساواةٍ في التعامُل , فقط لأنَّ المسألةَ هي انتزاعٌ للكرامةِ قبلَ أن تكونَ انتزاعاً للثرواتِ و الحقوق . شاءَ القدر أنْ يكونَ النصرُ للفئة الكثيرة وبقِيتْ الفئةُ القليلة تنحتُ في الصخر وتَصدحُ بأعلى صوتِها الضعيف , أعِيدوا لهمْ دنيَاهمْ و إنْ كانتْ متاعاً للغرور, فلا حاجةَ لَهُمْ بجنَّتكم المزعومة وإنْ زُيِّنت لهم , فالشارعُ في الجنوب قد قرَّر أن يرفضَ جنَّاتكم بغيرِ كرامة , وقرَّر أن يَستَعيدَ دنياهُ حتَّى و إِنْ كانَتْ طريقُ استعادتِهَا ستمُرُّ بلفحاتٍ على منعطفاتِ نيرانِ السعير .