الحمد لله وحده، وبعد: في ذي الحجة من العام الماضي ألقيتُ درسًا في مسجدٍ من مساجد حارتي، كان الدرس عن موضوع "الأضحية". حاولت فيه جاهدًا حث الناس على أداء هذه الشعيرة العظيمة، قلتُ لهم مما قلتُ:"نحن في مجتمعٍ الغالب على أهله أن يذبحوا في العيد، فما بقي إلا النية يتمايز بها الناس"، وحتى أقطع عنهم بعض حجج الشيطان قلت لهم:" بعض الناس يظن أنه يجب عليه تثليث الأضحية، فيأكل ثلثًا ويتصدق بثلثٍ ويهدي ثلثًا، والصحيح أن هذا سنة وليس بواجب، فلو أخرج أحدكم ما يسمى لحمًا قلَّ أو كثر جاز" وبعد انتهائي من الدرس أجتمع حولي الناس يسألونني عما أشكل عليهم في درسي، فحولت في هذه الجلسة –أيضًا- التأكيد على ما أكدت عليه في سابقًا من أنه يكفي في الأضحية أقل ما يسمى لحمًا المهم النية، فما راعني إلا قيام الناس من مجلسي وهم يقولون: الذي معنا يا الله يكفينا وعيالنا، والأضحية حق الأغنياء. حزنت كثيرًا لذلك وقلتُ: لعلي لم أوصل المعلومة بشكلٍ جيد. ثم انتقلت إلى مسجدٍ آخر وألقيت فيه نفس الدرس مع زيادة ذكرِ ما جرى لي مع أصحاب المسجد الأول بدون ذكر اسمه، فما شعرتُ إلا وأنا اسمع نفس الكلام الذي سمعته في المسجد الأول يتردد بين الحضور، فعرفت حينها أننا في مجتمع يتعامل مع الإرشاد والتذكير على منهج "مش عليَّ". مش عليّ ليست مجرد عبارة يترنم بها بعض الناس، بل هي منهج حياة عند كثيرٍ منهم، فمش عليّ ما سمعته اليوم في إذاعة القرآن الكريم من آيات تحث على كذا أو تنهى عن غيره، ومش عليّ ما قاله خطيب الجمعة من تحذير من الظاهر الفلانية، ومش عليّ إصلاح ذات البين، ولا السعي في حل أزمات البلاد، بل مش عليّ حتى صوت أبي الذي ينادي: يابني تعال ساعدني، إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا تكاد تحصر. وللأسف الشديد أن هذه العبارة صارت ديدن الجميع شبابًا وشيبًا يقولونه إما بلسان مقالهم أو بلسان الحال، وليس العجب من صدورها من الشيوخ فهم إلى السكون أميل، إلا أن استمراء الشباب لها له العجب العجاب، وهنا تحضرني صورة ذلك الشاب الذي أتاني بعد أن خطبتُ الجمعة في مسجد حيِّه، وكان ذلك إبان حادثت "شامبيون 1″، وكان مجموعة من المثقفين قد ناشدوا خطباء المساجد دعوة الناس للخروج في وقفة سلمية حضارية للتنديد بمعالجات الدولة الفاترة لتلك القضية، وليوصلوا رسالة مفادها "مصادر أقواتنا خط أحمر"، فاستجبتُ لذلك النداء، فقال لي هذا الشاب: يا أبا محمد وماذا أستفيد من البحر حتى أخرج في هذه الوقفة، أنت تعرف أن الصيد غالي ولا يوجد ما يدعوني للخروج" طبعًا لم أناقشه في ذلك كثيرًا لأنني أعرف أنه متشربٌ لثقافة "مش عليّ". يُقال أن أسد الدين شاور كان قائد جيش المسلمين في معركة من المعارك ضد الصليبيين، في البداية مالت الكفة لصالح عُبَّاد الصليب فكاد أن يقع المحظور، فما كان من أسد الدين إلا أن خرج من على خيله ومرغ أنفه في التراب وصار يناجي ربه، ويقول: اللهم لا تهزم الجيش بذنبي، ثم انطلق ودخل المعركة فانتصر المسلمون -بإذن الله-. تخيل لو كان قائد الجيش أحد من رضعوا ثقافة المش عليّ لكان من السهل أن يلقي باللائمة على الجند أو الأوضاع الإقليمية أو المؤامرات الكونية، ولكانت النتيجة هزيمة نكراء. عندما قرأتُ قول طرفة بن العبد: "إذا قيل من فتى خلتُ أني عنيتُ ** فلم أكسل ولم أتبلدِ" قلتُ في نفسي كيف به لو أدرك زماننا؟ أظن أنكم توافقونني أنه كان سيموت كمدًا. دعنا نكون متفائلين قليلًا ونقول: أن مجتمعنا يريد أن يتغير فما السبيل إلى ذلك؟ الأمر بسيط جدًا وليس هو من باب المستحيلات، فما عليك إلا أن تفعل كما فعل شيخي أحمد بن حسن المعلم –حفظه الله- لما رأى ضعف حضور الطلاب في درسٍ من دروسه فقال لي: لعل هذا بسبب ضعف تحضير؟ إن شاء الله أحضر بشكل أفضل في الدروس القادمة –لله ما أشد تواضعه-، وأنت أيضًا حاول أن تلقي باللائمة على نفسك أولًا، ثم انظر أين موضع الخلل وحاول إصلاحه، وصدقني ستكسى حلت تحمل المسؤولية وتكون ديدن لك إذا تكلفتها مبدائيًا. أخيرًا حاول أن تقتل "مش عليّ" في نفسك، وساعد على قتلها مجتمعيًا؛ لنتمتع أنا وأنت والمجتمع بلذائذ تحمل المسؤولية.