أبو فيصل رجلٌ كبير في السن. يأتي إلى المقهى يوميًا ثلاث مرات، يملأ فنجان الشاي الخاص به، ثم يجلس بين أصحابه في دائرة كبيرة، يتبادلون أطراف الحديث السياسي. رأيته مرة وهو على ذلك الحال، يتكلم بثقة شديدة عن فشل الساسة الجنوبيين في تحقيق ما يصبوا إليه الشعب الجنوبي من فك الارتباط واستعادة الدولة، ثم دعَّم رأيه بما أشيع عن السيد عبدالرحمن الجفري من أن الحل هو فدرالية من إقليمين (شمال وجنوب) ثم يُستفتى الشعب بعد خمس سنوات على الانفصال، وهذا ما عده أبو فيصل تنكب عن طريق الثورة السوي، خصوصًا أننا كنا حينها في أجواء ثورية انتظارًا لما سيسفر عنه ال30 من نوفمبر. تأملت في حال أبي فيصل وأصحابه، ثم أخذت أسبح في ذاكرتي، أخذني التذكر إلى عام 2005م كنت حينها طالبٌ في الصف التاسع، كان مدرس مادة الاجتماعيات عندنا يكثر من الحديث في السياسة، وكنا نستمع إليه مندهشين، كيف يأتي بهذا الكلام كله؟! سألناه عن ذلك فقال: كل يوم خميس اجتمع مع مجموعة من كبار السن (أطباء ومدرسين و…) في مقهى من مقاهي المكلا نتبادل أطراف الحديث السياسي، وهذا ما أعطاني القدرة السياسية التي ترون. حينها انطبع في بالي أن المكان الذي تدرس فيه السياسة هو المقهى، وأن الطريقة التعليمية المتبعة فيه هي الحوار بين أطراف عدة. مضت الأيام وأنا انظر إلى السياسة بتلك النظرة، حتى جاء عام 2008م؟ نعم قصدي تاريخ الحرب الإسرائيلية على غزة (معركة الفرقان)، عندها بدأت أستمع إلى نشرات الأخبار –ولم أكن أطيقها قبل ذلك- وأشاهد اللقاءات التلفزيونية مع المسئولين الفلسطينيين، واستمع إلى حواراتهم، كان الذي يحركني لذلك هو دافع الرغبة في النصرة للقضية الفلسطينية، ومبدأ (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى منه عضو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، فكانت ساعات متابعتي الإخبارية لا تقل عن الست يوميًا، انتهت الحرب على غزة، وانتهت معها نظرتي إلى علاقة المقهى بالسياسة، وصرت عندها أظن في القنوات الإخبارية ما كنت أظنه في المقاهي، وعزز من ذلك الظن ما حصل بعد ذلك من أحداث الربيع العربي، والتغطية الإعلامية الدائمة لذلك الحدث، فصرفت في المتابعة يوميًا ساعات طويلة، ثم دخلت عالم مواقع التواصل الاجتماعي، فتتبعتُ صفحات المفكرين والكتاب من الشباب خاصةً، انظر لنتاجهم اليومي عليها، وكان أكثر من تابعتهم ينظرون إلى التغطية الإعلامية -التي تقوم بها القنوات الإخبارية- نظرت التخوين والاتهام بالتبعية للدول الممولة لها، والسير وفق أجنداتها، فساء ظني بالإعلام المرئي الإخباري، وصار معيني الأصلي في متابعة الأخبار وتحليها، هم أولئك الكتاب، الذي أظلتني وإياهم سماء العالم الأزرق (الفيسبوك). هنا بدأت أضحك، إذ أني تذكرتُ كتاب الدكتور جاسم سلطان "قواعد في الممارسة السياسية"، هذا الكتاب غير نظرتي إلى السياسة بشكل كامل، وعرفني الفرق بين المشاركة السياسية الواعية، واللاواعية وهي للأسف التي كنت أمارسها، والتي يمارسها كثير من الناس على المقاهي، وفي القنوات الإخبارية، وفي الصحف، والمجلات، ..إلخ باختصار هي سمة السياسة العصرية، وخاصة العربية منها. قبل أن اقرأ الكتاب كان يبهرني بعض السياسيين بتحليلاتهم للمواقف، وتفسيراتهم للأحداث، وتوقعاتهم لما ستؤول إليه الأمور، وبعد قراءته عرفت أن هذا يحسنه كل متابع جيدٍ للأخبار، أما المحك الحقيقي فهو فهم قواعد صناعة الحدث أي القواعد التي تحكم اللعبة السياسية، وهذا ما يميز السياسة الواعية عن شقيقتها اللاواعية. كانت قبل قراءتي للكتاب أعرف أن السياسة هي فن الممكن، لكن لم أكن أتصور أن حدود الإمكانية هي ما يفتح باب التنازلات المتبادلة، والتي غالبًا ما تفسر عندنا على أنها خيانة، وتنكص عن الطريق. كنت أنظر إلى السياسي بمنطق ما يجب عليه فعله، لا بمنطق الطاولة السياسية التي يقف عليها، والتي يهيأ هدفه لملاءمتها. كنت أنتقد الساسة كيف لم يقبلوا بهذه المكاسب، التي عُرضت عليهم؟ دون تفريقٍ مني بين الصلبة منها والهشة، باختصار كنت أمارس سياسة المقاهي. عندها عزمتُ على التغيير وأن أتعامل مع اللعبة السياسية بمنطق واعي، منطق يتابع الأحداث ويفهم قواعد صناعتها. منطق ينظر إلى دافع الفعل أكثر من نظره إلى الفعل نفسه، منطق لا يستحلب الحقيقة من أرحام الإعلام المضلل، ولا يلبس نظارة العم سام لرؤية الحقيقة الوحيدة التي يراد تدجينه بها. هذا المنطق نحتاج أن نتعلمه اليوم ونعلمه للناس، فنحن في زمن صارت السياسة فيه شأنًا عامًا، فلا بد إذًا من تهذيب ممارستها. ختامًا: أدعوك لقراءة الكتاب السابق، ثم ممارسة السياسة الواعية، حتى لا يكون كلامنا في السياسة هدرًا، ولا نستثمر من قبل أعدائنا.