كثيراً ما يحتاج الإنسان العربي، وفي مقدمته الفلسطيني الوطني القومي، العصامي والحر إلى الخلوة مع نفسه، علَّه يجد تفسيراً لما صعب عليه تفسيره أو فهمه، ولما أقلقه ويقلقه على طول هذه الحقبة من السنين التعيسة، المليئة بالمعاناة والشقاء والحرمان، إلى الكبت التربوي والعنف الديكتاتوري، التي لم نذكر على مداها أبداً أننا مررنا في مرحلة الطفولة، أو كنّا في يوم أطفالاً كباقي أطفال العالم، تُقام لهم حفلات الفرح والبهجة بمناسبة أعياد ميلادهم. لم نفرح يوماً بهدية أو بلعبة كباقي أطفال العالم، ولم نتذوق مرحلة المراهقة بما فيها من أحلام وأحاسيس وآمال، لأنها كانت عصيبة نظراً للوضع السياسي والاجتماعي والمالي الذي كان يعم أرجاء الوطن، مما أصَّل في نفوسنا الجدية المتناهية، والنرفزة الفورية إلى الخجل الفائض وكثير من العقد النفسية: (استيقظ أحد الإخوة في صبيحة ذلك اليوم متجهماً، يائساً وبائساً، وبعد أن لبس، لم يجد مكاناً يقصده، فقرر الذهاب إلى المقبرة علَّه يشعر بأنه أفضل من أولئك الذين طواهم التراب. وحين تجواله لاحظ أن عمر كل الأموات لا يتوافق حسابياً حسب يوم الولادة إلى يوم الوفاة، مما دعاه للاستغراب، فذهب قاصداً الحارس المسؤول عن المقبرة سائلاً إياه: هل تستطيع أن تفسر لي ما القصد بعدم كتابة السنين الصحيحة، التي عاشها كل من الأموات، فهنا مثلاً، كما ترى، أن هذا الشخص ولد عام 1949 وتوفي عام 1994، وعاش فقط 12 من عمره، فرد عليه حارس المقبرة: في هذه المقبرة ندون فقط السنين السعيدة التي عاشها الميت. هنا، صفن الرجل الفلسطيني الكهل البائس، ثم قال للحارس "أوصيك وأرجو أن تكتب على قبري: "أخوك أحمد جبر، من ... ... أمه إلى القبر". لقد قال أحمد جبر رحمه الله الحقيقة المرة. الأغلبية من أبناء فلسطين المتمسكون بالثوابت والانتماء، والمتميزون بثقافتهم العالية، من تعليمية إلى سياسية وحتى الخلقية، سواء كان الصامدون منهم على أرض الآباء أو ممن أُجبروا على ترك الوطن تحت التهديد والوعيد، أو ممن فاجأتهم نكسة أل 67 وهم يُحصّلون العلم والمعرفة، ومنعهم العدو المحتل من العودة إلى الوطن، محولاً إياهم بين ليلة وضحاها إلى لاجئين. هذه الأغلبية، ومع الزمن الطويل ولكثرة المآزق والشدائد والصعاب والمعاناة والحاجة الماسة، اكتسبت صفات وطباع ميَّزتها عن باقي أبناء محيطها الإقليمي، ذكرها الكاتب الروائي الفلسطيني القدير الأخ رشاد أبوشاور، في مقاله "كيف تعرف الفلسطيني"؟ يحمل هذا المقال بلاغة الوصف والتعبير بالطرافة، ويشح اليوم من يستطيع أن يكتب هكذا. وسنسرد بعض ما جاء فيه: "إذا ما شاهدت شخصا يسير وحيدا في الشارع يكلّم نفسه، وسماته متوترة، غاضبة، محتجّة، محزونة..الخ، فاعلم أنه فلسطيني، وليس مجنونا، لأنه ( في حاله)، لا يعتدي عليك، ولا يتهدد حياتك، وعيناه تنظران في داخله، وليس شزرا إليك، وهو يحمل هموما فوق طاقة البشر، ولذا فهو يكلّم نفسه محتجا على عالم لا يصغي له، وهو سبب تلك الهموم والمشاكل والرزايا. وفي جلسات حوار فاكهانيّة، توصلت مع بعض الأصدقاء إلى أنك ستتعرّف إلى مضيّفك، وتحدد فلسطينيّته، حتى لو لم تكن لديك فكرة عن انتمائه من قبل، إذا ما أحضر لك الشاي بالميرميّة شتاءً وصيفا، فالميرميّة عند الفلسطيني لا تطيّب مذاق الشاي وحسب، بل إنها مفيدة للمعدة، والتنفس، وللضغط، وللأعصاب.. والحقيقة إن رائحتها ( تُعيد) الفلسطيني إلى قريته، وبلدته، وأسرته التي لم يرها منذ أعوام طالت، ثمّ إنها تدّل على ( الهويّة) والانتماء.. رغم أن الميرميّة متوفرة في سورية، ولبنان، والأردن، وليست حكرا على فلسطين. عندما تكون في جلسة، ويقف أحدهم ويعرض عليكم صادقا الدعوة للغداء، على مسخّن بالزيت، والخبز المشروح والكثير من البصل المحمّر.. فاعلم أنه فلسطيني. إذا دخلت بيتا ولفت انتباهك وفرة حقائب كثيرة، في الصالون، والمطبخ، والممرات، فاعلم أن ( الساكن) في المكان فلسطيني لأنه متهيئ دائما للرحيل، والحقائب لزوم حشوها بالملابس، أمّا ما تراه من عفش وفرش وأدوات كهربائيّة فستباع برخص التراب، أو يتركها للأصدقاء، فالفلسطيني ينتسب لابن بطوطة قسرا واضطرارا، لا رغبة، وترفا. إذا سمعت شخصا يقول بأنه استلف من مصروف البيت مبلغا، أي من أم العيال، فاعرف أنه فلسطيني، لأن الفلسطيني يترك كل شيء مع الزوجة، فهو غالبا، كائن مهدد بالتسفير، أو الاعتقال، أو..ما لا يخطر ببال، بل إنه- أي الفلسطيني - يسجّل غالبا، إلاّ ما ندر، ممتلكاته، متواضعة، أو نفيسة، باسم الزوجة، كونه مرشح للموت، للاستشهاد، للاغتيال، للطرد من حيث يقيم، فهو دائما منشغل البال بأم العيال والأبناء والبنات، ويعمل على تأمينهم وفقا للمثل: القرش الأسود لليوم الأبيض، وأيام الفلسطيني سوداء دائما، ونادرا ما تكون رماديّة، ورماديتها لا تفرق عن السواد سوى في الدرجة. الفلسطيني كائن قلق، غير مستقّر، وهذا ليس في طبيعته، ولكنه نتيجة للنكبات والمصائب، والمذابح، والمطاردات، والتسريح التعسفي، و..هو كخبز الشعير مأكول مذموم. الفلسطيني كائن مُعمّر، ففي كل بلاد العرب له دور، ولكنه بلا ( دور)، فهو كسنمّار، جزاؤه معّد قبل قيامه بالبناء، وكل ما يحصل عليه يعتبر تفضّلا، علما أنه يعطي، وغالبا لا يأخذ، وما يأخذه لا يدوم، فقد يسحب منه، وقد يطرد منه، و..ذلك حفاظا على حقوقه، ودعما له، وحرصا عليه! الفلسطيني ملاحق في وثيقة، أو جواز، تسهّل سفره، وتمكّن أبناءه من العمل، والدراسة، والزواج، وسياقة السيّارة.. وهكذا فالفلسطيني خطر على الأمن الوطني، والقومي! الفلسطيني كائن مشبوه في المطارات العربيّة، حتى لو كان يحمل جواز سفر مضبوطا، غير مزوّر.. وموظفو المطارات والحدود البريّة والبحريّة مدربون على شمّ رائحته، وتمييز سحنته من بين سحن مواطني العالم، ولذا يعاد من حيث أتى، أو يزّج به في سجن المطار، أو يرمى به على كراسي المطار ليقضي بضعة أيام دون سين أو جيم، وقد يفرض عليه النوم في غرفة في فندق المطار بالعملة الصعبة كما لو أنه سائح، رغم أنه يتنقّل في العالم بحثا عن أي عملة سهلة تساعده في تربية أبنائه، وصون كرامة أسرته!"
بعد القراءة الشيقة لمقال الأخ الكاتب الروائي الكبير والناقد رشاد أبو شاور، جاءت على ذاكرتي عدة تساؤلات: إذا كانت هذه حالة الفلسطيني المُبَروَز داخل إطار الشبهة والاتهام والملاحقة، فكيف نفسر ونفهم ما يجري على الساحة الفلسطينية من الصراع والانشقاق والحقد والكره، بدلاً من التآلف والوحدة والمحبة والتسامح، للوقوف صفوفاً متراصة كسد منيع أمام مشاريع دولة الاحتلال والاستيطان والتهويد لمجابهتها وحماتها وكل أعوانها وعملائها من دعاة الاستسلام والتنازلات. ماذا جرى للفلسطيني الذي كان مثلاً حياً لكل القوى التحررية الممناضلة في العالم؟ ماذا جرى لكثير من الفلسطينيين ليفقدوا على المسار وبهذه السرعة كل القيم والعادات والتقاليد، يخذل من وثق به ويطعن من أعانه، وأصبحت تتفوق عليه ثقافة الرّياء بدلاً من الكبرياء؟ ماذا جرى للفلسطيني ليحول ثورته وصرخته ونقمته من أجل تحرير الوطن إلى ثورة جياع؟ ماذا جرى للفلسطيني، المثل الأعلى في الخلق والعمل والوفاء، ليتحول إلى جُندب يزاول رياضة القفز ليسرق عمل الآخرين وليستأثر بالمراكز والمناصب (ضرورة هيكلية) بدون أي جهد أو عمل أو تضحية؟ رغم هذا وذلك، فما زالت هناك أغلبية من شعبنا المعطاء المتمسك بهويته وانتمائه وقِيَمه وعاداته في الوطن والشتات كفيل بتصحيح المسار وإعلاء راية الوحدة من أجل النضال وتعبيد الطريق لعودة الملايين من اللاجئين وإقامة دولة فلسطين العروبة الديمقراطية.