ثلاث سنوات عجاف كانت كفيلة بتغير مذاق ثورات الربيع العربي الحلو إلي طعم الحنظل غير المحتمل, هذه الأعوام الثلاثة حولت الأحلام والتطلعات العريضة في شتي النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلي كوابيس مفزعة تطارد شعوب هذه البلدان, وعكرت صفو حياتها, وألقت بظلال كثيفة من الشك والريبة علي المستقبل وآفاقه. فحينما انطلقت ثورات الربيع العربي من تونس في نهاية2010, ثم امتدت سريعا إلي مصر وليبيا واليمنوسوريا, كان الناس يتوقون للحرية, والعدالة الاجتماعية, ورغيف خبز, والحكم الرشيد وما يصاحبه من آليات ديمقراطية تضمن تداول السلطة وعدم سيطرة جماعة أو تيار بعينه علي مقاليدها يوجهها حيثما اشتهي. تلك كانت الآمال التي امتلكت عقول وأفئدة الثائرين والثائرات في وطننا العربي, فماذا ياتري حصدوا وهم يستعدون لاستقبال العام الرابع من ثوراتهم؟ بمعيار المكسب والخسارة فإن الشعوب الثائرة استفاقت من سكونها, وانبطاحها, وخنوعها, وحطمت أسوار الخوف التي حبست فيها لعقود متتالية, بسبب تسلط أنظمة وزعامات ديكتاتورية قمعتها وتعاملت معها بقسوة, ولم تكن تقبل سوي بالولاء الكامل للجالس علي قمة النظام وليس للوطن ومصلحته. فالثورة أسقطت أنظمة لم يكن احد يتصور أنها ستنهار وتتساقط كأوراق الشجر في الخريف, فرحل زين العابدين بن علي, وحسني مبارك, وعلي عبد الله صالح, والعقيد معمر القذافي, بينما لا يزال جزار دمشق بشار الأسد يقاوم حتي الرمق الأخير, خوفا من مصير هؤلاء القادة, وأن تفقد عائلته حكم سوريا الذي ورثه عن أبيه. لكن يقظة الشعوب من سباتها العميق ترافق معه انفلات سلوكي بدت مظاهره واضحة جلية في التعدي علي أملاك الدولة وعدم احترام القانون, وشيوع البلطجة, فالمشكلة أن الكثيرين من مواطني دول الربيع العربي استحوذ عليهم الغرور والتمرد علي أي شكل من أشكال الطاعة للدولة ومؤسساتها, واعتبروا ذلك ضرورة من ضرورات الحالة الثورية, رغم أنه كان من المأمول أن يتم استثمار عودة الأوطان ومقدراتها لأصحابها من الكادحين والمطحونين الذين كان عليهم حمايتها والمحافظة عليها وليس التعاطي معها باعتبارها غنيمة يجري توزيعها تبعا لقوة شكيمتك وما تحت يدك من أسلحة تباع وتشتري في أسواق المدينة مثلها مثل الخضار والفاكهة, فهي متوافرة لمن لديه ثمنها. ذاك الشق يقودنا للحديث عن الحصاد المر للثورات العربية, والذي يوضح جليا أن كفة ميزان الخسائر كانت أرجح بمراحل من ميزان المكاسب علي الأقل حتي هذه اللحظة. فعلي المستوي الاقتصادي لم يتحسن الوضع بالنسبة للمواطن العادي الذي لم يحس بتحول لافت يمنحه الأمل في أن ظروفه وأحواله المعيشية سوف تنتعش وتتناسب مع القفزات السريعة في الأسعار, وإذا تفحصت خريطة البلدان الثائرة سوف تتوصل إلي أن احد الأسباب الرئيسية الدافعة للثورة وهو الوضع الاقتصادي المتردي لم يتمكن من بيدهم القرار من علاجه, بل أن الحال يزداد سوءا بدليل العدد المتزايد للاحتجاجات الفئوية, ودعوات زيادة المرتبات, والضغط بتعطيل العمل في مواقع الإنتاج للحصول علي المرتبات والمكافآت المقررة. ففي تونس حيث اندلعت الشرارة الأولي للثورة, عقب إشعال بو عزيزي النار في نفسه, يظل الوضع كما هو, بل أن كثيرا من الشباب التونسي حاولوا احراق أنفسهم لفشلهم في الصمود في وجه مطالب الحياة, وكذلك في مصر وليبيا. الأخطر أن أعداد المهمشين والمحرومين اقتصاديا يزيدون يوما بعد يوم, ويستغلون كوقود لتأجيج الأوضاع الداخلية, ويمثلون قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت, فهناك تحذيرات ومخاوف متصاعدة من حدوث ثورة جياع, خصوصا في مصر. واضطرت هذه الدول للاعتماد علي المنح والقروض من الخارج, حتي لا تعلن إفلاسها مع تراجع معدلات النمو الاقتصادي, وخفض التصنيف الائتماني لها, وشكوك المؤسسات والهيئات الدولية في استطاعة هذه البلاد الوفاء بالتزاماتها المالية. كما أن الفوضي شاعت بصورة مخيفة هددت أمن واستقرار تلك الدول, بسبب تنازع الثوار والمعارضين علي الغنائم, وتقديم المصالح الفردية والحزبية علي الوطنية, وكانت النتيجة عدم نجاحها في إقامة أنظمة بديلة قادرة علي إشعار المواطن بالأمان, ووضع رؤية محددة المعالم والخطوط لبناء مستقبل أفضل. سياسيا كانت السمة الغالبة هي عدم اتفاق القوي والأحزاب المؤسسة بعد ثورات الربيع العربي علي شكل الحكم والحكومة, وتأمل مثلا ما حدث ويحدث في مصر قبل وبعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي. فعقب رحيل مبارك اختلف الثوار وتناحروا ولا يزالون , نظرا لغياب القيادة القادرة علي تجميع الخيوط في اتجاه يخدم البلاد ويحقق ما يصبو إليه الشعب, نفس الآفة ستجدها في تونس والي حد بعيد في اليمن. الفوضي كانت في مجملها إحدي تجليات ظاهرة أنكي وأفدح تتعلق بمخطط هدم مؤسسات الدولة, ففي ليبيا لم تعد توجد دولة فقد استبدلت بمليشيات مسلحة تسيطر علي مناطق غنية بالنفط, وتحولت ليبيا لموطن خطر علي الجيران, لأنها تعد مصدرا أساسيا لتهريب الأسلحة الثقيلة والخفيفة لجماعات إرهابية في مصر وتونسواليمن وغيرها. وبلغ الأمر من السوء والتردي أنه تم اختطاف رئيس الوزراء علي زيدان لعدة ساعات من قبل فصائل معارضة لحكومته, وبات من الصعب العثور علي دلائل تؤكد أن الدولة الليبية موجودة وعندها المقدرة علي لململة الأشلاء المبعثرة. ولا يقل خطرا عما سبق أن جزءا من الحصاد المر للربيع العربي ارتبط بصعود التيار الإسلامي الذي كان البديل الجاهز للأنظمة المنهارة مع أنه لم يكن مشاركا في الثورة, مكتفيا بمتابعة مجرياتها, وعندما انتصرت الإرادة الشعبية وجدها فرصة ذهبية للقفز عليها للوصول للسلطة. وفي البدايات لقي هذا التيار الترحيب من الناس الذين وضعوا في اعتبارهم أنه كان مضطهدا من مبارك والقذافي وزين العابدين وعلي عبد الله صالح, وأنهم سيكون أكثر رحمة ورأفة بهم من سابقيهم. غير أن أملهم خاب في هذا التيار الذي سعي لتلوين النظام السياسي والقانوني والاجتماعي بألوانه المفضلة ووفقا لتصوراته عن استعادة أمجاد الخلافة الإسلامية, وشاهدنا في مصر التجربة القصيرة لجماعة الإخوان التي بذلت جهودا جبارة لأخونة مؤسسات الدولة, واحتضان عناصر إرهابية وتكفيرية كسند لها يهب لمساعدتها وقت الحاجة والشدة, مثلما نري الآن. والحصيلة كانت توفير مساحات شاسعة صال وجال فيها المتطرفون الذين كانوا سببا في تقسيم المجتمع بين مؤمن وكافر, فمن يؤيدهم من المؤمنين الأخيار, أما من يعارضهم فهو من الفرقة الضالة الكافرة. وأصبحت أصوات المتطرفين عالية ويهددون كيان الدولة, ولدينا ما يفعله تنظيم القاعدة في اليمن الذي لا يكف عن شن هجمات علي قوات الشرطة والجيش رغبة منه في تأسيس إمارة في هذه البلد, وتابع ما يرتكبه المنتمون لحركة داعش في سوريا من جرائم تقشعر لها الأبدان وتتنافي مع أبسط مبادئ وقواعد الدين الحنيف الذي يزعمون زورا وبهتانا رفعهم رايته وإعلاء شأنه. وبالتالي تصاعدت المخاوف في الغرب والولاياتالمتحدة, وبعدما كانت الثورات العربية ملهمة ومحل افتخار وإشادة باتت باعثة علي القلق والهلع, جراء ما تمخض عنها من إفساح المجال لنمو التطرف الديني, وكانت من بين مظاهره وشواهده إعلان الحرب بين السنة والشيعة. ففي الوقت الذي برز فيه الإسلاميون زادت نغمة التحذير من التشيع, وأنه لابد وحتما من القضاء علي المذهب الشيعي ومن يروج له, ووقعت سجالات ومشاحنات أفضت لقتل بعض معتنقي المذهب الشيعي. المتطرفون لم يكتفوا بإثارة الفتن والانقسامات, لكنهم لجئوا للإرهاب, ولعل مصر النموذج الصارخ الدال علي هذه الحقيقة حاليا, فهي تخوض معركة مصيرية ضد جماعات الإرهاب, وأيضا تونس, فبحكم أن الإخوان كانوا الفئة الأكثر استفادة من الربيع العربي الذي أوصلهم لسدة الرئاسة فإنهم قرروا السير علي طريق العنف والإرهاب لاسترداد السلطة. إذن فالمعادلة القائمة مكونة من تدهور اقتصادي, وتشرذم وانقسام المجتمع, وتطرف ديني, وبالتبعية فقد خسرت الشعوب استقلالية قرارها السياسي, الذي كان من بين الأهداف السامية للثورة, لأنها أصبحت عرضة للتدخلات الخارجية, خاصة مع استعانة بعض الأطراف الداخلية بالخارج في صراعها مع بقية الفصائل المكتظة بها الساحة لترجيح كفتها في الصراع علي المنافع والمغانم. وتعتبر الولاياتالمتحدة المستفيد الأكبر من تخبط وتعثر الربيع العربي, فأصحابها هم من طالبوا بتدخلها مع تأكدهم من أن واشنطن أعدت خطة آثمة شريرة لتفتت الشرق الأوسط لدويلات صغيرة لا حول لها ولا قوة ويسهل التلاعب بها وتوظيفها في اتجاهات تلبي المصالح الأمريكية ومعها الإسرائيلية بالطبع. وبالمناسبة فإن إسرائيل كانت من بين الذين استفادوا بشدة من الربيع العربي, ففي البدايات خشيت تل أبيب من أن استيقاظ العرب وسعيهم لانتهاج الديمقراطية سيعطيهم قوة وصلابة في مواجهتها, لا سيما أن الوافدين الجدد الثوار لم يتم تدجينهم لا من جانبها ولا من جانب الحليف الأمريكي, وهو ما سيمنح زخما للفلسطينيين وجهدهم في بلوغ حل عادل لقضيتهم. لكن التطورات علي الأرض جعلت إسرائيل تشعر بارتياح غير مسبوق, فهي في نظر الغرب لا تزال الواحة الديمقراطية في المنطقة, وأن العرب غير جديرين بالديمقراطية ولا يعرفون كيفية إقرارها, بناء عليه لم تراع البلدان العربية وراحت تبني مزيدا من المستوطنات, وتعتدي علي المسجد الأقصي بسماحها للمستوطنين بتدنيس واستباحة باحاته يوميا بدون اعتبار لرد فعل من المحيطين بها, وكيف سيصدر عنهم رد فعل يعتد به وهم غارقون في مشكلاتهم ومتاعبهم المتكاثرة, ولم تعد إسرائيل الخطر المحدق بالعرب, فالأخطار القادمة من الداخل مستحوذة علي تركيزهم, وتغافلوا عن عدوهم اللدود الذي يتابع بسعادة وسرور تعثر مسيرة الربيع العربي.