عندما يكون لدى أحدهم ما يقوله، بإمكاننا دائماً أن نصيخ السمع. لن يستغرق الأمر الكثير على أية حال. ه ا مأرب، وهي المحافظة الشرقية الموغلة في القدم، المدرة للنفط، تقول شي ئاً فائق البلاغة: إنها الآن تنبض حراكاً مدنياً طليعياً فتياً، بعدما كانت تنبض باروداً كلما التهمها بحر النسيان اللانهائي. فلكياً، تبدأ الشمس رحلتها من الشرق. لكن في عوالم السياسة لا يكون في مكنتها ذلك، فليس ذلك حتمياً دوماً. لقد طلعت الشمس هذه المرة من الجنوب، وقبل أن تحط رحالها في الشمال، كان عليها أن تعرج على الشرق لبعض الوقت. تمر الحرب فتخلف في الرؤوس قنابل لم تنفجر، والعبارة للشاعر اللبناني عباس بيضون. وفيما لو اخترنا تبسيط الأمور، فلا بد أننا سنجد أن حراك الجنوب لا يتجاوز كونه قنابل حرب صيف 94 التي أخذ الزمن يفجرها الواحدة تلو الأخرى. في جذور احتجاجات مأرب هناك ما هو مختلف. في صيف 1998، حين أقرت الحكومة جرعة سعرية جديدة، اضطربت معظم المحافظات. وإذ لم يكن من السهل كبح جماح الغضب العارم في مأرب، فقد تحول الاضطراب إلى حرب شرسة بين قبيلة الجدعان من جهة والجيش (الحرس الجمهوري) من جهة أخرى، الذي انهارت وحداته تحت ضربات القبائل. ما يزال بعض القبائل هناك يتذكرون سجائر "فلتمان"، وهو الوصف الذي أطلقوه على الحرس الجمهوري كناية عن هشاشته. كانت القبائل قد كسبت الكثير من النقاط في النزالات البرية، غير أن قاصمة الظهر هبطت على رؤوسهم من الجو. ولقد تعرضت القرى لقصف ساحق بالطائرات. (لم أتمكن من العثور على إحصائية للخسائر من الطرفين). في ذلك الصيف الدامي، نبتت النواة الأولى. عامذاك تأسس تحالف قبائل مأرب والجوف. وهو -كما يعرف نفسه- كيان قبائلي نشأ لرد المظالم والتحرك لوقف الحرب (آنذاك)، إلا أنه لم يتمأسس بعد. كان المناخ السياسي مغايراً تماماً لماهو عليه الآن. لهذا كانت نبرة التحالف خافتة بعض الشيء. مساء الأحد، تحدث ل"المصدر" الشيخ علوي الباشا بن زبع -أمين عام التحالف من القاهرة- عن الدور الذي يضطلع به الكيان القبلي الضخم: "التحالف قام أصلاً لتوحيد كلمتنا، ومن أجل الدفاع عن كرامتنا ونصرة المظلوم، وتحت هذه الأخيرة تأتي الجرع السعرية في المقدمة، والتي جاء التحالف على خلفيتها عندما تأسس في 1998، بعد أيام من المواجهات التي حصلت بين المواطنين في مأرب والجوف وبين بعض قوى الجيش". وعلى الرغم من ضراوة أحداث يونيو 1998، إلا أنها لم تحظ بالتوثيق والتأرخة. يقول بن زبع: "كان تصرف بعض الضباط هو الذي فجر الموقف، ولم يكن أي مواطن يرغب في مواجهة الدولة، ولدينا مقولة شهيرة: "حرب القبيلي على الدولة محال"، لكن إذا أوصلته الدولة إلى طريق مسدود فإنه على استعداد أن يسقط كل الحسابات. وأفضل الطرق لترويض القبائل هو عدم إيصالهم إلى طريق مسدودة". قبل بضعة أشهر، نشرت بعض وسائل الإعلام معلومات عن مساعٍ حثيثة لإقامة حلف قبلي واسع النطاق، يضم قبائل من مأرب والجوف وشبوة والبيضاء وأبين. وبحسب المعلومات، فإن من شأن هذا الحلف ربط شمال الشمال بجنوب الجنوب. الشيخ علوي الباشا أكد تلك المعلومات. وقال ل"المصدر": "بالفعل الفكرة جدية، وربما تطورت أكثر مما كانت عليه، هناك تطورات على الساحة الوطنية طرأت، وتفاهمات قبلية استجدت، مشجعة جداً، قد تنقل هذه الفكرة نقلة نوعية أكثر من السقف الذي تحدثنا عنه إلى سقف أعلى". وزاد مستطرداً: "لا تستعجل الأمر، ستعرفونه في حينه، عندنا يا سيدي في التفاهمات القبلية لا داعي للسبق الصحفي أو التسويات لأنها ستضر أكثر مما تنفع، لندع الإجابة لوقتها، من يدري ربما أن من يجيبك على هذا السؤال يومها شخص آخر". ومهما كان الأمر، فالأحلاف القبلية أياً تكن ليست أكثر من ترميز جوهري لهشاشة وضمور شكل مشروع الدولة وأدائها الوظيفي. عند كل دورة ارتفاع سعري تنتفض مأرب كالملدوغ. فهي قد تستطيع غض الطرف عن أي شيء، إلا أن تظمأ على حافة البئر. وحينما رفعت الحكومة الدعم عن المشتقات النفطية في 2005، كان لقبائل مأرب ما تفعله. فبعد أن أحكمت الخناق على طرق صادرات النفط، أنصت الرئيس لمطالبهم. ولقد تمخض عن حركتهم تلك خفض سعر الديزل. إلى نهاية العام الفائت، ظلت الخيارات السياسية المدنية في طور التخلق. وفي حين يبدو أن انخراط القبائل في الأحزاب لم يفت في عضد الخارطة الاجتماعية لمأرب، فإن مرد ذلك هو أن نظام الحكم لا يكف عن تقويض أي شيء يسفر عن تلك الخيارات، الأمر الذي أصاب المأربيين بالقنوط، وجعلتهم يلوذون بانتماءاتهم القديمة. في 20/11/2007 تبلورت أول بنية مدنية خارج الأطر الحزبية، التي يتضاءل بريقها في مقابل بريق الأطر التقليدية. فقد تأسس يومذاك "ملتقى أبناء مأرب". وطبقاً لوثائق إشهار الملتقى الذي يرأسه الشيخ علي ناجي الصلاحي، ويضم قائمة كبيرة من المشايخ والسياسيين، فإن الانتظام في كيان كهذا جاء لرفع مصفوفة مطالب قوامها 22 نقطة. الشيخ محمد الزايدي -شيخ قبيلة جهم- أحد الشخصيات الأكثر تأثيراً في الملتقى. وقد قال في حديث ل"المصدر" إن الملتقى: "عبارة عن حركة شعبية تشارك فيها كل القوى السياسية ومن المستقلين، اجتمعت على قواسم مشتركة أهمها الحركة التنموية في المحافظة". في بادئ الأمر كانت المطالب مكونة من 12 نقطة، لكنها توسعت حتى غدت 22 نقطة. الملفت أن المطالب السياسية احتلت مساحة جيدة في خطاب الملتقى. ويبدو أن نقطتين من بين المصفوفة تتخذان طابعاً سياسياً حساساً: المطالبة ب10% من عائدات النفط، ورفع المعسكرات عن القرى الآهلة بالسكان. فيما يتعلق بالجيش يقول الزايدي، وهو الذي استقبل الشيخ حميد الأحمر في 9 من الفائت ب21 طلقة: "لا بد من إبعاد الجيش من المشاركة في الانتخابات البرلمانية والمحلية، لأن عدده يفوق سكان المحافظة التي تتكون فقط من 3 دوائر، وألا تضاف دوائر ويسمح له بالمشاركة". وتابع الزايدي بنبرة غاضبة جداً: "الجيش هم حماة الوطن، لكن بالنسبة لنا تضررنا من تواجده. تضرر المواطنين من بعض التصرفات الهمجية، مثل القصف العشوائي للقرى وهدم المنازل، وقتل الأبرياء، وتشريد النساء تحت أبسط الذرائع". كالعادة، الجهاز العسكري هو النشط على الدوام في البلد برمته. يقول الزايدي: "مأرب معبأة بالجيش، عندي في مديرية صرواح وحدها 62 موقعاً عسكرياً". نهاية الشهر الفائت دعا الملتقى أبناء محافظة مأرب. إلى حزم أمتعتهم والتوجه إلى منطقة السحيل –تقع في منتصف المسافة بين صنعاءومأرب- ووفقاً لبيان صادر عن الملتقى، فإن الاجتماع يشبه الاعتصام المفتوح، لإثناء الحكومة عن رفع الدعم عن الديزل. كانت الأمور لتأخذ منحى تصعيدياً ينذر بالخطر، لولا تدخل رئيس الوزراء في الوقت الحرج. ولقد غير التدخل ذاك مجرى الأحداث. صباح السبت التقى علي مجور في مكتبه قيادات الحراك الشعبي بمأرب. يقول الزايدي: "كنا اليوم عند رئيس الوزراء وهو رجل عاقل ومتفاهم، وقد أبدا استعداده للتجاوب مع مطالبنا، حيث كلف لجنة برئاسة وزير الداخلية بالنزول إلى المحافظة ليدرسوها على الواقع، وإن شاء الله تسبر الأمور إذا صدقوا معنا". وفيما إذا كانت هناك نقاط ما تزال محط خلاف، قال الزايدي أن مسألة ال10% من عائدات النفط لم يتفق بشأنها، وكذلك رفع المعسكرات. اللقاء مع رئيس الوزراء تمخض عنه تأجيل الاجتماع الكبير الذي كان من المقرر انعقاده في 7 من الجاري. "إذا صدقوا معنا، صدقنا معهم، وإذا لم يصدقوا بانصعد الموقف" قال الزايدي. وإذ سألته عن ماهية البدائل التي على بساط البحث في حال نكثت الحكومة بعهدها، رد الشيخ الزايدي على الفور: "لكل حدث حديث. وكل شيء مدروس وزين". وعلى الجملة، فحركة مأرب هي المعادل الموضوعي الشمالي لحراك الجنوب. صحيح هناك فوارق بنيوية، وفوارق لها علاقة بالتاريخ. فمن الواضح أن السياسي في الحراك الشعبي المأربي ما يزال ثانوياً، بينما بات في الجنوب رئيسياً ومحورياً، وأحياناً يغدو المطلب السياسي وحيداً. والحال أن ما يعتمل في مأرب خليق به ألاّ يوأد. وإنه لفأل حسن أن تزيح المحافظة التليدة عن كاهلها دثار الغفلة المديدة. ولقد بدأ في التبرعم على تربة مأرب المثقلة والثرية برواسب التاريخ البعيد، فعل سياسي "غاية في المدنية"، آتٍ بكل عنفوانه وإقدامه وثبوته من صميم قلب مملكة سبأ. ولسوف تتفتح هذه البرعمة، وتنضج وتتسامق على مهل، وفقاً لقانون الأشياء. ولئن لم تحتل بعد مجلسها في بؤرة الأحداث، فإن عودها آخذ، رويداً رويداً، في الاشتداد والصلابة. ولسوف تطاول يوماً ما بأغصانها الوارفة عنان الساسة القصي. والحق أن وهج مأرب لم يخبُ ولو للحظة. فحتى في زمن سباتها العميق، كانت لا تنفك تسجل حضوراً كثيفاً، لكنه كان كابوسياً يقض مضاجع العالم بأسره: احتراب بيني لم تخمد جذوته، أو تصبح لها مسرح لمعارك الإرهاب الكونية النطاق. الحري بالتمعن، هو أن الحكم لم يرمش له جفن حيال يقظة مأرب. ويبدو أنه عدا أنابيب النفط التي تشفط الأرض من تحت أقدام "المأربيين" بشراهة، فليس لدى نظام الحكم ما يدعوه للقلق مطلقاً. ربما لهذا السبب لم يعر الأمر كبير اهتمام. لا شك أن مأرب لا تعدو كونها محضناً قبائلياً ظل يحتكم لناموسه الأزلي الخاص، بيد أنه بالمقابل -وفي هذه اللحظة بالذات- يحث الخطى ليغدو عما قريب حيزاً قبائلياً ثاب إلى رشده، وقرر قطع دابر التذابح البيني الماحق، والشروع في حياة مجبولة من طينة مختلفة، طينة التعايش الإنساني الرغيد. لكأن حراك مأرب لن يسترعي الانتباه طالما كان نشوئه جنباً إلى جنب مع الجنوب المائر بالحركة والمؤسس لها. تماماً مثلما هو البكاء والضحك في مسرحيات صموئيل بيكيت مقادير ثابتة. فإذ يبك أحدهم، فإن الآخر سيظل لازماً الصمت، ريثما يفرغ الأول ليجهش هو بدوره. فهل يتوجب على المأربيين أن يلزموا الصمت، ريثما يطبق السكون على الجنوبيين، هذا إن لم يذهب كلٌ إلى حال سبيله. بالطبع، ليس بحوزة مأرب أوراق ابتزاز وضغط سياسية وافرة، بمثل نجاعة ورقة الانفصال، وتقرير المصير وما شابههما. لكن لا يعني هذا أنها ليس لديها ما تفعله، فلا بد أن هناك حيلة من نوع ما لتحقيق المآرب الفاضلة. بالتأكيد، لم يعد قطع الطريق هو صيغة التمرد والرفض الوحيدة في مأرب. فلقد انبعث وعي جديد بآليات وصيغ جديدة، والراجح أن الصيغ القديمة في طريقها إلى الاضمحلال، إلى التلاشي، إلى الامّحاء. وبينما يتقهقر في مأرب من آن لآخر، المزاج "العنفي" الخشن، فإنه بات يفسح المجال لأمزجه من طراز مختلف. وإنها لأمزجة تعبر عن كينونتها الشخصية -عوضاً عن الكاتيوشا والآر بي جي- بالاعتصام، بالتظاهرة، بالحوار، بكل ما من شأنه عزل جهاز عنف الدولة (الجيش)، وجعله منبوذاً عاطلاً عن القتال والمجابهة، التي لم تحرز إلا انتصارات خرقاء، وكارثية، على حد علمنا. وفي حمى الهويات الصغيرة، التي لا تني تتقافز من كل أصقاع البلد، تفضل مأرب عدم إشهار هويتها الشخصية، بل تبقيها قيد الإخفاء كأي شيء نفيس، لا ينبغي التلويح به لمجرد الاعتباط، والعبث، والتنغيص.