مدرب مفاجئ يعود إلى طاولة برشلونة    ناشطون ومواطنون: الإفراج عن قحطان أولوية وشرط قبل خوض أي مفاوضات مع المليشيا    ريبون حريضة يوقع بالمتصدر ويحقق فوز معنوي في كاس حضرموت    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    وكيل قطاع الرياضة يشهد مهرجان عدن الأول للغوص الحر بعدن    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    مصرع عدد من الحوثيين بنيران مسلحي القبائل خلال حملة أمنية في الجوف    من هو اليمني؟    خسائر في صفوف قوات العمالقة عقب هجوم حوثي مباغت في مارب.. واندلاع اشتباكات شرسة    الكشف عن حجم المبالغ التي نهبها الحوثيين من ارصدة مسئولين وتجار مناهضين للانقلاب    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    صحيفة إماراتية تكشف عن "مؤامرة خبيثة" لضرب قبائل طوق صنعاء    نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة .. ملامح الدول الاتحادية في مخرجات الحوار الوطني
محاولة لاستكشاف نقاط القوة والضعف
نشر في مأرب برس يوم 16 - 07 - 2014


د. ناصر محمد علي الطويل
مقدمة:
يعد اعتماد شكل الدولة الاتحادية لليمن من أهم القرارات التي انتهى إليها مؤتمر الحوار الوطني الشامل إن لم يكم أهمها على الاطلاق، وبناءً على هذا القرار سيتم إعادة النظر في بنية الدولة وطبيعة العلاقة بين المركز وبقية المناطق، وتحويل الدولة في اليمن إلى دولة مركبة تتكون من مؤسسات اتحادية وأخرى على مستوى الأقاليم.
وقد أبانت الوثائق التي اعتمدها مؤتمر الحوار الوطني عن العديد من ملامح النظام الاتحادي الذي سيتم الأخذ به، والتي من المفترض أن تكون موجهات للخيارات والبدائل التي ستنتهي إليها لجنة صياغة الدستور الجديد.
وبقدر ما أن الوصول إلى قرار تغيير شكل الدولة لم يكن سهلا، فقد أثار صدوره مخاوف قطاع من الطبقة السياسية والمجتمع اليمني، والكثير من الجدل ليس حول مدى ضرورة الأخذ بشكل الدولة الجديد فحسب، وإنما حول مدى إمكانية تطبيقه، وتوافر عوامل نجاحة؟.
إن الهدف الأساسي لهذه الورقة هو دراسة الملامح العامة لشكل الدولة الجديد كما جاءت في وثائق مؤتمر الحوار الوطني، وتحليل نقاط القوة والضعف فيها من خلال عرضها على الواقع اليمني والخبرات والتجارب الدولية، وكذا محاولة استكشاف الفرص الممكنة والتحديات القائمة التي من المتوقع أن تعترض تطبيق النظام الاتحادي في البيئة اليمنية في المستقبل القريب، وكل ذلك من أجل المساهمة في ترشيد الخيارات التي ستأخذ بها لجنة صياغة الدستور التي تتصدى لهذه المهمة في هذه الأيام.
ومنهجيا سييتم الاعتماد على منهج التحليل الرباعي ( SWOT ) وذلك من خلال التعامل مع مخرجات الحوار الوطني فيما يخص الدولة الاتحادية كوحدة للتحليل، وتحديد وتحليل نقاط القوة والضعف فيها، وكذا التعرف على الفرص والتهديدات التي تقدمها البيئة اليمنية لتجربة الدولة الاتحادية الجديدة.
وعلى ذلك فإن هذه الدراسة ستتناول السياق العام الذي تولدت فيه الحاجة إلى الأخذ بالنظام الاتحادي، والملامح العامة لهذا النظام في ضوء مقررات مؤتمر الحوار الوطني، ونقاط الضعف والقوة في هذا النظام في ضوء عرضها على سمات وخصائص الواقع اليمن، والخلوص من ذلك كله إلى تقديم عدد من التوصيات إلى لجنة صياغة الدستور.
المحور الأول:
السياق الذي افضى إلى الدولة الاتحادية
لماذا دولة اتحادية؟
برغم من أن مسار الحوار حول إعادة بناء الوحدة اليمنية قد شهد خلال مراحل ومحطات متفرقة طرح خيار الأخذ بالنظام الفدرالي، وحتى الكنفدرالي، إلا أن المفاوضات النهائية التي شهدتها قمة عدن (19 – 22 ابريل 1990) والتي سبقت قيام الجمهورية اليمنية حسمت الأمر لصالح الدولة البسيطة أو الاندماجية (الموحدة)، فقد نصت المادة الأولى من اتفاقية إعلان الجمهورية اليمنية وتنظيم المرحلة الانتقالية، والتي تم التوقيع عليها من قبل قيادة الشطرين في تلك المرحلة، نصت على أن "تقوم بين دولتي الشطرين وحدة اندماجية كاملة تذوب فيها الشخصية الدولية لكل منهما في شخص دولي واحد يسمى الجمهورية اليمنية، ويكون للجمهورية اليمنية سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية واحدة".
وقد ترتب على قيام الوحدة حالة واسعة وعميقة من الاندماج الشعبي والمجتمعي، وتم تشكيل لجنة عليا للتقسيم الإداري، والتي انتهت إلى تقسيم الجمهورية إلى إحدى وعشرين محافظة، روعي فيها إحداث تداخل بين المحافظات التي كانت تقع على الحدود بين الشطرين قبل الوحدة، بما يؤدي إلى إلغاء وإزالة تلك الحدود.
وخلال المرحلة الانتقالية تم بناء هيكل الدولة بما يتناسب مع شكل الدولة الموحدة أو الاندماجية، فقد تم دمج المؤسسات والأجهزة الموجودة في كل شطر مع ما يناظرها في الشطر الثاني، وتشكلت سلطات الدولة على نحو موحد، غير أن عملية الدمج لم تمتد إلى عدد من المؤسسات والأجهزة الحيوية (الجيش وأجهزة الأمن وشركات الطيران، .. وغيرها) بسبب بروز أزمة عدم الثقة بين طرفي السلطة في ذلك، وهما السلطتين الحاكمتين في شطري اليمن قبل الوحدة (المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي).
وقد أخذت تلك الأزمة في بدايتها خطا شخصيا بين رئيس مجلس الرئاسة في ذلك الوقت "علي عبدالله صالح" ونائب رئيس مجلس الرئاسة "علي سالم البيض"، نظرا لامتعاض الأخير من طريقة إدارة الأول لشئون الدولة، ثم اخذت بعدا تنظيما بين الحزب الاشتراكي وحزب المؤتمر الشعبي العام، وتصاعدت فيما بعد لتأخذ بعدا شطريا، من خلال مخاوف الحزب الاشتراكي - الذي كان يُقدم نفسه على أنه يمثل الجنوب- من التهميش والإقصاء إذا ما تم اجراء أول انتخابات برلمانية نظرا لما كان يطرح من تركز الأغلبية العددية في المحافظات الشمالية، وطرحت منذ ذلك الوقت قاعدة التوازن بين الأرض والسكان، وضرورة توافر ضمانات محددة تحصن وجود الحزب الاشتراكي في السلطة تجاه نتائج الانتخابات.
وأثناء تلك الأزمة قُدمت العديد من المبادرات، وانتهت إلى عقد حوار سياسي بين الأحزاب والقوى السياسية، تمخض عنه العديد من المعالجات التي طالت بناء الدولة والنظام السياسي وهي المعالجات التي تضمنها "وثيقة العهد والاتفاق" والتي تم التوقيع عليها في العاصمة الأردنية عمان.
وقد استهدفت وثيقة العهد والاتفاق "إعادة بناء الدولة واستكمال مؤسساتها وهيئاتها المركزية واللامركزية وقوانينها .. وذلك "رغبة في تصحيح مسار التجربة الوحدوية والديمقراطية الوليدة وبناء دولة النظام والقانون دولة المؤسسات".
ويلاحظ أن تلك الوثيقة تبنت مضامين الدولة الاتحادية، وإن لم تشر إلى ذلك صراحة، ومن معالم الدولة الاتحادية التي تبنتها الوثيقة الآتي:
- أكدت على أن البناء الجديد للدولة يعتمد على قاعدة اللامركزية الإدارية والمالية لإدارة شئون الدولة اليمنية الواحدة التي تستوعب مضامين الدولة الوطنية القائمة على قاعدة الحكم المحلي باختصاصاته التنموية والخدمية والإدارية والمالية التي ينظمها القانون.
- تبنت تعديلات واسعة في تركيبة هيئات ومؤسسات السلطة المركزية للدولة، سواء من حيث البناء والتركيب أو من حيث الاختصاصات والصلاحيات، فإلى جانب مجلس النواب أنشأت مجلس جديد هو مجلس الشورى، والذي يتكون من عدد متساوي من الأعضاء يمثلون وحدات الحكم المحلي، ويتم انتخابهم من قبل مجالس "المخاليف" .. وحُدد له عدد من الاختصاصات.
- ووفقا لقاعدة اللامركزية الإدارية والمالية التي تقوم عليها الدولة فإن الحكومة صارت تتولى الشئون الخارجية والقوات المسلحة والأمن العام والعملة والموارد السيادية ورسم السياسة المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واقتراح مشاريع القوانين والإشراف على تنفيذها.
- إعادة التقسيم الإداري للدولة بما يتناسب مع مفهوم الحكم المحلي وبما يتجاوز التكوينات والوحدات الإدارية القائمة ويعاد فيها دمج البلاد دمجا كاملا تختفي فيه كافة مظاهر التشطير، ... وفي اطار هذا التقسيم اُقترح أن تتكون الجمهورية اليمنية من 4-7 وحدات إدارية تسمى "مخاليف" وتشكل كل من صنعاء العاصمة السياسية وعدن العاصمة الاقتصادية والتجارية – وحدات إدارية (أمانة عامة) مستقلة وذات شخصية اعتبارية واستقلال مالي وإداري ولها مجالسها المنتخبة".
- يقوم الحكم المحلي على قاعدة الانتخابات المباشرة والحرة والمتساوية لهيئاته ويتم انتخاب مجالس الحكم فيها، ويتمتع بصلاحيات إدارية ومالية كاملة تمكنه من إدارة شئون الوحدة الإدارية والتنموية والخدمية على قاعدة التنافس الايجابي في إطار الوحدة على أن تنعكس مهمة بناء الدولة في انتقال مركز الثقل في عدد من قضايا إدارة شئون الإدارة المركزية إلى أجهزة الحكم المحلي، .. وحددت الوثيقة اختصاصات الحكم المحلي في الشئون الإدارية، والموارد المحلية، والشئون الاقتصادية، والشرطة والأمن، والتعليم، والصحة والخدمات الاجتماعية، .. وحددت كذلك التكوينات الإدارية في الوحدات، وهيئة الحكم المحلي".
غير أن الأطراف الرئيسية لم تكن جادة في الحوار ولا مقتنعة بنتائجه، وكانت تعد نفسها لحسم الأزمة عن طريق القوة، وبالفعل فقد انزلقت البلاد إلى حرب أهلية، أعلن خلالها زعيم الحزب الاشتراكي "علي سالم البيض" انفصال الجنوب والعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990م، ونظرا لأن مشروع الانفصال لم يكن يحظى بقول شعبي واسع في المحافظات الجنوبية، فقد انتهت الحرب بفرض القوات الموالية لما كان يطلق عليه في وقتها بالشرعية الدستورية سيطرتها على كل المناطق في المحافظات الجنوبية.
وعقب الحرب مباشرة اتخذت السلطة عدد من المعالجات غير أنها كانت أقل بكثير من التداعيات الكبيرة التي تركتها الحرب، والممارسات السلبية التي حدثت بعد ذلك، فنتيجة لأن القانون لا يمثل أولوية لدى السلطة الحاكمة في ذلك الوقت، ولاعتمادها على توزيع المغانم لكسب الحلفاء والموالين، وبسبب الوفرة في الأراضي وممتلكات الدولة في تلك المحافظات، فقد اباحت السلطة لأنصارها والمقربين وأصحاب النفوذ من بسط اليد على الكثير من الأراضي في المحافظات الجنوبية لا سيما في عدن وحضرموت.
ونتيجة لعدم ثقتها في ولاء بعض أبناء تلك المحافظات فقد اتجهت إلى إقصاء عدد كبير من القيادات العسكرية والمدنية والسياسية واحلالهم بعناصر مواليه جلهم من المحافظات الشمالية، وأدى تراكم تلك الأخطاء وتواتر تلك السياسات، إلى تحويل الانطباع العام عن حرب 1994، من حرب بين طرفين سياسيين متنافسين إلى حرب بين شطرين، تمكن فيها الشطر الشمالي من فرض سلطته على الشطر الأخر، وقد ساعد على ذلك حالة الغرور والانتشاء التي اصابت السلطة الحاكمة في ذلك الوقت من جهة، وعدم اتجاهها إلى بناء مشروع وطني، ونظام سياسي يقوم على المؤسسات والمواطنة المتساوية وحكم القانون.
وفضلا عن ذلك اتجه النظام الحاكم في ذلك الوقت إلى الاستفراد بالسلطة وتضييق المشاركة في الثروة واتخاذ القرار، واقصاء العديد من المكونات الجغرافية والسياسية والاجتماعية، وتبنى في مرحلة تالية مشروع التوريث، وحصر الامتيازات المادية والسياسية في دائرة ضيقة من أبناء منطقة الرئيس وأصهاره والموالين له.
أخذ الشعور بالتذمر والتمييز السلبي والاقصاء يتصاعد لدى عدد من أبناء المحافظات الجنوبية، وساعد استمرار السياسات الخاطئة وتراكمات الممارسات السلبية على اذكائها، وتبلورت تلك المشاعر في شكل أعمال احتجاج ومقاومة من خلال جمعيات مطلبية، ظهرت في البداية في محافظة الضالع، وادى تجاهلها من قبل السلطة والنخب السياسية إلى تصاعدها، وتحولها إلى واجهات ذات مطالب سياسية.
وفي هذا السياق ظهر عدد كبير من فصائل الحراك التي تتبنى القضية الجنوبية بعضها يلتزم بالعمل السلمي وأخرى تعتمد العنف، وبعضها يتبنى الانفصال وما يطلق عليه فك الارتباك، وأخرى تفضل الحلول في إطار دولة الوحدة، غير أنه مع استمرار الأحداث السلبية وأعمال العنف المتبادلة صارت الفصائل التي تتبنى الانفصال والمدعومة من قيادات المعارضة في الخارج هي الأعلى صوتا وربما الأكثر وجودا في الشارع الملتهب.
استشعرت السلطة بعض المخاطر نتيجة لتلك الأوضاع إلا أنها لم تتبن معالجات جذرية، وكانت معظم الحلول متأخرة ولا تتناسب مع التطورات التي تحصل على الأرض، وكل ذلك إلى جانب استمرار اعتمادها على الحلول الأمنية.
تفاقمت الأوضاع في المحافظات الجنوبية على نحو كبير، وتولد مزاج عام مناهض للاندماج والوحدة الوطنية، وتحولت إلى أحد أبعاد الأزمة الوطنية الشاملة التي برزت منذ عام 2000م، تقريبا، وبشكل خاص منذ 2006م ، أي بعد الانتخابات الرئاسية التنافسية.
موقف متقدم لأحزاب المعارضة:
نجحت أحزاب المعارضة الرئيسية في بناء تحالف يجمعها، أُطلق عليه تحالف "اللقاء المشترك"، وقد تمكن هذا التحالف من رفع سقف المعارضة لسياسات النظام الحاكم أنذك، .. وبسبب تفاقم الأزمات واتساع بؤر الصراع وأعمال العنف في جنوب البلاد وشمالها، تبنت أحزاب اللقاء المشترك عدد من الرؤى لإصلاح الأوضاع العامة في البلاد، وأثناء نقاشها، توافقت تلك الأحزاب على أن معالجة القضية الجنوبية يُمثل بوابة الإصلاح السياسي للأوضاع في البلاد، وحظيت القضية الجنوبية باهتمام كبير في اطار "مشروع اللقاء المشترك للإصلاح السياسي والوطني الشامل" وهو مشروع قدمته تلك الأحزاب عام 2005م، بغرض تشخيص الأزمات التي نعاني منها البلاد ووضع حلول لها، غير أن المعالجات التي تبنها ذلك المشروع فيما يخص القضية الجنوبية ظلت في إطار الدولة الموحدة.
وعلى إثر اشداد الأزمة العامة في البلاد منذ انتهاء الانتخابات الرئاسية التنافسية 2006م، وسعت أحزاب اللقاء المشترك من تحالفاتها وسقف معارضتها للنظام، وشكلت لافتة جديدة هي "اللجنة التحضيرية للحوار الوطني"، وقد اصدرت هذه اللجنة وثيقة جديدة عام 2009م، أطلق عليها "وثيقة الانقاذ الوطني" تضمنت هذه الوثيقة قبولا وتبنيا لتغيير شكل الدولة.
تضمنت وثيقة العهد والاتفاق مهام ومعالجات إنقاذية عاجلة تعمل على "وقف حالة الانهيار ودرء المخاطر الكارثية الآنية للأزمة الوطنية، عبر حل القضية الجنوبية بأبعادها الحقوقية والسياسية، حلاً عادلاً وشاملاً، يضع الجنوب في مكانه الوطني الطبيعي، كطرف في المعادلة الوطنية، وكشريك حقيقي في السلطة والثروة في دولة الشراكة الوطنية، كمدخل أساسي لمعالجة وطنية شاملة للأوضاع المتفاقمة"
واستهدفت كذلك تحقيق ما يلي:
(1) تهيئة الأجواء والمناخات السياسية:
وقف الحملات العسكرية والاعتقالات والملاحقات للناشطين السياسيين وناشطي الحراك السلمي في الجنوب، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين..، معالجة الجرحى والمصابين، وتسوية أوضاع أسر القتلى في الاحتجاجات السلمية،.. الإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين .. وإنهاء عسكرة المدن، .. إلغاء كافة القوانين والقرارات والتوجيهات والأوامر المقيدة للحقوق والحريات العامة المخالفة للدستور،.. رد الاعتبار لحق المواطنة المتساوية، ..وإعادة الموظفين المبعدين إلى أعمالهم، .. الإنصاف الكامل والعاجل لكل من نهبت أراضيهم بإعادتها إليهم وتعويضهم عما لحق بهم من خسائر مادية ومعنوية.
(2) إزالة آثار حرب صيف 94م وإجراء مصالحة وطنية شاملة تفضي إلى:-
1. معالجة أوضاع الموظفين المدنيين والعسكريين والمشردين والموقوفين والمحالين قسراً إلى التقاعد والنازحين في الخارج وإعادتهم إلى أعمالهم ودفع مستحقاتهم القانونية.
2. دفع مرتبات ومستحقات من فقدوا مصادر دخلهم جراء نهب أو خصخصة المؤسسات والشركات العامة التي كانوا يعملون بها.
3. تشكيل هيئة وطنية للمصالحة والإنصاف، يشارك في عضويتها ممثلين عن الموقوفين والمتضررين، والمعنيين، تبت في شكاوى وتظلمات الموقوفين، والمبعدين، وتكون قراراتها وإجراءاتها ملزمة للجهات الحكومية ذات العلاقة.
4. إعادة الممتلكات التي تم الاستيلاء عليها، سواء كانت خاصة بالأفراد أو الأحزاب أو النقابات أو الدولة، ووقف إجراءات البسط والاستيلاء على الأراضي واستعادة ما صرف منها بدون وجه حق وإعطاء الأولوية للانتفاع بها لأبناء المنطقة.
5. محاكمة الفاسدين المتورطين في العبث بأراضي وعقارات وموارد الدولة والمال العام والممتلكات التعاونية، والبدء بكبار المفسدين المسئولين عن نهب الجنوب، لما ترتب عنه من تداعيات سلبية ساهمت في تعقيد الأزمة الوطنية وتفاقمها مع استعادة كل ما تم نهبه.
6. إعادة الفلاحين الذين تضرروا بطردهم من أراضي الانتفاع، وفقدوا حيازتهم للأرض في الجنوب، جراء الحرب وتداعياتها اللاحقة، إلى منازلهم وأراضيهم.
7. معاملة كافة ضحايا حرب 1994م كشهداء، ومعاملة الجرحى، وأسرهم، وأسر الشهداء بالتساوي في الرعاية والحقوق.
8. التواصل مع إطراف النضال السلمي للحراك الجنوبي، وكذا القيادات الموجودة بالخارج ودعوتها إلى الحوار الوطني الشامل والجاد القادر على استيعاب الهموم ورد الحقوق وإعادة الاعتبار، بعيدا عن الدعوات التفكيكية التي تزيد من حدة الانقسام داخل المجتمع اليمني.
9. إيقاف ثقافة تمجيد الحروب الأهلية، والدعوة إلى الثأر، والانتقام السياسي، في مناهج التعليم، ومنابر الإعلام والثقافة، وإزالة مظاهر الغبن، والانتقاص، والإقصاء الموجهة ضد التراث الثقافي، والفني، والاجتماعي، في مختلف مناطق الجنوب.
(3) تطوير شكل الدولة على قاعدة اللامركزية
حيث أشارت الوثيقة إلى أن هذا التطوير لشكل الدولة على قاعدة اللامركزية يأتي كضرورة لا بد منها لضمان التوزيع العادل للسلطة والثروة، ومنع الاستبداد واحتكار السلطة أو التفرد بالحكم وتوريثه، كما يستهدف تلبية تلك الحاجات الجماهيرية المطلبية التي كشفت عنها مظاهر الأزمة الوطنية العامة في البلاد، بما يكفل تعزيز الوحدة الوطنية، وتوسيع المشاركة السياسية، وتحقيق التحول الديمقراطي وضمان التداول السلمي للسلطة.
وفي حواراتها الداخلية توصلت اللجنة التحضيرية الى إن قيام وبناء الدولة الوطنية اللامركزية على النحو الذي يحقق الشراكة الوطنية في الحكم والثروة لكل اليمنيين هي الصيغة المثلى لوضع اليمن موحدا على طريق الاستقرار والتطور بما يصاحبها من نظام سياسي ديمقراطي تعددي تحقق العدالة والمساواة والمشاركة الشعبية والتداول السلمي للسلطة.
وبهذا الصدد توصلت اللجنة إلى الخيارات الحوارية التالية:
خيار: الحكم المحلي كما ورد في وثيقة العهد والاتفاق.
خيار: الفدرالية.
خيار: الحكم المحلي كامل الصلاحيات.
وأيا كان الخيار الذي سيجري التوافق عليه، من خلال الحوار الوطني الموسع، فإنه لابد وأن يرتكز على الأسس التالية:
1- أن يجري التقسيم وتحديد الوحدات اللامركزية الإقليمية، وفقا لدراسة علمية ميدانية تأخذ بالاعتبار المعايير الموضوعية، والأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي المقدمة منها ما يلي:
‌أ-البعد الوطني والسياسي: ويستهدف تعزيز مقومات الشراكة المجتمعية في الوحدة الوطنية وخلق التكامل في المصالح والمنافع المتبادلة بما في ذلك الروابط والصلات الضرورية للاندماج الاجتماعي والوطني، لتجاوز النزعات والولاءات التقليدية القبلية المناطقية والجهوية والطائفية والمذهبية، وتنمية مقومات الثقافة الوطنية وروح الولاء والانتماء الوطني لليمن الموحد.
‌ب-البعد الجغرافي: ويتعلق بمراعاة الترابط والامتداد المكاني الجغرافي والمناخي الملائم / ومقومات البنية التحتية المطلوبة والميسرة للاتصال والتواصل، التي ستعزز من القدرة على إدارة الأقاليم بشكل فعال وكفؤ وإيجاد نوع من التنافس يضمن الكفاءة والعدالة والتوازن في تقديم الخدمات للمواطنين.
‌ج-مراعاة التوازن السكاني والثقل الديمغرافي بين الأقاليم الجديدة, بما يؤدي إلى التوازن في سير الأقاليم في التنمية العادلة.
‌د-البعد الاقتصادي: ويتعلق بتوازن مقومات الحياة الاقتصادية والمعيشية للسكان من الموارد والثروات الطبيعية والبشرية المتوافرة لكل إقليم، وبحسب ما توضحه لنا الخرائط الجيولوجية وخرائط الموارد الطبيعية، لضمان توفر الموارد الذاتية لكل إقليم، وبما يحقق التوزيع العادل للموارد والثروات.
‌ه-أن يكون لكل إقليم منفذا بحريا يسهل له تنشيط حركته التجارية استيرادا وتصديرا، فضلا عن ما يقدمه ذلك الساحل من موارد اقتصادية في المجال السياحي والسمكي وغيرها من الموارد التي تسهم في دفع عجلة التنمية في الأقاليم بشكل متوازن.
2- الانتخاب الحر والمباشر والنزيه للهيئات والقيادات اللامركزية، ومبدأ تدوير مناصبها بما يكفل التجسيد الحقيقي للممارسة الديمقراطية على نطاق واسع، وتحفيز المشاركة الشعبية في الحياة السياسية.
3- التحديد الدستوري الواضح للسلطات والصلاحيات المركزية واللامركزية، وفقا لمبدأ الشراكة في الحكم، وبما يمكن هيئات وقيادات الحكم اللامركزي المنتخبة من إدارة شئونهم كافة، فيما يتعلق بقضايا العمل، والوظيفة العامة، والتعليم، والصحة، والإسكان والمواصلات، والطرقات والبناء وتخطيط المدن، والتجارة الداخلية، والشئون الاجتماعية والاقتصادية، والنشاطات والفعاليات الثقافية، ومهام الشرطة والأمن، وغيرها من الخدمات العامة بما في ذلك حق تعيين القيادات التنفيذية، وموظفي الدولة، وعزلهم، وحق الرقابة والمحاسبة على مختلف الأنشطة التنفيذية في الإقليم، وحق سن الضرائب والرسوم المحلية، وإصدار اللوائح والأنظمة ذات العلاقة بالحكم اللامركزي، واتخاذ التدابير لحماية أراضي وعقارات الدولة، والأوقاف العامة في الإقليم كاختصاص محلي أصيل، وغيرها من الوظائف غير السيادية، وبما لا يتعارض مع السياسة العامة للدولة والدستور النافذ الذي ينبغي أن ينص صراحة على الوظائف المركزية السيادية للدولة، وينظم طبيعة العلاقة بين الجهات المركزية والمحلية فيما يخص الأنشطة المشتركة، والتعامل مع تلك الوظائف والموارد السيادية المتعلقة بالقضايا الرئيسة كالدفاع والتجارة الخارجية والعلاقات الدولية والموارد والثروات الطبيعية السيادية.
لم يقتصر التحول في الموقف من القضية الجنوبية وشكل الدولة على أحزاب المعارضة فقط بل امتد إلى السلطة كذلك، وإن جاء هذا التحول في سياق أحداث عام 2011، وتطور الأوضاع في ما بات يعرف بدول الربيع العربي، فبهدف امتصاص الاحتجاجات الشعبية، قدم الرئيس السابق عدد من المبادرات التي تضمنت تنازلات ووعود بتغيير في السياسات العامة وطريقة الحكم، وقد تضمن بعضها اقرار ضمني بالحاجة الي تغيير شكل الدولة، فقد أعلن الرئيس السابق "علي عبدالله صالح" أمام حشد من أنصاره دعاهم للاجتماع تحت ما يسمى "المؤتمر الوطني" عقد بتاريخ (10) مارس 2011 م في مدينة الثورة الرياضية بالعاصمة صنعاء عن مبادرة، تضمنت إعداد دستور جديد، والانتقال إلى النظام البرلماني، وتشكيل حكومة وفاق وطني و"تطوير نظام الحكم واسع الصلاحيات، على أساس اللامركزية المالية والإدارية، وإنشاء الأقاليم اليمنية على ضوء المعايير الجغرافية والاقتصادية".
وبوصول الأزمة الوطنية إلى ذروتها عام 2011م, اتسعت القانعات لدى النحب السياسية وقطاع من الشعب وبشكل أكبر لدى القوى والمنظمات الدولية المهتمة بشأن اليمن بان تغيير شكل الدولة بات هو الحل المتاح والممكن لحلحت الأزمة الوطنية وفي مقدمتها أزمة الجنوب،.. ولهذا لم يواجه خيار الدولة الاتحادية بمعاضة معلنة كبيرة، ولم يكن الخلاف إلا حول التفاصيل والملامح الرئيسية.
المحور الثاني:
ملامح الدولة الاتحادية في وثائق مؤتمر الحوار الوطني
بالقراءة الفاحصة لما جاء في وثائق الحوار الوطني حول الدولة الاتحادية، نجد أن أبرز ملامح الدولة الجديدة يتمثل في الآتي:
1 – أن تبني نظام الدولة الاتحادية جاء بشكل مباشر لمعالجة القضية الجنوبية وتوفير الحلول الممكنة لها، فقد جاءت النصوص الخاصة بنظام الدولة الاتحادية في وثيقة خاصة صادرة عن اللجنة المصغرة لفريق القضية الجنوبية والتي عُرفت بلجنة (8 + 8) وهي لجنة شكلت لحسم القضايا الحساسة التي تتصل بالقضية الجنوبية، وتم تشكيلها مناصفة بين ممثلين عن المحافظات الجنوبية وممثلين غير جنوبيين، وقد اطلق على الوثيقة التي صدرت عن ذلك الفريق "اتفاق حول حلّ عادل للقضية الجنوبية"، ومعنى هذا أن السبب الرئيسي للأخذ بشكل الدولة الاتحادية هو التعامل مع التذمر القائم في تلك المحافظات وليس لأي شيء أخر.
ولهذا فقد جاءت حيثيات الأخذ بهذا الشكل من أشكال الدول مرتبطة بهذا الموضوع، ونفس الأمر بالنسبة للمعالجات وإجراءات الانتقال إلى الدولة الاتحادية، والضمانات التي وفرتها تلك الوثيقة سواء في المرحلة الانتقالية أو ما بعدها.
من حيث الحيثيات:
فقد جاء في ديباجة وثيقة اللجنة المصغرة لفريق القضية الجنوبية .. "بناء على مبادرة مجلس التعاون الخليجي والآلية التنفيذية .. وعملاً باستخلاصات فريق عمل القضية الجنوبية التي تبنّتها الجلسة العامة الثانية لمؤتمر الحوار الوطني الشامل، وبالنظام الداخلي لمؤتمر الحوار، وبعد مناقشة جميع الرؤى والمقترحات منذ تاريخ 10 سبتمبر 2013م، توصلنا نحن المكونات السياسية والاجتماعية المشاركة في مؤتمر الحوار إلى هذه الوثيقة التي تحقق أعلى قدر ممكن من التوافق ... وفيها نلتزم حلّ القضية الجنوبية حلّاً عادلاً في إطار دولة موحّدة على أساس اتحادي وديمقراطي جديد وفق مبادئ الحق والقانون والمواطنة المتساوية، وذلك عبر وضع هيكل وعقد اجتماعي جديدين يرسيان وحدة الدولة الاتحادية الجديدة وسيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها .. وسوف تمثل هذه الدولة الاتحادية الجديدة قطيعة كاملة مع تاريخ الصراعات والاضطهاد وإساءة استخدام السلطة والتحكم في الثروة".
وجاء في ديباجة الوثيقة كذلك "وإذ نقدر مساهمات وتضحيات الحراك الجنوبي السلمي ونضال اليمنيين من أجل التغيير، نتطلع إلى بناء الدولة الاتحادية الجديدة مع اعتراف كامل بالأخطاء المؤلمة والمظالم التي ارتكبت في الجنوب"، وشددت الوثيقة على أن من المتطلبات "يتعين على الحكومة اليمنية معالجة هذه المظالم، بما فيها التطبيق الكامل للنقاط العشرين والإحدى عشرة خلال فترة الانتقال إلى الدولة اليمنية الاتحادية".
من حيث الضمانات:
تضمنت وثائق الحوار الوطني جملة من الضمانات، تركزت بشكل واضح في محاولة بناء الثقة وكسب تأييد أكبر عدد ممكن من المواطنين وفصائل الحراك في المحافظات الجنوبية، ومن تلك الضمانات:
- تبني إصلاحات خلال الفترة الانتقالية تشمل الملف الحقوقي للجنوب.
- ضمان التنفيذ الكامل للنقاط العشرين والإحدى عشر.
- إنشاء صندوق ائتماني للجنوب.
- ضرورة أن ينص الدستور على تأسيس هيئة لمراقبة التطبيق الكامل لهذه المرحلة، هذه الهيئة تضع لنفسها خطة عمل، وتعمل بشفافية، ويوفر لها التمويل وإمكانيات وافية لتطبيق المهام التالية:
1- وضع جدول زمني لتطبيق ترتيبات بناء الدولة الاتحادية.
2- مراقبة تنفيذ المخرجات والجداول الزمنية والمعايير التي تتضمنها خطة العمل.
3- تقديم توصيات إلى السلطات المعنية وفق الحاجة.
4- نشر تقارير علنية حول تقدّم عملية حول تقدّم عملية التطبيق كل ستة أشهر على الأقل.
على أن تحل الهيئة في نهاية هذه المرحلة إلا إذا نص الدستور على خلاف ذلك.
- توفير غطاء دولي لاتفاق الانتقال إلى الدولة الاتحادية، فقد جاء في وثيقة (8+8) "... "نُطلب من المجتمع الدولي دعم تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني والعملية الانتقالية في اليمن ... نطلب من أمين عام الأمم المتحدة مواصلة المساعي الحميدة وفق قراري مجلس الأمن 2014، و 2051، ... ونطلب من مجلس الأمن عبر الأمين العام دعم الجهود اليمنية لتطبيق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل ... ومراقبة تقدم العملية الانتقالية، خصوصاً تطبيق هذا الاتفاق ... نطلب من مجلس الأمن ومجلس التعاون لدول الخليج العربية تبنيّ قرارات تدعم هذا الاتفاق".
2 – بناء هيكل الدولة إلى ثلاث مستويات (المركز، الأقاليم، الولايات).
بحيث "يتمتع كل مستوى من مستويات الحكم بسلطة تنفيذية وتشريعية (وتمثيلية في الولايات) وإدارية ومالية مستقلة يحددها الدستور، بما فيها سلطة مناسبة لجباية الضرائب"... "وأنه لا يجوز للسلطة المركزية التدخل في صلاحيات تلك السلطات لمستويات الحكم الأخرى في نطاق مسؤولياتها الحصرية إلا في ظروف استثنائية ينص عليها الدستور والقانون بهدف ضمان الأمن الجماعي والمعايير المشتركة الرئيسية أو لحماية سلطة إقليمية من تدخل سلطة أخرى".
3 – توزيع السلطات والمهام والمسؤوليات
فقد تم وضع معيار لتوزيع السلطات والمسؤوليات "يراعي في توزيعها سواء بشكل حصري أو تشاركي خدمة المواطنين بالطريقة الأفضل والأقرب ... وأن يكون لكل مستوى من مستويات الحكم سلطات وموارد كافية لأداء مهامه بفاعلية، على أن يتحمل حصة عادلة من المسئوليات المشتركة".
مالت الوثيقة إلى الأخذ بالطريقة التي تحدد سلطات الحكومة الاتحادية وترك ما عدا ذلك من سلطات واختصاصات لمستويات الحكم الأدنى، و"أن تتولى الهيئة القضائية المختصة التي ينص عليها الدستور الاتحادي في أي تنازع حول اختصاصات الحكومة المركزية والأقاليم والولايات".
4 – إدارة وتوزيع الموارد الطبيعية
وهو موضوع شديد الحساسية ومن المتوقع أن يؤثر على وضع الدولة في المستقبل، وضعت الوثيقة عدد من الخطوط والمحددات على النحو التالي:
أ – الموارد الطبيعية ملك للشعب اليمني.
ب – تكون مسؤولية إدارة وتنمية الموارد الطبيعية، ومنها النفط والغاز بما فيها منح عقود الاستكشاف والتطوير من مسؤولية السلطات في الولايات المنتجة بالتشارك مع السلطات في الأقاليم والسلطة الاتحادية.
ج – يكون تنظيم عقود الخدمات المحلية من مسؤولية السلطات في الولايات المنتجة بالتنسيق مع الإقليم.
د – وبالتوافق مع ذلك تؤسس هيئة وطنية مستقلة تضم جميع السلطات المعنية على مستوى الاقليم والولاية والحكومة الاتحادية مهمتها تطوير السياسات العامة وتمكين الولايات والأقاليم المنتجة من إدارة الموارد الطبيعية بكفاءة.
ه – يتم بناء قانون اتحادي يصاغ بالتشاور مع الاقاليم والولايات معايير ومعادلة لتوزيع عائدات الموارد الطبيعية بطريقة شفافة وعادلة لجميع أبناء الشعب اليمني، مع مراعاة حاجات الولايات والاقاليم المنتجة بشكل خاص، وتخصيص نسبة من العائدات للحكومة الاتحادية.
5 – تحديد الأقاليم
كان موضوع تحديد الأقاليم من المواضيع التي أثارت الكثير من الخلاف بين مكونات مؤتمر الحوار الوطني، حيث تبلور اتجاهين رئيسيين الأول يطالب بستة أقاليم (أربعة في المحافظات الشمالية واثنين في المحافظات الجنوبية)، واتجاه آخر يطالب بإقليمين واحد في الجنوب والأخر في الشمال، ولم تتمكن اللجنة المصغرة من حسم الموضوع، وتم تفويض رئيس الجمهورية لتشكيل لجنة برئاسته لدراسة الخيارات المطروحة واختيار خيار منها، وبتاريخ 27 يناير 2014، صدر القرار الجمهوري بتشكيل لجنة تحديد الاقاليم وتسمية أعضاءها ال(22) وتحديد مهامها، وبتاريخ 10 فبراير 2014 اتخذت اللجنة قرارا بتقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، وتم توزيع المحافظات ال(21) الحالية على الستة الأقاليم على النحو التالي:
اسم الاقليم الولايات (المحافظات) التي يتكون منهاالعاصمة
حضرموت المهرة – حضرموت- شبوة- سقطري المكلا
سبأ الجوف – مأرب - البيضاء مأرب
عدن عدن – ابين – لحج - الضالع عدن
الجند تعز - إب تعز
آزال صعدة – عمران – صنعاء - ذمار صنعاء
تهامة الحديدة – ريمة – المحويت - حجة الحديدة
و"اعتبار أمانة العاصمة مدينة اتحادية، واعتبار مدينة عدن ذات وضع خاص في إطار اقليم عدن، على أن يحدد الدستور الاتحادي وضع المدينتين، وعلى أن تتناوب الولايات (المحافظات) على رئاسة المجلس التشريعي للإقليم، وأن تقوم حكومة الاقليم على مبدأ الشراكة بين المحافظات".
6– طبيعة الحدود بين الأقاليم
لم تشير وثائق مخرجات الحوار الوطني إلى طبيعة الحدود بين الاقليم، واذا ما كانت حدود سياسية أو إدارية، ربما لما يشتمل عليه هذا الموضوع من حساسية زائدة، ولما قد يثيره من إشكالات وتحديات كان يخشى أن تعيق مسار مؤتمر الحوار الوطني وتعترض نجاحه، ومع هذا فقد صدرت عدد من التصريحات عن رئيس الجمهورية تشير إلى طبيعة الحدود بين الاقاليم، .. غير أن تلك التصريحات اتسمت بالتناقض وعدم الاتساق، واختلفت بحسب طبيعة الوفود التي كان يقابها رئيس الجمهورية.
وعلى الأغلب أن تلك التصريحات لا تمثل رأيا نهائيا حتى لدى رئيس الجمهورية، وأنها كانت تأتي في سياق كسب مواقف الأطراف المختلفة لحساب مخرجات الحوار الوطني، فقد لاحظنا أن رئيس الجمهورية كان يلمح إلى أن الحدود بين الاقاليم هي حدود سياسية عندما يلتقي بممثلي المحافظات الجنوبية، وعند مقابلته لممثلين عن بعض المحافظات الأخرى ووفد من العلماء والوجاهات الاجتماعية صرح بأن الحدود هي حدود إدارية.
وفي كل الأحول فإن موضوع طبيعة الحدود سيكون من المواضيع شديدة الأهمية، ويحتاج حسمه إلى مراعاة واقع المجتمع اليمني الذي يتسم بالتجانس، والذي يتطلب مرونة شديدة في رسم الحدود بين الأقاليم بما يجعلها حدود إدارية وليس سياسية.
7- اللاتماثل
اعتمدت وثائق الحوار الوطني مبدأ اللاتماثل، ويشير هذا المبدأ إلى عدم المساواة بين مكونات الدولة وفئات المجتمع، واعتماد تمييز ايجابي لصالح مكون أو فئة أو أكثر، وبطبيعة الحال فقد جاء اعتماد هذا المبدأ لصالح مكون جغرافي هو المحافظات الجنوبية وأخر اجتماعي هو فئة النساء.
فقد تضمنت الفقرة (9) من وثيقة اللجنة المصغرة للقضية الجنوبية الآتي "خلال الدورة الانتخابية الأولى بعد تبني الدستور الاتحادي يمثّل الجنوب بنسبة (50%) في كافة الهياكل القيادية في الهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بما فيها الجيش والأمن التي يتم التعيين فيها بموجب قرارات يصدرها رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، ويمثل الجنوب بنسبة (50%) في مجلس النواب".
وأشارت كذلك إلى أنه "يجب معالجة عدم المساواة في الخدمة المدنية والقوات المسلحة والأمن على المستوى المركزي عبر قوانين ومؤسسات وبما يضمن إلغاء التمييز وتحقيق تكافؤ الفرص لجميع اليمنيين ... ومن أجل معالجة تفاوت التمثيل في التوظيف يكون للجنوبيين أولوية في شغل الوظائف الشاغرة والتأهيل والتدريب في الخدمة المدنية والقوات المسلحة والأمن".
أما بعد الدورة الانتخابية الأولى ينص الدستور الاتحادي على "آليات" تنفيذية وقضائية وبرلمانية من أجل حماية المصالح الحيوية للجنوب .. وقد تتضمن هذه الآليات "حقوق نقض" أو "تصويت خاص" حول قضايا تتعلق بالمصالح الحيوية للجنوب، و"تمثيلا خاصا" يقوم على معادلة المساحة والسكان .. وعدم امكانية إجراء تعديل في الدستور يخصّ الجنوب أو يغيّر شكل الدولة إلا عبر ضمان موافقة أغلبية ممثلي الجنوب في مجلس النواب .. إضافة إلى ترتيبات لتحقيق التشاركية في السلطة تُحدّد في الدستور".
وبالنسبة للنساء فقد نصت الفقرة رقم (10) من الوثيقة ذاتها على "ينص الدستور الاتحادي على ضرورة تفعيل جميع الحكومات ومؤسسات الدولة في الدولة اليمن الاتحادية مبدأ المساواة عبر سنّ تشريعات وإجراءات تتضمن اتخاذ خطوات فعلية لتحقيق تمثيل للنساء لا تقل عن (30%) في الهياكل القيادية والهيئات المنتخبة والخدمة المدنية".
المحور الثالث
نقاط القوة والضعف فيما تضمنته مخرجات الحوار الوطني حول الدول الاتحادية
أولاً: نقاط القوة:
تتعدد نقاط القوة فيما تضمنته مخرجات الحوار الوطني ولجنة تحديد الأقاليم من محددات عامة لطبيعة الدولة الاتحادية، وهنا نشير إلى أبرز تلك النقاط:
1 - تبن شكل الدولة الاتحادية
فتبني مؤتمر الحوار الوطني لشكل الدولة الاتحادية يُعد حلا مناسبا لمسار التطورات في اليمن، فقد وصلت الأزمة الوطنية حدا لا علاج له سوى تغيير شكل الدولة، ذلك أن جزء كبير من تلك التعقيدات ناتج عن المركزية الشديدة، كما إن واحدة من أهم الأزمات اليمنية وأكثرها تعقيدا، ونقصد بها القضية الجنوبية لم يعد في الامكان التعامل معها دون تغيير شكل الدولة.
2- الأخذ بخيار ستة اقاليم
برغم ما اثير من خلاف حول تقسيم الاقاليم، وأن خيار اعتماد ستة أقاليم لم يحوز على قبول بعض الأطراف السياسية، غير أن هذا الخيار هو الأكثر ملائمة للظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اليمن.
وتعد الجوانب الايجابية لهذا الخيار أكثر بكثير من الجوانب السلبية للخيار المنافس، وهو خيار الاقليمين، فخيار الاقليمين يحمل مخاطر حقيقة على مستقبل الوحدة اليمنية من جهة، كما أنه سيثير مخاوف قطاع واسع من الشعب اليمني، وربما يستنهض معارضته لفكرة الدولة الاتحادية من الأساس، بما قد يعترض تمرير هذه التجربة أثناء التصويت على الدستور الاتحادي الجديد، وأثناء مرحلة الانتقال إلى شكل الدولة الجديد، وقد يولد انطباع لدى عدد غير قليل من أفراد الشعب اليمني بأن مشروع الدولة الاتحادية مشروعا تأمريا يسعى إلى اجهاض الوحدة ويعمل على جر اليمن إلى الصراع.
ثانيً: نقاط الضعف:
1- الانحياز إلى ما دون المركز
التزمت الوثائق المنظمة للدولة الاتحادية في وثائق الحوار الوطني باتجاه عام يضعف الحكومة المركزية ويقوي الأقاليم والولايات، وهو وضع لا يتناسب مع طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية في اليمن، ويتعارض كذلك مع الاتجاهات السائدة في التجارب الدولية لتطبيق الفيدراليات، ونستعرض هنا مواطن إضعاف الحكومة المركزية وتقوية ما دون المركز في تلك الوثائق:
أ‌- توزيع السلطات والمسؤوليات
فكما سبق فقد نصت وثيقة حل القضية الجنوبية التي حددت ملامح الدولة الاتحادية على "تكون السلطات غير المسنودة إلى السلطة الاتحادية من صلاحيات مستويات الحكم الأدنى"، وهو ما يعني تحديد سلطات وصلاحيات الحكومة المركزية على سبيل الحصر ونفس الأمر بالنسبة لحكومات الأقاليم والولايات، وترك ما دون ذلك للأقاليم والولايات.
وسيترتب على هذا توسيع سلطات وصلاحيات الاقاليم والولايات (المحافظات) وتقويتها في مواجهة الحكومة الاتحادية، وهو وضع لا يتناسب مع المعطيات التي اقتضت الأخذ بالنظام الاتحادي، للأسباب التالية:
1- إن مقتضيات الأخذ بالنظام الاتحادي كانت حالة التذمر الواسعة في المحافظات الجنوبية ومساوئ المركزية الشديدة، ولم تكن التنوع العرقي والديني والاثني، فالشعب اليمني يتسم بالتجانس، وثمة قاعدة مستنبطة من الخبرات الدولية في بناء النظم الفدرالية تفيد بأنه "كلما ازدادت درجة التجانس في المجتمع ازدادت السلطات الممنوحة للحكومة الفدرالية، وكلما ازدادت درجة التنوع ازدادت السلطات الممنوحة للوحدات المكونة للحكومة، .. وحتى في الحالة الأخيرة فغالباً ما كان من المرغوب فيه منح الحكومة الفدرالية سلطات كافيه لمقاومة النزعات نحو البلقنة والانقسام"( ).
2- إن طريقة الانتقال إلى الدولة الاتحادية في اليمن تستلزم منح الحكومة الاتحادية السلطات المتبقية، فالخبرة الدولة في هذا الجانب تشير إلى أنه "عندما تنطوي عملية التكوين على تجميع وحدات سابقة لها كانت مميزة ومختلفة تقوم بالتخلي عن بعض من سيادتها لتأسيس الحكومة الفدرالية الجديدة فعادة ما يكون التركيز منصباً على تعيين مجموعة محددة من السلطات الفدرالية الخالصة والمتلازمة مع استبقاء السلطات المتبقية (غير محددة في العادة) في يد الوحدات المؤسسة، كما هو الحال في الولايات المتحدة وسويسرا وأستراليا، ... وحيثما ينطوي تأسيس الاتحاد الفدرالي على عملية تفويض السلطة من دولة وحدية (لا فدرالية) سابقة (كما هو الأمر في الحالة اليمنية)، عادة ما كان العكس هو الصحيح، فقد كانت سلطات الوحدات الاقليمية محددة وظلت السلطة المتبقية في يد الحكومة الفدرالية، ومن أمثلة ذلك بلجيكا وأسبانيا..الخ( ).
3- إن استبقاء السلطات المتبقية بيد حكومات الأقاليم سيؤدي إلى إضعاف الحكومة المركزية (التي تعاني من ضعف شديد أصلا)، وسيفضي إلى تغول الاقاليم والولايات، وقد يدفعها إلى اعاقة وتهميش دور الحكومة الاتحادية، ووضع مثل هذا قد يوقع التجربة اليمنية في واحدة من أهم سلبيات تطبيق التجارب الاتحادية، ونقصد به اضعاف المركز وتغول مكونات الدولة الأدنى، كما هو الحال في التجربة الكندية وبشكل أكبر في التجربة الهندية( ).
4- كما أن وضع كهذا لا يتناسب مع دولة تعاني من الاضطرابات وتنامي الهويات غير الوطنية وتضخم المطالب المحلية.
وفي ضوء كل ذلك بات من المناسب أن تتجه لجنة صياغة الدستور إلى تبني الاتجاه المغاير، أي تحديد سلطات ومسؤوليات الأقاليم والولايات على سبيل الحصر واسناد ما دون ذلك للحكومة الاتحادية.
ب‌- إدارة الموارد الطبيعية
وسيراً في ذات الاتجاه فقد منحت وثائق مخرجات الحوار "السلطات في الولايات المنتجة مسؤولية إدارة الموارد الطبيعية ومنها النفط والغاز، بما فيها منح عقود الاستكشاف والتطوير، وذلك بالتشارك مع السلطات في الاقاليم والسلطة الاتحادية"، كما اعطتها الحق في "تنظيم عقود الخدمات المحلية لتلك الموارد، حيث يكون من مسؤولية السلطات في الولايات المنتجة بالتنسيق مع الاقليم".
ويظهر هنا وبوضوح اطراد الميل إلى إضعاف الحكومة الاتحادية لصالح المستويات الأدنى، فمع أن الموارد الطبيعية وخاصة النفط والغاز هي موارد سيادية، وتمثل المورد الرئيسي للاقتصاد الوطني، وتعتمد عليها حياة اليمنيين جمعيا كون الاقتصادي اليمني اقتصاد ريعي، إلا أن وثائق الحوار جعلت إدارة وتطوير تلك الموارد من مسؤولية الولايات المنتجة بالتشاور مع الاقاليم والسلطة الاتحادية، .. ووضع كهذا قد يفضي إلى اضعاف وربما تغييب السلطة الاتحادية، وفي المقابل يقوى الولايات التي تنتج النفط والغاز، ويتوقع إذا استمر الأمر كذلك أن يخلق الكثير من التوترات والمشاكل في المستقبل لاسيما في ظل تعاظم المصالح والهويات المحلية، كما أنه قد يعيق عملية التنمية خاصة عندما تتعارض مصالح الولاية المنتجة مع المصالح العامة، كأن تعتمد سياسات انتاج وتوزيع معينة لا تتفق والسياسات الاقتصادية والتنموية على المستوى الوطني.
والوضع الأنسب هو اسناد مسؤولية إدارة وتطوير الموارد الطبيعية إلى السلطة الاتحادية بالتعاون والتنسيق مع السلطات في الاقاليم والولايات المنتجة، وفي المقابل تبقى مهمة تنظيم عقود الخدمات المحلية لتلك الموارد من مسؤولية السلطات في الولايات المنتجة بالتنسيق مع الاقليم الذي تقع فيه تلك الولاية.
وهذا الاتجاه تُدعمه الخبرات الدولية في تطبيق الفيدراليات، فمع أنه يوجد اختلاف كبير بين الدول الفدرالية فيما يتعلق بإدارة وتطوير الموارد الطبيعية، إلا أن الاتجاه الغالب هو اسناد مسؤولية إدارة تلك الموارد إلى السلطة الاتحادية .. مع ملاحظة "أن الاتحادات الفدرالية ذات الدساتير القديمة جدا – أستراليا وكندا والولايات المتحدة – تمنح السيطرة على الموارد الطبيعية والايرادات بوجه عام إلى الوحدات المكُوّنه (رغم أن حكومة الولايات المتحدة تتمتع بسيطرة كبيرة على "الأراضي الفدرالية" الغنية بالنفط داخل بعض الولايات)، بسبب أنه تم بناء الدساتير قبل وجود الموارد الطبيعية.. فيما تمنح الدساتير الأحدث، عادة دورا حصريا أو دور أكبر للحكومة الفدرالية"( ).
ج- توزيع عائدات الموارد الطبيعية
لا يتمتع النص الخاص بتوزيع عائدات الموارد الطبيعة بالوضوح الكافي، فقد نص على أنه "يتم بناء قانون اتحادي يصاغ بالتشاور مع الاقاليم والولايات معايير ومعادلة لتوزيع عائدات الموارد الطبيعية بطريقة شفافة وعادلة لجميع أبناء الشعب اليمني" وأكد على ضرورة "مراعاة حاجات الولايات والاقاليم المنتجة بشكل خاص" وأضاف في نهاية الفقرة و"تخصيص نسبة من العائدات للحكومة الاتحادية".
وأين ما كان القصد من تلك الصياغة فهي تندرج في السياق العام الذي يراعي وضع الاقاليم والولايات ويقويها على حساب الحكومة المركزية.
وهذا اتجاه يخالف ليس فقط الأوضاع الاقتصادية والسياسية اليمنية فحسب، وإنما يخالف كذلك ما هو معمول به في تجارب الدول في تطبيق الفيدرالية، برغم ما تمتلكه تلك الدول من وفرة في الموارد "فروسيا، وهي أكبر منتج للنفط والغاز في العالم تسمح بأن تحصل حكومات المناطق المنتجة على حصة تبلغ (5%) من عائدات النفط، ولا تحصل على أية حصة من عائدات الغاز، أما في نيجريا حيث تمثل الايرادات النفطية أكثر من 90% من جملة الايرادات تحصل الولايات المنتجة على 16% من ايرادات النفط الحكومية من الولاية، وفي فنزويلا التي تمثل الايرادات النفطية ما يزيد على 50% من الايرادات العامة، وتسيطر الحكومة الفدرالية على هذه الايرادات في نظام شديد المركزية، إلا أن الولايات تحصل أيضا على حصة من هذه الإيرادات، .. وتقوم حكومة الاتحاد الفدرالي في الهند بالسيطرة والرقابة على مشروعات النفط الرئيسية، إلا أنها تقدم حصة من الإيرادات للولايات المنتجة، كما هو الحال أيضا في ماليزيا"( ).
2- المبالغة في اعتماد مبدأ اللاتماثل
فقد أوضحنا أن الأطراف التي حددت ملامح الدولة الاتحادية اعتمدت مبدأ اللاتماثل بالنسبة للمحافظات الجنوبية وفئة النساء، ومع أن الاتجاه إلى التمييز الايجابي لتلك المكونات وخاصة أبناء المحافظات الجنوبية كان بهدف كسب قبولهم للحوار الوطني وتأييدهم لمخرجاته، وقد تحققت فوائده من خلال تزايد الشخصيات والفصائل المؤيدة لمخرجات الحوار، وامكانية عودة عدد من الشخصيات المعارضة في الخارج، وانخراطها في الحياة السياسية.
مع كل تلك المزايا والجوانب الايجابية إلا أن الأمر لا يخلو كذلك من سلبيات، وخاصة عندما يتم تضمينه في نصوص الدستور تتجه للتعامل مع مدة زمنية طويلة، ويتطلب تغييرها اجراءات معقدة.
وبصفة عامة فإن اللاتماثل بين الوحدات المكونة للدولة أمر غير مستحب، فوجوده "داخل الدولة الفدرالية يطرح تعقيداً على الوضع"( ).
كما أن المبالغة في اللاتماثل قد يكون مولدا للتوترات والمشاكل وليس حلا لها ف"حيثما كان هذا اللاتماثل في أقصى درجاته فإنه يكون مصدرا للتوتر وعدم الاستقرار، .. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان اللاتماثل السياسي كثيراً ما يحث على بذل جهود للقيام بإجراءات تصحيحية"( ).
ونفس الوضع بالنسبة للتمييز الايجابي لصالح النساء، فمع أنه يمكن أن يكون له مردودات ايجابية لإشراك قطاع واسع من المجتمع في الحياة السياسية وعملية التنمية، إلا أن السياق الذي جاء فيه بدا وكانه مفروض من الأطراف الدولية، فضلا عن أنه كان في حدوده القصوى، مما قد يخلق توترات مجتمعية، ويصم مخرجات الحوار الوطني عامة وما يخص الدولة الاتحادية خاصة بانه جاء تلبية لأجندة خارجية.
المحور الرابع: الفرص والتحديات
يسند تطبيق الدولة الاتحادية في اليمن عدد من العوامل والمتغيرات التي تمثل فرصا لهذه التجربة الجديدة، وبذات الوقت يعترض تطبيقها عدد من الصعوبات والتحديات، وسنتوقف هنا عند أبرز ما تواجهه تجربة الدولة الاتحادية من فرص وتحديات.
أولا: الفرص
تمثل قناعة عدد كبير من القوى السياسية اليمنية بالحاجة إلى الأخذ بنظام الدولة الاتحادية، والتغيرات السياسية والثقافية التي حدثت منذ عام 2011، وتوافر الإرادة السياسية، والاسناد الخارجي، تمثل أبرز عومل الاسناد والدعم لتطبيق تجربة الدولة الاتحادية في اليمن
1- اتساع قناعة المكونات السياسية والشعبية
فقد اشرنا في السابق إلى حدوث تحول في الموقف من الدول الاتحادية، فمنذ صدور وثيقة "العهد والاتفاق" كان يتم تعبئة الرأي العام تجاه تلك الوثيقة وشكل الدولة الاتحادية على السواء، وقد وصف الرئيس السابق تلك الوثيقة بأنها "مؤامرة على وحدة البلاد".
غير أن التحولات المتصاعدة في المحافظات الجنوبية دفعت العديد من القوى السياسية شيئا فشيئا إلى التفكير في امكانية تغيير شكل الدولة كحل لتعقيدات المشهد والتطورات في تلك المحافظات، وكما اشرنا فقد كانت بداية ذلك لدى أحزاب اللقاء المشترك واللجنة التحضيرية للحوار الوطني، وبصفة خاصة في وثيقة "الانقاذ الوطني".
غير أن هذا الخيار لم يكن يحض بقول كبير لدى عدد من تلك الأحزاب، ولذلك اتجهت تلك الوثيقة إلى جعله خيار مطروح من جملة ثلاثة خيارات كلها تناهض المركزية الشديدة، وقد أحالت الحسم فيها إلى مؤتمر الحوار الذي كانت تخطط له.
وما يهم قوله أن تلك المرحلة لم تعد فكرة الدولة الاتحادية تتسم بتلك السلبية التي كانت عليها قبل عام 2000م، ولم تعد كثير من الأحزاب تتعامل معها بحساسية زائدة كما كان الأمر في السابق.
ومع تعمق الأزمة الوطنية وتعقد الأوضاع في المحافظات الجنوبية، وفشل الحلول السياسية والأمنية التي تبنتها السلطة اتسعت القناعة بان إعادة النظر في شكل الدولة قد يكون الحل المتاح للأزمة في الجنوب.
2- التحولات التي أحدثتها الثورة الشبابية
فقد أحدثت الثورة الشبابية التي اندلعت في عام 2011 عددا من التحولات التي ساهمت بشكل أو بأخر في تدعيم الأخذ بنظام الدولة الاتحادية، فقد اعترف شباب الثورة بالقضية الجنوبية ونضال الحراك الجنوبي السلمي، وابرزت ثقافة سياسية جديدة تعلي قيم الشراكة الوطنية والمواطنة المتساوية، والأهم من ذلك فإنها أفضت إلى تغيير رأس السلطة، وبالتالي تغيير العقيدة التي كانت تتعامل مع القضية الجنوبية والحلول التي كانت تطرح لها، بما فيها الدولة الاتحادية.
كما أن التسوية السياسية التي حددت مسار الثورة الشبابية وسعت من مساحة تأثير وحضور الأطراف الخارجية، ومعظم هذه الأطراف ترى في شكل الدولة الاتحادية حلا للكثير من مشكلات اليمن، ولهذا فقد نصت الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية على أن يتولى مؤتمر الحوار الوطني "تأسيس عملية للإصلاح الدستوري تعالج هيكل الدولة والنظام السياسي".
3- توفر الإرادة السياسية
متمثلة في رئيس الجمهورية، والذي ينتمي إلى المحافظات الجنوبية، وظل متابعا للملف الجنوبي أو مسؤول عنه طوال السنوات السابقة، وقد أبدا دعما قويا لشكل الدولة الاتحادي، وكان أحد الأطراف الرئيسة التي حددت ملامح شكل الدولة الجديد، وقد تمكن من حلحلت الكثير من تعقيدات القضية الجنوبية، ويتوقع أن يكون أحد أهم الأطراف دعما لعملية الانتقال إلى شكل الدولة الجديد.
4- إسناد الأطراف الخارجية
فقد شهدت السنوات منذ عام 2000م وحتى الآن منحنا صاعدا في الحضور الخارجي في الشؤون اليمنية، وباتت الأطراف الخارجية من جملة الأطراف التي تحدد مسار الأحداث والسياسات في اليمن، وكما سبق فإن كثير من تلك الأطراف لديها قناعة بأن تغيير شكل الدول سيسهم في حلحلت الكثير من المشاكل في اليمن، ومن المتوقع أن تدعم معظم الدول والمنظمات تطبيق الدولة الاتحادية في اليمن، وأن توفر لها حد أدنى من الدعم والاسناد.
ثانيا: التهديدات
يعترض تطبيق الدولة الاتحادية عدد من الصعوبات والتحديات المركبة والتي منشأها تعقيدات البيئة اليمنية شديدة الانقسام والاضطراب، ومن هذه التحديات:
1- محدودية الموارد المالية
فاليمن تعاني من محدودية ما تمتلكه من موارد مالية، فمكونات القطاع الاقتصادي المختلفة تسهم في توفر قدر قليل من تلك الموارد، وحتى النفط الذي يمثل المورد الرئيسي للاقتصاد اليمني، فإنه ينتج بكميات محدودة، وأكثر من ذلك فإن ثمة تقارير تشير إلى أنه في طريقه إلى النضوب، وما لم تظهر اكتشافات جديدة، فإن الموارد المالية ستظل شحيحة في المستقبل، وهو لا يتناسب مع الانتقال إلى شكل الدولة الجديد، ولا يمكن أن يؤمن متطلبات الانتقال إليها.
ووضع كهذا سيجعل من عملية توزيع الموارد بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم وبين الأخيرة والولايات والمديريات أمر بالغ التعقيد، فأغلب الاقاليم والولايات (المحافظات) لن يكون بحوزتها حد أدنى من الموارد التي توفر أجور الموظفين والعاملين فيها.
والاتجاه الذي تبنته مخرجات الحوار الوطني والتي تميل لجهة تدعيم الأقاليم على حساب المركز قد يفاقم من المشكلة، ويزيد من تعقيدات الوضع.
2- الصراعات السياسية
يمثل الصراع السياسي واحدا من أبرز المخاطر التي تهدد تطبيق تجربة الدولة الاتحادية في اليمن، ومع أن الصراع جزءا من التاريخ اليمني المعاصر، وغالبا ما كان له حضور ممتد في كل مراحل التطور السياسي المعاصر في اليمن، إلا أن الآمال كانت معقودة على أن تضع التسوية السياسية التي تم بناءها عام 2011م، وبشكل أكبر الحوار الوطني الشامل أن يضع حد للصراع، أو على الأقل يرشده ويخفف منه، غير أن استمرار الصراع وتفاقمه أثناء انعقاد مؤتمر الحوار، وبشكل أكبر بعد انتهاءه، آثار الكثير من المخاوف ليس حول امكانية تطبيق الدولة الاتحادية، وانما حول مخرجات الحوار الوطني بشكل عام، وحول بقاء واستمرار وجود الدولة، وحول الأمور التي كانت تمثل ثوابت من قبيل النظام الجمهورية، والعملية الديمقراطية، و والأسس الدستورية والقانونية للمواطنة المتساوية والشراكة الوطنية.
ودن شك فإن الانتقال إلى شكل الدولة الاتحادية يتطلب حلحلت الصراعات القائمة وخاصة في شمال صنعاء، وتسويتها بما يحافظ على قوة الدولة وحضورها، وعلى خضوع كل الجماعات والمكونات السياسية لحكم القانون وسلطة الدولة ومرجعيتها الدستورية والقانونية، .. ودون ذلك فإن ثمة مهددات حقيقية تعترض تطبيق الدولة الاتحادية بالصورة التي تضمنتها مخرجات الحوار الوطني.
3- ضعف حكم الدستور والقانون
ترتكز الدولة الاتحادية أكثر ما ترتكز على حكم القانون والدستور، والانتخابات التمثيلة والعمل من خلال مؤسسات وبقية مقومات الحكم الرشيد، فهذا الشكل من الدول يقوم في الأساس على تقاسم السلطة بين مستويات مختلفة من الحكم والتشارك فيها من خلال نصوص دستورية وقانونية، ولذلك فإنها تحتاج ثقافة تعلي من قيمة الدستور والقانون والعمل المؤسسي.
وبالرغم من أن النقاشات التي شهدها مؤتمر الحوار الوطني والكثير من المخرجات التي انتهاء إليها كانت تستهدف بناء هذه الثقافة وتوفير متطلباتها القانونية والمؤسسية، إلا أن هذه الثقافة لا زالت تعاني من ضعف، وأكثر من ذلك فإن تلك المخرجات والمناخ العام الذي توفر أثناء وبعد مؤتمر الحوار، تبدد بسبب استمرار الانقسامات والصراع.
التوصيات
من العرض السابق يمكن الانتهاء إلى التوصيات التالية:
1- تدعيم وتعزيز الحكومة المركزية كاتجاه عام وثابت في نصوص الدستور، بما في ذلك:
أ‌- اعتماد نظام توزيع السلطات والمسؤوليات بين الحكومة المركزية وحكومات الاقاليم بشكل حصري وتشاركي على أن يسند المتبقي لصالح الحكومة المركزية.
ب‌- حسم خيار طبيعة الحدود بين الأقاليم داخل الدولة على أن تكون حدود إدارية.
ت‌- اسناد مسؤولية إدارة وتطوير الموارد الطبيعية لصالح الحكومة المركزية، بالتنسيق مع حكومات الولايات المنتجة.
ث‌- النص على حق الولايات والاقاليم المنتجة للموارد الطبيعة الحصول على نسبة محددة من عائدات تلك الموارد، وتخصيص نسبة من تلك العائدات للحكومة الاتحادية، على أن توزع البقية بطريقة شفافة وعادلة بين بقية الأقاليم.
2- التخفيف من اللاتماثل، وجعله في الحدود الدنيا، وتسهيل إجراءات تغييره في الدستور، وذلك من خلال:
أ‌- استبدال الآليات البرلمانية والقضائية التي تحمي الحقوق الحيوية للجنوب بالنص على آليات مخففة وعامة كأن لا يجوز تمرير أي تشريع إذا ما اعترض ممثلي اقليمين من أقاليم الدولة الاتحادية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.