حقيقة ونحن نتعامل مع هذا الحدث كما قدمته الحكومة لنا، لا بد أن نضع الملاحظات التالية باعتبار أنه تجاوز الجهد التقليدي، الذي يتوجب على الحكومة أن تمارسه لتوفير التمويل اللازم عندما تكون هناك حاجة لهذا التمويل. 1- مؤتمر المانحين كما قدم نرى أن الحكومة عمدت إلى تحويل مؤتمر المانحين إلى قضية سياسية، من النوع الذي ينتهي إلى فرز لا يساعد على أي تقييم موضوعي، ولهذا الغرض جندت وسائل الإعلام لإغراق الوعي المجتمعي في حدث تاريخي، لا يجوز التطاول عليه، وهذا هو شأن حكومتنا الموقرة عندما تريد تمرير قضية فإنها تكسبها هذه الهالة؛ التي تجعل نقدها يدخل في خانة الخيانة، وقد سمعنا كلاماً رسمياً من هذا النوع ضد المعارضة، وحتى قبل أن تقول المعارضة رأيها في ذلك. 2-الحكومة لا تريد أن تسمع سوى الإشادة بالمنجز، لكنها لا تقول لنا شيئاً عن تفاصيل هذا المنجز، لقد حجبت عنا هذا المنجز إلا في صورته التي بدا وكأنه شهادة على ما وصل إليه حالنا. 3-الأسلوب الذي تعامل به إعلام الحكومة مع مؤتمر المانحين بإعلانه محطة انتصار على الأعداء هكذا، مسألة تطرح الشراكة الوطنية على بساط البحث كواحدة من القضايا الأساسية التي تسبق تقييم مؤتمر المانحين، هذه الحكومة التي تكتسب شرعيتها كما تدعي من قواعد اللعبة الديمقراطية التعددية لا بد أن تكون قد نسيت أن هناك شركاء في الحياة السياسية لا أعداء، كما ينضح إعلامها صباح مساء. وهذا ما جعلها تتجه بشراكتها إلى الخارج لتستعين بها على هذا الداخل العدو، وهذا ما برز في خطابها الإعلامي للأسف، وهي بهذا تضرب من حيث لا تدري أسس هذه الشرعية في مغامرة جديدة تقوم على استهلال شروط التراكم الديمقراطي التي وفرتها الشراكة الوطنية للقوى السياسية المختلفة في الأخذ بيد الديمقراطية إلى المستوى الذي جعلها الدكاكة التي مهدت الطريق أمام مؤتمر المانحين. 4-لقد أغفلت الحكومة عناصر القوة التي كان يمكن أن تجعل من مؤتمر كهذا أكثر قيمة من حيث قدرته على إنتاج العناصر المؤسسة لشراكة مفهومة ومعها في الخارج، ومن عناصر القوة ما ولده المشروع الديمقراطي من تلاحم وطني حقيقي، لكن الحكومة بسياستها أجهضت هذه العناصر، وأوقفت مثل هذا التلاحم، بشحن الحياة السياسية باحتقانات عكست موقفاً سلبياً من المشروع الديمقراطي برفض الشراكة الوطنية، وأفقدت بالتالي موقفها ومصدر القوة التي بدا معها اليمن شبيه أوربا المريض تركيا في نهاية القرن التاسع عشر. 5-لقد كان من الضروري أن تتصرف الحكومة على هذا النحو، هل كان من الضروري أن تتصرف الحكومة على هذا النحو الذي اختزلت فيه تنمية اليمن إلى مجرد عرض حالة، تتولاها الأجهزة الفنية المختصة بما يتوفر لديها من معلومات عن حاجة بعض المشاريع للتمويل، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كل هذا الضجيج الذي جعل البلد وكأنه شهد منعطفاً هاماً سيضعه على مرحلة تحول. دعني أقول أن جهود مشكورة بذلت للحصول على هذا التمويل، وأشكر أيضاً بشكل كبير كل الدول المانحة التي سيقدر لها شعبنا هذا الموقف، لكن ما هيأت له الحكومة وما حدثتا عنه وما وعدتنا به من حيث شيء مختلف من حيث بعده الاستراتيجي على صعيد الخروج باليمن من مأزق المراوحة داخل مساحة مهمشة من النمو الذي تسجله الأرقام الرسمية، ويدحضه في الواقع التراجع المخيف للحالة المعيشية للسكان والتردي المتواصل في مستوى الخدمات. إن خطاب الحكومة بخصوص مؤتمر المانحين يعطي للمسألة بعداً آخر غير ما أسفرت عنه النتائج المعلنة، وهي بهذا إما أنها تضخم هذا المنجز الذي تدعيه لترد بذلك على كل ما رافقه من عيوب أو أن هناك قضايا هامة لم تفصح عنها الحكومة ستنكشف فيما بعد أنها أجندة شراكة بين أجهزة الحكومة والخارج على النحو الذي يضفي على هذه الشراكة معنى لا يتجاوز في مقدمته ونتائجه شراكة المحتاج الدائم والمانح الدائم. 6-إن مهمة هذه الندوة صعب للغاية، فمن واقع المعطيات المعروضة أمامها لا يبدو أنها تقوم بأكثر من تفكيك ألغاز، هي محصلة ما رمته الحكومة في طريق الباحثين والمتابعين لتشغلهم بها عن الوقائع الأصلية التي يجب أن تكون موضوع البحث؛ ومن هذه الوقائع: أولاً: غياب الاستراتيجية الوطنية لتنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية شاملة، وهو ما جعل المؤتمر يأخذ منحى مغايراً لما كان يجب أن يكون عليه، أي أنه تحول إلى تجمع احتفالي تعلن فيه المساهمات المالية لتغطية الفجوة التمويلية التي عرضتها الحكومة اليمنية، مع تعليقات صادرة من هنا وهناك بشأن الإصلاحات الجزئية، وكان وضعها الطبيعي في ضوء ما عبرت عنه الحكومة اليمنية عن حاجتها لشراكة حقيقية مع دول الجوار ومع الخارج هي أن تضع رؤيتها الاستراتيجية لهذه الشراكة موضحة بجلاء: أ- طبيعة وحجم المصالح التي يمكن أن ينتجها أطراف الشراكة إزاء بعضهم البعض وعلى وجه الخصوص ما هي المصالح التي يمكن أن ينتجها اليمن ليبدو في وضع يجعل مطالبته بالشراكة أمراً مفهوماً. ب- ليس بالضرورة أن تكون هذه المسائل كلها اقتصادية، ولكن الاقتصاد هو الأكثر تعبيراً عن الشراكة المستقرة، وكان من الضروري هنا أن نعيد بناء اليمن بناء استراتيجيته إزاء الآخر الشريك بالاستناد إلى عناصر الشراكة التي يتمتع فيها بمزايا مطلقة أو نسبية. هذه العناصر هي التي يجب أن يركز على تنميتها بالتعاون مع الشريك وفقاً لخطة يتفق عليها من منطلق أنها أي هذه العناصر من العوامل المولدة لسياسية قوية. ج- إن التعاون والتكامل والشراكة بين الدول اليوم لا تقوم بالاعتماد على الحكومة وإيراداتها فقط، هذا وجه واحد لهذه العملية المعقدة، ولم يعد حاسماً إلا بما نعبر عنه من استيعاب لدور القطاعات الأخرى في قاعدة المصالح وترابطها، حيث يؤدي رجال الأعمال والقطاع الخاص دوراً محورياً في هذه العملية، والسؤال الجوهري لماذا لا يلعب القطاع الخاص اليمني دوره في جذب رأس المال العربي والأجنبي للاستثمار في اليمن، ولماذا يعزف المال العربي والأجنبي عن الاستثمار في اليمن.. إن الإجابة على هذه الأسئلة بموضوعية لازمة لمعرفة العوامل التي من خلالها أن تقرر نجاح الشراكة من عدمه خلال المدة المتفقة لتحقيق ذلك. ثانياً: تقاطع عملية الإصلاح الاقتصادي والسياسي، وتجزئة عناصر هذه العملية المتكاملة على نحو انتقائي أفقدها خبرتها، على تحرير التنمية من العوامل الكابحة لها، وخاصة تلك العوامل التي تجذرت في جهاز الدولة بأكمله وصارت كوابح بنيوية، بحيث لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد صعوبات، يمكن معالجتها إدارياً وبمعزل عن بعضها البعض. تشابكت هذه العوامل فيما بينها حتى باتت قادرة على إنتاج نفسها بشكل أقوى كلما تعرضت لأي خطر هنا أو هناك، وطالما كان جذعها الفساد والبيروقراطية فلا بد أن تتسلط في وجه أي محاولة للإصلاح من ذلك النوع الذي يقتصر فقط على تقليل الأضرار والخسائر الاجتماعية دون القدرة على التوجه نحو الأساس المنتج للمشكلة. ولذلك فلا بد من الإشارة إلى أنه لا يكفي الاعتراف بهذه المشكلة على النحو الذي تحدثت عنه الحكومة اليمنية، لا بد من وضع أجندة وطنية تضع البلاد كلها على عتبة إصلاح حقيقي بعيداً عن المناورات أو المزايدات، فالبلد لم يعد يحتمل مزيداً من تجاهل حقيقة تردي الأوضاع، التي لم توقفها المليارات الأربعة أو الخمسة أو العشرة فهناك ما يفوق ذلك أهمية إذا أردنا لهذه المساعدات أن تؤتي ثمارها المرجوة. من ذلك.. أولاً: إعادة الانسجام بين عناصر الاقتصاد عبر سياسات مالية ونقدية واستثمارية تتجه على نحو رئيسي نحو ميزانية الدولة السنوية وإعادة هيكلتها باعتبار إصلاحها من العناصر الحاسمة التي لا يمكن تجاهلها في أي إصلاح اقتصادي جاد. ثانياً: إصلاح السياسة الاستثمارية، وتخليص القطاع الاستثماري والخاص منه على وجه الخصوص من القيود الإدارية والمعقدة لنشاطه وتقديم الحوافز لذلك. ثالثاً: جعل قضية الإصلاح قضية وطنية يشترك فيها الجميع بمعنى أن تأخذ بعداً وطنياً أشمل مما تسعى إليه الحكومة في الوقت الراهن باختزالها إلى ما تعبر عنه بمصفوفات كتلك التي تتم في نطاق ظروف مختلفة تماماً عما هو الحال في اليمن. فالاختلالات العميقة في البنى الاقتصادية والمالية والنقدية والإدارية تتطلب إصلاحات جذرية في السياسات. وهنا مكمن الاختلاف بين من يبحث عن إصلاحات جزئية في أدوات التطبيق وبين الحاجة الفعلية إلى إصلاح السياسات نفسها. ولذلك فإن إصلاح السياسات شيء وطني لأن ما يترتب عليه من نتائج تدخل في نطاق ما يسمى الاستراتيجي الذي يقرر مستقبل اليمن بأكمله. وعلى حكومتنا الموقرة ألا تكابر ولا تأخذها العزة بالإثم فنحن جميعاً أمام مفترق طرق، إما أن نصلح ونعد العدة جميعاً لموقف وطني عام نتحمل فيه جميعاً مسئولية هذا الإصلاح بما قد يفرضه في مراحله الأولى من أعباء ومسئوليات ولكنه يؤمن لبلدنا في نهاية المطاف مساراً نحو آفاق التنمية المستدامة، وإما أن تواصل الحكومة هذا الطريق الذي لن يفضي إلا إلى المزيد من تعقيد المشكلة، والتي لن تجدي معه الترميمات الخارجية لأنها لن تتحول في مثل هذه الظروف بكل تأكيد إلى شراكة من النوع الذي تتحدث عنه، لأن مقومات الشراكة الحقيقية والتي من شانها أن تفضي إلى اندماج مع المحيط لن تتحقق إلا بإصلاح من النوع الذي يركز على السياسات أكثر، لكونه مجرد معركة صغرى مع أدوات التطبيق. ولكي يكون حديث الشراكة الوطنية مفهوماً بأعبائه الحقيقية فهولا يعني مطلقاً الدعوة إلى المشاركة في الحكومة كما سيحلو للبعض أن يقول، لإضعاف الفكرة وإنما المشاركة عبر آليات يمكن أن تكون حكومة المؤتمر الشعبي طرفاً فيها أو القوة السياسية التي تمثلها مع بقية القوى السياسية والنقابية والغرف التجارية. المهم أولاً أن تعترف هذه الحكومة بشراكة الداخل حتى يكون حديثها عن الشراكة الخارجية مفهوماً، وأن تكون شفافة إزاء الداخل فتصبح ثقتها تجاه الخارج ذات مصداقية وشكراً.