تقريبا بعد أسبوع على توقيع الاتفاق الانتقالي بين القوى العظمى الست وإيران في جنيف، بشأن المشروع النووي، لا تزال المجاهيل كثيرة. وليس فقط أن الجدال تواصل حول نوعية الاتفاق، بل لا تزال تفاصيله موضع خلاف. فقد أوضحت الخارجية الأميركية يوم الجمعة، ردا على أسئلة صحافيين، أن «تفاصيل فنية» لم تبرم، بعد ان اتهمت إيرانالولاياتالمتحدة بإشاعة معطيات مضللة بشأن الصيغة الكاملة للاتفاق. أي أن المفاوضات، حول ما اتفق بشأنه في المفاوضات، ستستمر. ويفترض أن يسري الاتفاق الانتقالي طوال الشهور الستة المقبلة التي سيبحث الطرفان خلالها بلورة التسوية النهائية، لكن العد التنازلي لم يبدأ بعد. وهكذا في هذه الأثناء، إيران لا تتقيد بالتنازلات التي أخذتها على عاتقها في الاتفاق الانتقالي، وساعة المفاوضات الجديدة لم تبدأ في التحرك. ولم يفاجئ البلاغ الأميركي الإسرائيليين المتابعين لجولات المحادثات الأخيرة، منذ المحادثات مع الترويكا الأوروبية قبل عقد من الزمان. في هذه الحالة، يبدو الكليشيه الحضاري بالغ الدقة: إنها إيران التقليدية. الإيرانيون خبراء جدا في إدارة مفاوضات طويلة ومنهكة. الاتفاقات التي أبرمت خدمتهم مراراً فقط كنقطة انطلاق نحو مساومات جديدة. وطهران لم تجث على ركبتيها في جنيف، مثلما كانت القيادة الإسرائيلية تأمل، ويبدو أنها أيضا لم تتنازل عن مبادئها الأساسية التي ذهبت بها إلى المفاوضات. صحيح تم إبطاء مشروعها النووي، لكن إيران بوسعها أن ترى في الاتفاق اعترافا واقعيا من العالم بحقها في تخصيب اليورانيوم. وحتى اليوم سجلوا تقدما جوهريا في سلسلة طويلة من القضايا، حتى إن كانت وتيرة تطور الأمور لم تناسب التوقعات المتشائمة لأجهزة الاستخبارات الغربية في العقدين الأخيرين. وتسمح مخزونات اليورانيوم المتوافرة لإيران ب«الاختراق» وإتمام التخصيب بدرجة عالية، عسكرية، خلال شهور قليلة. كما أن صواريخها لا تزال تهدد دولا كثيرة بينها إسرائيل. ويقدر خبراء كثر حاليا أن المدة التي يحتاجها الإيرانيون لإنتاج رأس حربي نووي لهذه الصواريخ قد قصرت جوهريا. والآن في ضوء الخطر الفوري الذي شكله الاعتراض الدولي لتقدم المشروع النووي على بقاء النظام – دائما، الهدف الأول في الأهمية عنده - قررت القيادة المساومة. فالضرر الاقتصادي وخصوصا الإحباط في صفوف الجمهور الإيراني أمليا التسوية في جنيف، لكنها تبدو كتسوية يمكن لآيات الله أن يتعايشوا معها. وكل ذلك لم يكن ليتحقق مع مانع صواعق مثل الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. ولكن مع حسن روحاني المعتدل، ووزير الخارجية محمد ظريف، خريج الأكاديميا الأميركية مندوبا لطهران في المحادثات، تغدو النتيجة مختلفة تماما. فسلوك الوفد الإيراني في جنيف، أيضا مع الصحافيين الأجانب، عبّر عن عودة واثقة بنفسها إلى حضن الأسرة الدولية. وللحظات بدا وكأن الغرب تاق لمعانقة إيران، وتحديدا تم استقبال الممانعة والشكوك الإسرائيلية إزاء الاتفاق بعدائية. ويبدو أن القيادة الإيرانية تتصرف حاليا بحكمة وحذر نسبيين: يمكن تقدير أن الاتفاق الانتقالي لا يمنعها من التقدم والإعلان عن إنتاج قنبلة نووية، إذا نشأت في المستقبل ظروف مريحة، عندما يتوجه اهتمام الغرب إلى مكان آخر. والآن، بمنطقها، إيران هي دولة حافة نووية وقد توقفت لاعتباراتها. على الدول العظمى الاعتراف بذلك. ويمكن لإيران أن تسجل لنفسها إنجازا استراتيجيا آخر، بعد تدخلها في الحرب الأهلية السورية (وخصوصا قرار إرسال مقاتلي حزب الله من لبنان إلى هذه المعركة) ساعدتها حتى الآن في إنقاذ نظام الأسد. وهذه مقاربة دولة ترى نفسها قوة عظمى إقليمية، لها مصالح في كل أرجاء الشرق الأوسط. وقد أنتج الاتفاق النووي دعوة لطهران للمشاركة في بلورة مصير سوريا في مؤتمر آخر يخطط لعقده في جنيف في مسعى لإنهاء الحرب الأهلية. من جهة أخرى، من الجائز أن شهر العسل المستجد مع الغرب سيلزم طهران بكبح بعض من تدخلها في الأعمال الإرهابية، وخصوصا تعاونها مع حزب الله في الهجمات ضد أهداف إسرائيلية في الخارج. أما بخصوص أميركا فهناك فجوة لا بأس بها بين الشكل الذي تبدى به الاتفاق الانتقالي في واشنطن وردود الفعل في الشرق الأوسط. ورغم أن في الجناح المتطرف للحزب الجمهوري (بين من يهتمون بالقضايا الخارجية) وفي أوساط أصدقاء إسرائيل في الكونغرس وجهت انتقادات لسلوك إدارة أوباما، فإن البيت الأبيض ووزارة الخارجية رأيا الاتفاق كإنجاز. وهو يضاف للتسوية التي تحققت في اللحظة الأخيرة في نهاية آب مع روسيا، ومنعت هجوماً أميركياً في سوريا مقابل تفكيك مخازن السلاح الكيماوي لنظام الأسد. إن اتفاق جنيف والمسألة السورية قبله – حينما هدد الرئيس باراك أوباما بمهاجمة سوريا ردا على قتل حوالي 1500 مدني بأيدي النظام في هجوم بالسلاح الكيماوي - يعزز تفضيل الإدارة للديبلوماسية والاتفاقيات على الاستخدام المكثف للقوة العسكرية. لقد استخدمت أميركا في العقد الأخير تكنولوجيا متطورة وقوة دمار هائل في حربيها في أفغانستانوالعراق، لكنها أنهتهما بنتائج استراتيجية محبطة. وهي الآن تجرب وسائل أخرى، من استخدام القوة الناعمة، ديبلوماسيا واقتصاديا، وصولا إلى الحرب السايبرية وأعمال التخريب من تحت الرادار. وهذه المقاربة تندرج في بعدين آخرين في سياسة الإدارة. الأول، وقد كتب عنه الكثير، يتعلق بنقل التركيز الاستراتيجي نحو اتجاه الاقتصاديات الصاعدة في شرق آسيا. فالارتباط الأميركي المتقلص بنفط الشرق الأوسط والضجر المتزايد من الفوضى في العالم العربي يوفران حافزاً آخر. والبعد الثاني يتعلق بمساعي واشنطن للبحث عن نقطة توازن بين الأقطاب المتصارعة داخل العالم العربي. وقد توقعت إسرائيل في السنوات الأخيرة أن تعزز أميركا الكتلة السنية المعتدلة، وفيها مصر والسعودية والأردن ودول الخليج، في صراعها ضد الكتلة الشيعية بقيادة إيران. ولكنْ مشكوك أن أميركا تواصل تقسيم المنطقة إلى أخيار وأشرار. وعندما أوضح مستشارو أوباما قبل عامين ونصف عام أن الرئيس تبنى استراتيجية «القيادة من الخلف» (في سياق إسقاط نظام القذافي) صاغوا تعبيرا يطارده منذ ذلك الحين. السعوديون والمصريون، مثل الإسرائيليين، سمعوا «القيادة من الخلف» وفسروها كتحضير للانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط وكتعبير عن عدم استعداد الإدارة لمواصلة استخدام القوة العسكرية في المنطقة. ومشكلة أوباما الأساسية بعد الاتفاق، كما أحسن تشخيصها هذا الأسبوع رجال معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، هي انعدام الثقة من جانب الدول الحليفة بشأن قدرته على تنفيذ تصريحاته. فالعواصم السنية تتذكر البيت الأبيض، بالعار الأبدي، تنصله السريع من نظام مبارك في مصر في يناير 2011، والتواءاته بشأن الاعتراف بالجنرالات الذين سيطروا على الحكم في القاهرة في تموز الماضي، وتراجعه في العراقوأفغانستان. والدول السنية، خاصة السعودية وإمارات الخليج، قلقة ليس فقط من الانسحاب الأميركي من المنطقة بل أيضا من صعود قوة إيران. والاتهامات لإيران لا تقتصر على المطامح النووية، حيث يرقب الخليجيون بذعر أيضا النشاطات الإرهابية المتشعبة لفيلق «القدس» في الحرس الثوري، والتدخل المتزايد لإيران في النزاعات الدموية بين الشيعة والسنة في المنطقة، وعلى رأسها الحرب الأهلية في سوريا. وبدا الترحيب السعودي باتفاق جنيف شكاكا واضطراريا. برز فيه القول ان الاتفاق يبعث على الأمل، «ما دامت هناك نيات طيبة». وأوضح مسؤولون سعوديون تحدثوا إلى صحافيين وباحثين في الغرب أن بلادهم ستضطر لدراسة امتلاك سلاح نووي، كوزن مضاد، إن لم تقتنع بأن الصفقة ستوقف الذرة الإيرانية. أما في إسرائيل فإن اتفاق جنيف يعبر عن تحول حاد في الواقع المتغير بشكل متطرف في السنوات الثلاث الأخيرة. وقد جاء بعد موجة هزات سابقة، من سقوط مبارك إلى تفكيك السلاح الكيماوي السوري. ولكن يبدو أنه يتعذر على القيادة الإسرائيلية استيعاب أن تل أبيب لم تعد في المركز، خيرا أو شرا. ومثلما لم تكن إسرائيل أبدا الهدف الوحيد للمشروع النووي الإيراني، فإنه لم يكن لها سوى دور ثانوي في الجهد العالمي لإحباط المشروع. والاتفاق ليس كاملا لكنه أيضا ليس نهاية العالم. هذا واقع: تحققت هنا مهلة حيوية، تسمح ظاهريا بمعالجة معمقة للمسألة النووية وفرصة لتحقيق تسوية دائمة تقلص الخطر على إسرائيل. ولنتنياهو مبررات جيدة للغضب من أوباما. فقد غضب عندما اكتشف، قبل شهرين، المفاوضات السرية بين أميركا وإيران. والتنسيق الأميركي الإسرائيلي بشأن إيران مضعضع منذ ترك توم دونيلون رئاسة مجلس الأمن القومي الأميركي. صحيح أيضا أن الأميركيين، الذين أداروا مثالياً العقوبات الدولية، أخفقوا في اللحظات الحاسمة وعادوا من جنيف باتفاق يعتريه الخلل. وبدا للمراقبين الإسرائيليين أن أميركا ارتعبت في اللحظة الأخيرة وخافت من الحرب، فيما كان ينبغي للإيرانيين أن يخافوا. ورغم ذلك، بدا أن هذه هي اللحظة المناسبة للتحرر من أوهام العظمة الإسرائيلية. إسرائيل تعمل على نقيض مصالحها عندما تتشاجر علنا ومطولا مع الولاياتالمتحدة. هناك فارق بين الانتقاد الجوهري والأجواء الحالية المسممة. والمعركة الإيرانية لم تنته. فالمرحلة الحاسمة، مفاوضات التسوية الدائمة، يفترض أن تبدأ. وينبغي لإسرائيل أن تعيد صوغ الهدف الذي يهمها للاتفاق النهائي وأن تبذل قصارى جهدها لتحقيقه، بالتنسيق مع الأميركيين والأوروبيين. هناك قضايا حاسمة لا يزال بالوسع تحقيق نتائج جيدة فيها، مثل ضمان مراقبة أفضل لما يجري في المنشآت النووية، تطوير قدرات لجمع وتحليل المعلومات الاستخبارية، المنسقة مع دول الغرب ومحاولة «الدحرجة للوراء» قدر الإمكان لنقطة بقاء القدرة الإيرانية في التسوية النهائية. هناك أيضا أهمية لإعداد خطوة منسقة مع إدارة أوباما لفرض عقوبات إضافية سريعة، إذا تبين أن الإيرانيين يخدعون وأن الاتفاق ينهار. وكل ذلك يمكن أن يحدث فقط إذا كفّت إسرائيل عن التصادم علناً مع الولاياتالمتحدة. وترداد نتنياهو لعبارات «الاتفاق سيئ» يمكن أن تضعه في خانة رجل الأمس. رئيس الحكومة بقي في وعي الإسرائيلي، كما كان سفيرا في الأممالمتحدة قبل ثلاثين عاما، كمنذر من المخاطر على البوابة. حينها، في الثمانينيات، كانت مواضيعه المحببة هي مخاطر الإرهاب الدولي وتنكيل سلطات الاتحاد السوفياتي بيهود روسيا. ومع السنين، اقتنع كثير من الإسرائيليين بأن نتنياهو هو الرجل المناسب لحمايتهم من المخاطر المتنوعة في الحي غير الودود الذي نقطن فيه. ولكن المخاطر تغيرت. في هذه الجولة، مقابل خصم ذكي وعازم كإيران، لم تعد تكفي الصيغة السحرية للخطابات البراقة، وذكر المحرقة والتلويح بقدرات الهجوم البعيدة المدى لسلاح الجو. عاموس هارئيل «هآرتس» 29-11-2013