وصلت صنعاء فجراً وهي مدثرة بحاجب من الظلمة اخافني لقد تخيلت انها مدينة أخرى رغم ان الباص توقف في مكان المعتاد منذ سنين , شعرت بالغربة ما إن احسست بقرصات البرد التي زادها الظلام والسكون المطبق قوة و تأثير , ركبت سيارة تاكسي إلى إحدى الفنادق المتوسطة كان كل شي هادئ مظلم وينم عن تعاسة لا مثيل لها غير انني ربما كنت المتفائل الوحيد في ذلك العالم لا اخفي كم شعرت بالخوف عند رؤية المتاريس المنتشرة حول الابنية و المقرات الحيوية لقد رأيت كافة انواع الاسلحة والمدرعات تطفو و تغلف شوارع صنعاء وازقتها بشكل بربري يزيدها تعاسة . اخذت غفوة قصيرة و ما إن بدأت اشعة الشمس تخترق غرفتي من كوة زجاجية صغيرة – كانت الوحيدة في غرفتي المعزولة عن العالم – حتى اسيقظت مسرعاً وخرجت كعادتي عندما ازور صنعاء إلى كفيريا الاصدقاء , لم يتغير شي الامور كما هي غير ان الفرق في اسعار الوجبات والمسلحين الذين يأتون من التحرير – انصار الشعيرية الدستورية – همجية المسلحين وضعف الحركة في الشارع المؤدي إلى قصر الصداقة كان يبعث في داخلي إحساس بعدم الامان و كنت ابذل جهدي فمع كل قضمة ابلع خوفي الذي خاف ان يراه احد . مررت بجولة النصر – كنتاكي – شاهدت القتله قبل ساعات من المجزرة ولم اكن اتصور انني ربما لن امر من نفس المكان إلى اجل مسمى , كان كل يوم مغامرة جريئة وحكاية دسمة مليئة بالقرارت الصعبة والاحداث المؤسفة ففي طريقي إلى هائل اقضي ساعتين إلى ثلاث بين المواصلات وطلقات الرشاشات والشوارع المغلقة بعد ان كنت اصل في ربع ساعة . الحياة في الفندق كئيبة سكون مطلق تغتصبه طلقات الرصاص و إنفجارات عنيفة تهز المبنى حتى كأني اسمع صوت زجاج الشرفة الصغيره الوحيدة ضف إلى ذلك إنعدام الكهرباء اغلب اليوم ويعمل مولد الفندق ثلاث ساعات فقط ننتظرها بفارغ الصبر لنشحن بطارية التلفون او نعرف مايجري حولنا بواسطة التلفاز . سبعة ايام قضيتها احمل في جيبي بطاقة شخصية ووصيتي اليت قررت ان اكتبها عندما رايت بعيني الدماء تسيل والناس يقتلون في جولة عشرين ويسعفون بواسطة الدرجات النارية وهم ينزفون في تلك اللحظات عرفت انني بين يدي ربي وحده يعلم إن كان لي عمر فقد ذهبت ارواح اناس كانوا احياء امامي يمشون كما نمشي إلا ان عمرهم قد انتها . سبعة ايام نصحو ونمسي على اصوات الرصاص و دوي الإنفجارات عشتها وحيداً في غرفة منعزلة لا يختلف ليلها عن نهارها او امسها عن غدها كان وحده الإيمان يملاء ما بقى من روحي التي اسلمتها على وجل إلى بارئها راجياً منه السلامة . ليالي سوداء خلت فيها الشوارع من البشر – لإنعدام الامن – خرجت فيها جائعاً ابحث عن مطعم او كفتيرياء كسر حاجز الخوف ليبقى حتى ساعة متأخره واحياناً لاجد غير البسكويت بأنواعها والعصائر طعاماً يقي من البرد والجوع , تستوي بالنسبة لي في تلك الايام الخيارات فلا فرق بين الاسود والابيض لان الظلام والخوف يفقدك الشعور بكل شيئ . إن الشعور بالأمان مصطلح مجازي لكثير من الناس لكن مهما كان فإنعدامه امر لايفضل تجربته لان حتماً تجربة قاسية ومؤلمة تفقد فيها الحياة الكثير من قيمتها وتنحصر مظاهر الحياة في الاكل والشرب الذي يصبح عملاً يومياً و إجباري . امر واحد كان يخرجني من برزخ الوحدة و الخوف إلى عالم الحياة و السلام , حديقة اطفال امام الفندق يهب عليها نسيم تائه يصدر بحركة اغصانها موسيقى عذبة تبث في داخلي صدى آمال مسترسلة من ماضي يبدو مبتعداً يوماً بعد يوم , في اليوم الاخير بعد ان وصل بي اليأس مبلغ لا حد له خرجت من الفندق فإذا بالحديقة مليئة بالاطفال يلعبون بكل براءة يتضاحكون في سرور وفرح غامرين كنت احسدهم على لحظة ربما لم ينعموا بها منذ امد طويل , وحتى لحظة سفري عائداً إلى امي العزيزة المكلا كانت طلقات الرشاش الثقيل 12\7 تمزق طبلة اذني وتفت اشلاء اليلة الاخيرة لي في صنعاء , بل لا اخفيكم ان الطلقة الاولى افقدتني الوعي لوهلة حتى كدت اقع على الارض لقد كان مطلق النار على مقربة مني و من شدة الظلام كنت لا ابصر سوى الافق خطاً وهمياً امامي علي ان اصل إليه لاركب الباص الذي وقف خارج صنعاء ينتظر الكثير ممن قرر الرحيل . بوصولي إلى المكلا اعتبر ان فصل مهم من فصول حياتي اصبح تجربة ثمينه بغض النظر عن ما احتواها من خطر فأمان المكلا وطيب هوائها اعاد إلى نفسي السلام الذي يتمناه الكثير فقد اصبحت كل لحظة ثمينة ولا تقدر بثمن لنشكر ربنا على نعمة النوم الهادئ و الفراش الدافئ فقد رأيت بام عيني اطفال خائفين وشبان يبحثون عن الرزق تحت ازيز الرصاص غير مبالين قلوب واجفة لاتعلم ما نحن به من نعيم . في كل لحظة اشعر فيها بصفاء في القلب و سكينة في النفس اتذكر ايام قضيتها على امل ان اعيش ليوم آخر فأشكر ربي على كل شي و على مكلانا البهية مأوى المحبين وملاذ العاشقين . لم انجز المهمه التي اتيت من اجلها لكني تعلمت درساً هاماً سأتذكره مابقيت ….