يرى المفكر الاقتصادي العربي سمير أمين أن الأزمة الحالية للاقتصاد الرأسمالي هي أزمة بنيوية، لذلك فإن علاجها الجذري لن يكون إلا من خلال تجاوز هذا النظام ككل، كما أن التحسن الذي يعرفه الوضع الاقتصادي الرأسمالي الآن ما هو إلا نتيجة لإجراءات الدعم المالي المتبعة من قبل الحكومات الغربية المختلفة، لذلك يرى أن الأزمة لن تلبث أن تعود بأشكال جديدة في السنوات القادمة.. وهو أمر يبدو طبيعيا، فالأزمات هي من طبيعة النظام الرأسمالي ومن أهم مميزاته، إذ إنه عادة ما يعرف أزمات دورية قصيرة أو طويلة المدى. وقد بينت التجربة التاريخية أنه، ورغم تلك الأزمات الدورية، التي عرفتها الرأسمالية، بأشكالها وأنواعها المختلفة، غير أن هذه الأخيرة تمكنت في كل مرة من تجاوز الآثار المترتبة عليها وتجديد نفسها وآليات عملها والانطلاق من جديد في عمليات النهب والتدمير والقهر. غير أن ما ميز هذه الأزمة الجديدة، التي لا زالت آثارها المدمرة سارية المفعول، هو أنها كشفت عن الكثير من عجز هذا النظام وعن عوراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مما حدا بآيرين خان، رئيسة منظمة العفو الدولية السابقة، إلى القول بأن "الأزمة الاقتصادية العالمية تتطلب من قادة العالم نوعا جديدا من القيادة". وطالبت هؤلاء بعمل جدّي وحقيقي يتخذ من حقوق الإنسان مرتكزاً لمعالجة الفقر المتنامي في شتى أنحاء العالم والاستثمار في حقوق الإنسان بالحماسة نفسها التي يهرعون بها نحو الاستثمار في النمو الاقتصادي.. وتبرز في سياق هذا القول حقيقتان، تتعلق الحقيقة الأولى بمسألة النظام السياسي الذي يستند إليه النظام الرأسمالي أي النظام الديمقراطي؛ أما الأمر الثاني فيتعلق بانتشار ظاهرة الفقر على المستوى العالمي وحتى في الدول الديمقراطية المتقدمة. وإن تأكدت مظاهر أزمة النظام الديمقراطي الحديث ومؤسساته وتنوعت ومسّت كل دول العالم، بما في ذلك الدول الغربية رغم تجربتها العريقة في هذا الميدان، فإن الخلاف في الرأي بين المشتغلين بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، ظل متواصلا، حول تحديد أبعاد أزمة الديمقراطية فكرة وممارسة وهي التي تعرف الآن تراجعا وانتكاسة، إذ يعتبرها البعض أزمة بنيوية في الوقت الذي يراها البعض الآخر مجرد أزمة ركود عابرة وظرفية.. وإذا كانت أزمة التجارب الديمقراطية، بمختلف مسمياتها، خارج دول الغرب الرأسمالي بيّنة وواضحة من حيث طبيعتها وأشكالها، فإن أزمة الديمقراطية في الغرب لا تبدو كذلك إذ تتخذ مظاهر وأبعاد أخرى: فرغم ما يتمتع به الفرد في الديمقراطيات الأوروبية "العتيقة" من مستوى تعليمي راق وإدراك كبير لمصالحه وحقوقه وبمستوى محترم من العيش الكريم وبحرية واسعة وضمانات مؤكدة لكرامته الإنسانية وحقوقه لكن، ورغم هذه الإمكانيات الهامة، تبدو المشاركة السياسية للمواطنين محدودة، إذ أخذ عدد كبير جدا من المتحزبين في مغادرة الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية المختلفة، لأسباب أو أخرى، كما ابتعد المناصرون عنها في الوقت الذي تضاءل تفاعل الناس مع نشاطاتها وتظاهراتها كما تراجعت أرقام مبيعات صحف تلك الأحزاب والمنظمات ونشرياتها مقابل التجاء المواطنين إلى منظمات المجتمع المدني ودعمها والتبرع لصالحها والتفاعل مع برامجها ومختلف أنشطتها داخل أوروبا وخارجها... ومن مؤشرات أزمة الديمقراطية الغربية لامبالاة قطاعات واسعة من المواطنين بالانتخابات التشريعية والرئاسية التي تجرى في بلدانهم دوريا وإقبالهم المتواضع للمساهمة في تلك العملية وهو ما تُفصح عنه أغلب نتائج تلك الانتخابات... وقد ازداد انكشاف السلوك السياسي "العدواني" لتلك الديمقراطيات تجاه الآخر، أي العالم غير الأوروبي، إذ ساهمت حكوماتها في تأجيج الصراعات الداخلية والحروب الأهلية والنزاعات الإقليمية للكثير من بلدان الجنوب وفي إعاقة الكثير من التجارب الديمقراطية والتحررية في تلك البلدان وهي نفسها التي لم تتردد عند "الضرورة" بالإطاحة بالأنظمة المناوئة لها تحت مبررات واهية غالبا، متجاوزة بذلك دساتير بلادها ومجالسها النيابية ومجموع القيم الأخلاقية والإنسانية والقوانين الدولية التي تحتكم إليها. إذ لم تتردّد في إسقاط الأنظمة واحتلال الدول ذات السيادة، كما كان الشأن بالنسبة إلى دولة العراق وأفغانستان مطلع القرن الجديد، والسماح لجنودها وأتباعها بممارسة شتى أنواع الإذلال والنهب والتدمير المنظم ضد السكان والمنشآت الخاصة والعامة في الوقت الذي تدعي تلك الأنظمة حرصها على نشر قيم الحرية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان. لقد كشفت الأزمة الحالية جانبا آخر من معاناة البشر ودفعت بها إلى السطح، وأهم ما كشفت عنه تلك الأزمة ظاهرة "الفقر والبطالة" التي لم تعد مقتصرة على دول الجنوب بل مست أيضا الدول الديمقراطية التي أصبحت بدورها تئن من تبعات تلك الآفة البشرية. لا شك أن نسبة الفقر وحجمه وطبيعته تبدو مختلفة من بلد إلى آخر وخاصة بين دول الجنوب ودول الشمال، غير أن الكثير من حكومات هذه الدول الأخيرة قد أقرت بتفاقم الظاهرة وتوسعها.. من ذلك اعتراف الحكومة اليابانية الجديدة لأول مرة بوجود هذه الظاهرة في المجتمع؛ وبين وزير الصحة والعمل أن نسبة الفقر في بلاده قد بلغت 15.7 في المائة، والتزم بالتصدي لها ومحاربتها وإيجاد الحلول الناجعة للقضاء عليها. كما أظهر تقرير رسمي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، مؤخرا، ارتفاع معدل الفقر سنة 2008 إلى أعلى مستوى له خلال أحد عشر عاما، وشرحت إدارة التعداد السكاني أن معدل الفقر ارتفع من 12,5 في المائة في سنة 2007 إلى 13,2 في المائة سنة 2008، وهو أعلى مستوى له منذ العام 1997. وأشارت الإدارة إلى أن هذه هي أول زيادة مهمة من الناحية الإحصائية في المعدل السنوي للفقر منذ سنة 2004، بالإضافة إلى ذلك انخفض متوسط الدخل الحقيقي للأسر بمعدّل 3,6 في المائة. أما في دول الاتحاد الأوروبي فيبدو الأمر أخطر، إذ أشارت بعض الدارسات الصادرة مؤخراً أن نحو 80 مليون مواطن أوروبي، أي ما يعادل 17 في المائة من عدد السكان، يعيشون تحت خط الفقر. كما ارتفعت معدلات البطالة الرسمية بشكل كبير، فحسب المكتب الإحصائي للمجتمع الأوروبي "يوروستات" وصلت البطالة في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس 2009 إلى ما يزيد عن عشرين مليون عاطل، وهو ما يمثل زيادة بنحو أربعة ملايين عاطل مقارنة بالسنة التي قبلها. وفي إسبانيا مست البطالة أكثر من ثلث السكان "17.4 بالمائة" وأعدادا متزايدة من خريجي الجامعات، كما تضاعفت البطالة خلال الفترة ذاتها في أيرلندا، بينما تزايدت بمقدار ثلاثة أضعاف في دول البلقان في أستونيا وليتوانا ولاتفيا خلال سنة واحدة.. وتتدحرج بعض الأقاليم في إسبانيا الجنوبية وإيطاليا الجنوبية والبرتغال واليونان وبعض المناطق من شرقي ألمانيا نحو فقر مدقع، بمعدل 25 إلى 50 بالمائة وبطالة واسعة. ويشير نفس التقرير إلى أن الضحايا الأكثر تأثراً بالبطالة والفقر في دول الاتحاد الأوروبي هم من الأطفال والشباب. أما في إسرائيل التي يعتبرها الغرب واحة للديمقراطية في منطقة "الشرق الأوسط" فقد بيّنت معطيات مؤسسة "التأمين الوطني" فيها أن ربع الأسر من المجتمع خلال سنة 2009 تعيش تحت خط الفقر، فيما ثلث الأطفال أي نحو 780 ألف طفل، يعيشون في أسر فقيرة ويعتبرون فقراء، مع العلم أن ثلثي الأسر الإسرائيلية مكونة من ابن واحد أو اثنين وأن 20 في المائة منها مكونة من 3 أبناء، و4 في المائة منها مكونة من 6 أبناء، أما عدد الأسر أحادية المعيل فيصل إلى 130 ألف أسرة، غالبيتها العظمى "97 في المائة" تعيلها امرأة. وأظهرت دراسة أجرتها جامعتا "بار إيلان" الإسرائيلية و"بريستول" البريطانية، أن فقراء إسرائيل معرضون للبقاء من دون غذاء 6 مرات أكثر من الفقراء البريطانيين، كما أنهم أكثر عرضة لانقطاع الكهرباء والهاتف بأربع مرات. وإذا كان هذا حال دول الشمال المتقدمة، فكيف يبدو حال دول الجنوب النامية؟ وأي مسؤولية للدول الرأسمالية الغربية عما يحدث؟ تشير بعض التقارير الصادرة عن الأممالمتحدة إلى أن 33 في المائة من شعوب الدول النامية يفتقرون إلى المياه الصحية النظيفة، وأن 25 في المائة منهم محرومون من السكن اللائق، و20 في المائة يفتقرون إلى الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية. كما أن 20 في المائة من سكان عالم الجنوب لا يكملون تعليمهم الأساسي بسبب الفقر، و20 في المائة من طلاب تلك الدول يعانون من سوء التغذية والأنيميا الحادة، وأن 2.8 مليار نسمة يعيشون على أقل من دولارين في اليوم للفرد الواحد. أما عدد العاطلين، حسب منظمة العمل الدولية، فيتراوح ما بين 39 و59 مليونا سنويا، وسيبلغ خلال هذه السنة نحو 239 مليوناً على مستوى العالم. فمن يتحمل مسؤولية كل هذا البؤس والعار؟ قد يكون الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو، بجرأته المعتادة محقا حينما عقد مقارنة مباشرة بين مسؤولية النظام النازي عن جثث الهولوكوست، ومسؤولية النظام الاقتصادي العالمي الراهن "الديمقراطي" عن جثث الجائعين في أفريقيا. اليوم وبعد مرور نحو 65 سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية لصالح الديمقراطيات وتأسيس منظمة الأممالمتحدة وبعد انتهاء الحرب الباردة لصالح النظام الرأسمالي الديمقراطي، يجد عالم اليوم نفسه وهو "يجلس فوق قنبلة اجتماعية وسياسية واقتصادية موقوتة"، لا يعرف أحد المآسي اللاحقة التي ستتولد عن انفجار تلك القنبلة سواء في دول الشمال أو دول الجنوب.. إنه ثمار زمن الديمقراطية- الرأسمالية الموحشة في مرحلة العولمة. عن "عرب اونلاين"