شهر مضى على العدوان الصهيوني على لبنان.. مقابل شهر من صمود المقاومة اللبنانية بوجه الترسانة الإسرائيلية والأمريكية معاً.. وسواء وضع العدوان أوزاره بموجب قرار مجلس الأمن أم واصل صلفه الصهيوني، فإن تجربة حزب الله مثلت مدرسة لا يمكن أن يفوتنا حظ استلهام دروسها. يمكن القول: إن حزب الله فرز صورتين الأولى لمقاومة وطنية تواجه العدو وجهاً لوجه، ورجلاً لرجل وتسقط كبرياءه وغروره بكل بسالة، وصورة ثانية للتيارات التي طالما وصفت نفسها ب"إسلامية" وفي مقدمتها تنظيم القاعدة لكنها اختارت أن تقتل المدنيين وتفجر المنشآت المدنية بدلاً من مواجهة الخصم بكيانه العسكري "السيادي".. وبالتالي فإن معركة لبنان أظهرت مدى هشاشة تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات «الإسلامية» التي تتبنى تنفيذ عمليات كالتي تحدث على الساحة العراقية تقتل المدنيين بوحشية فيما تطلق العنان للعدو ليسرح ويمرح وينفذ مخططاته كيفما شاء. وهنا كان لا بد من التفكير ملياً بطبيعة العلاقة التي تربط هذه التنظيمات بالقوى الامبريالية العالمية في مقدمتها الولاياتالمتحدة التي سبق أن أنتجتها، وزجتها في حروب كبيرة بالنيابة عنها.. وهي اليوم لا تقتل الأمريكيين في العراق بل تذبح العراقيين وسط الأسواق والمدارس والمساجد وفي داخل بيوتهم، بينما تقف دبابات وقوات الاحتلال آمنة على أرصفة كل شوارع العراق، بل في كل العالم الإسلامي خاضت الولاياتالمتحدة حربها باسم تنظيم القاعدة بينما ظل زعماء القاعدة في مأمن من الأذى! مدرسة المقاومة اللبنانية كشفت أيضاً هشاشة الأنظمة العربية التي ظلت تتوارث أسطورة التسليح الصهيوني، وتخلع عليه ألقاباً مثل أعتى الترسانات الحربية بالشرق الأوسط، وأقوى جيوش المنطقة وغير ذلك بينما نجحت قوات حزب الله بعددها المحدود، وإمكاناتها المادية الضئيلة، وبصفتها كتنظيم وليس دولة مؤسسات أن تقهر العدو الصهيوني، وتذل زعاماته الفاشية.. المقاومة هزمت جيش العدو على عدة مستويات: أولاً: قهرت آلته الحربية الحديثة ودمرت دباباته وبوارجه وزوارقه رغم أنها مزودة بحماية ذاتية الكترونية؛ وثانياً: قهرت جهاز الموساد الصهيوني عندما ألقت القبض على عملائه في اليومين الأولين للحرب وجعلته يتخبط ويفشل في تغذية الوحدات العسكرية بالمعلومات الاستخبارية التي تتطلبها أي حرب؛ وثالثاً: قهرت العدو إعلامياً، إذ أن الخطاب السياسي الموزون، والصراحة والمصداقية، وتغليب المنطق على العاطفة، والتوقيت الجيد للخطاب جعل حزب الله يحظى بتعاطف دولي وبشعبية غير مسبوقة لأحد من قبله لدرجة أن يهود إسرائيل فقدوا الثقة بقيادتهم السياسية ووسائلهم الإعلامية وباتوا يستقون الحقائق من إعلام حزب الله نفسه. وبذلك فإن المقاومة اللبنانية أسقطت هيبة كيان "الدولة" الصهيونية، وبدلت معادلات القوى في منطقة الشرق الأوسط وهو ما عجزت على فعله الأنظمة العربية، وغاصت أقدامها بوحل المساومات والتسويات الخاسرة مخافة وهم جبروت مصطنع لا وجود له إلاّ في رؤوسهم، وفيما تغرسه الولاياتالمتحدة من رعب في نفوسهم عبر تقنيات الحرب الإعلامية العصرية. إن مدرسة المقاومة اللبنانية أكدت دروساً مهمة بينها أن صلف القوة لا يردعه غير القوة، وأن العنف المضاد هو السبيل الأقوم لمنع الخصم من التمادي، خلافاً لما كان سائداً في المنطقة العربية بأن المساومات «السلمية» هي الحل الأمثل للتعايش بين الدول والتي قادت إلى خسائر فادحة تكبدها العرب جراء "المهادنة" والشعارات الفضفاضة التي يرفعونها في وقت يصر العدو على تكرار عدوانه، ومجازره، وتخريبه للبنى التحتية، وانتهاك الأعراض والكرامات ولا يكف حتى يرتوي من الدماء، ليعود بعد أشهر ليكرر جرائمه مستقوياً بسياسة "المهادنة" والتسويات السلمية التي يتشبث بها العرب رغم كل تجاربها الخاسرة مع الخصم نفسه. لو أن حزب الله هرول على ذلك الطريق لكانت إسرائيل اليوم تخوض حربها في دمشق، لكن صمود مقاتليه، وإيمانهم بعدالة قضيتهم كان كفيلاً بتلقين الكيان الصهيوني درساً لن ينساه على مر التاريخ البشري.. ومن المؤكد أن العدو الصهيوني لن يجرؤ بعد اليوم لتقديم خيار الحرب في مواجهة لبنان كأول الحلول أو السبل لبلوغ أهدافه، وسيفكر القادة الصهاينة ألف مرة قبل التورط بمغامرة أخرى. مدرسة المقاومة اللبنانية أعادت للإنسان العربي والمسلم ثقته بنفسه، واعتداده بذاته، وقتلت في صدره روح الانهزامية التي رسختها أنظمة التطبيع الانهزامية، والحكومات الذليلة.. وبالتالي فإن الزمن القادم لن يكون زمن مهادنات وتسويات، بل زمن حركات التحرر العربية التي تعيد الحسابات إلى عهود الأربعينيات والخمسينيات حين انتفض العالم العربي بوجه كل قوى الطغيان، وأنهى أساطير الامبراطوريات الاستعمارية.