تعترض حياتنا كثير من المواقف السعيدة، وكثير منها تلك المواقف الحزينة التي تحفر في الذاكرة هذه الأحاسيس التي شاع تسميتها بين الناس ب"الحزينة" لأنها تثير في النفوس مرارة وغصة وألم، الآمر الذي يجعل من الدموع تعبير لا إرادي ويجعل من البكاء صوت يلفت الأنظار ويطلب الشفقة. ولكن الصادق في تعامله مع الناس هو الذي يملى عليه ضميره ألا يخاف من هذه المواقف، ولو مرت عليه في أوضاع مختلفة.. والصادق في تعامله هو صاحب الإرادة القوية، وفي نفس الوقت هو صاحب القضية العادلة وأيضا صاحب السلاح القوى. وكم من قصص عاشتها الأزمان وتناقلتها الأجيال لأفراد كان الصدق نجاحهم- ولنا في سيدنا يوسف عليه السلام الأسوة الحسنه، ولنا في رسولنا الكريم محمد صلى لله علية وسلم المثل الأعلى في انتصار الصدق على كل الصعاب، وبلوغ الغايات العظيمة عن طريق الخط الفطري الذي أمنه الله لعباده وهو الصدق والصبر على الشدائد. كثير منا - رجال كانوا أم نساء- بالصبر والعزيمة الصادقة وصلوا ونالوا الذي تعبوا للحصول على محتواه، ولكن لن ننسى فضل الله علينا الذي هوا أساس لكل ما نبحث عنه في كل ما أوجده في هذه الحياة، ولكن من منا يفشل في هذه الحياة فيرجع السبب لعدم فهمه لمعنى الحياة، لان الحياة ليست فترة من الزمن لكي نطيع الله فيها فقط، ماكثين في جحورنا ننتظر يوم تنتهي فيه الحياة، ولكن لابد أن نذهب ونبحث عن كل ما نستطيع العلو والزهو به أمام الله وأمام الناس وأمام أنفسنا.. لماذا لا نكون مثل أمة لا يمكنها العيش بالجهل والأمية والتكبر؟ أو مثل أناس عجزت أجسامهم ولكن إرادتهم هي التي تدفع أجسامهم الساكنة إلى المضي في دروب هذه الحياة؟ ولا يخلو مجتمع من العاجزين ليس من كسل أو عجزا بل من ابتلاء بإمراض عصييه.. أو مثل شخص لا يعرف ملامح شكله أو تفاصيل جسده.. لا يعرف ما هي صور الحياة ولا أشكالها.. هذا الشخص كان لا يرى - أي لا يعرف- لا يستطيع أن ينظر إلى المستقبل المحجوب أمامه.. وكأنه يرى الحياة من مصباح كاد نوره أن ينتهي.. هذا الشخص فقد عيناه- أي إدراكه وفهمه، عالمه، حياته، كل ما خلق من اجله، ولكن لم ييئس، بل كافح ومضى في أشواك الحياة.. في البسمة التي تخفى الحزن.. في الوجود الذي هو من العدم في النور الذي أتى من الظلام ليذهب ويدرس ويتعلم.. بعد انتهائه من المرحلة الأساسية بما حوتها من مشاكل من زملائه الذين كانت أعين البعض منهم تقول: "يا لحظ هذا المسكين!".. وكانت أعين أخرى تنظر بازدراء فتقول: "ما حاجته في الدراسة!".. وكان هذا المسكين المتردد في خطاه يسمع أصوات تأتى بها الرياح إليه من أناس لا يعرفون ما معنى الإرادة- أطفال انظروا انه لا يدرى أين يسير؟ ورجال: "هل سيظل هذا الشخص عالة على المجتمع؟"، ومجالس نسوة تقول: "ادعوا لحال هذا المتخبط"!.. كانت الجملة الوحيدة التي يستطيع قولها هي: "سوف اصل.. سوف اصل" ولكن لم ينعكس هذا عليه سلبا بل زاده قوة وثبات، بل غير نظرة المدرسين وزملائه بما كان يزرعه من العلم الذي فاق زملاءه الآخرين بالرغم من انه يسمع فقط فكان يتلقى كلمات تحفر في القلوب الآلام وتثير في النفوس الشفقة.. ولكن إيمانه القوي بالله جعله يصمد ويصمد... وانتقل إلى الثانوية بعد أن رمى وراءه الماضي الكئيب ودرس في القسم الأدبي وتخرج وفي قلبه أمل الوصول، وتكملة المشوار ومواصلة السير لكي يدرس اللغة الأم "اللغة العربية". ووقف الحظ معه؛ وبالعزيمة الصادقة التي هي الأساس في الأعمال.. ودرس الجامعة وكان يذهب كل يوم دون انقطاع، ولم تسكت ألسنة الناس في الجامعة بل ظل الكلام على حاله واستمر، وكان هناك من يساعده على السير كان هذا الرجل المعين "ضعيف البنية كبير السن" بعد أن زاد عليه السن توفي وترك وراءه هذا المسكين يتخبط، يبحث على من سوف يعينه على تكملة مسيرته العلمية، ولكن دون جدوى فكان من أصدقاءه الأوفياء البعض منهم كانوا يساعدونه أيام وأيام يغلب عليهم الكسل ويظل هذا المسكين يمضى في أشواك الحياة القاسية . وأنهى دراسته الجامعية بنجاح وبدرجة امتياز وذهب إلى وسط الحي الذي يعيش فيه وفي تلك الفرحة التف حوله الصبية الصغار وهم يهتفون: هل نجحت؟ أنت الآن مدرس؟ هل سوف تدرسنا؟ . ولكن كيف سوف تدرس وأنت لا ترى؟!!.. سدت إمامه الأبواب، وقف هنا .. هنا محطة الوصول ..هنا النهاية يقول وهو يخاطب نفسه .. أنا الآن مدرس وعلى أن ادرس ولكن كيف سوف اشرح؟ كيف سوف اكتب؟ كيف سوف أرى الطلاب؟ وأنا بهذا الحال ولدت وسط هذا الظلام.. كيف سوف أمشي؟ كيف سوف اصعد وانزل وأمضى كل يوم إلى المدرسة؟ كيف، وكيف، وكيف؟!! تكسر أمامه الزجاج الذي كان يرى من خلاله بهاء الحياة. لقي الحقيقة أمامه، أين سوف يهرب؟ ذهب هذا المسكين يترنح من وزارة إلى وزارة من مدرسة إلى مدرسة.. من مكتب إلى مكتب ليبحث عن عمل لكي يحصد ما زرع بالأمس، ولكن من منا هذه الأيام يريد الذي لا يرى؟!!. فمن قصة هذا الشخص نعرف أن الظروف تقف أمام الرغبات عائقا، ولا بد أن نعرف أن ليس كل ما نريده سريع المنال وسهل الحصول عليه، وكما قال الشاعر : ( وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ) ولا نحكم على الأشياء قبل معرفة خيرها من شرها، نفعها من ضرها . أن لا ندع أملنا في بلوغ الغاية العظيمة يقف أمام الواقع الذي نعيشه لكي لا ننتهي بما لا نتمناه كقول الشاعر:- ( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن ) أيا ترى هل في الوجود ثمة حل لهذا المسكين غير السكون في ظلمة الإحباط؟! ......................... * كاتبة واعدة .. شجعوا مواهب الشباب!