أجمع الباحثون والدارسون لعلوم الحضارة الإنسانية على أن الحضارة في جوهرها ليست سوى حركة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأفكار والآراء وشتى ضروب خبرة الإنسان التي اكتسبها في خلال مراحل التاريخ، وهذه الأفكار والآراء والخبرات تنتقل من فرد إلى آخر، ومن أمة إلى أمة، وهي تهاجر دون أن تنقطع عن منشئها في كل هجرة من هجراتها العديدة المتكررة وتحرز فيها نجاحاً جديداً آخر وتقدماً أكثر تميزاً .. ثم تظل تكتسب في كل يوم تقدماً جديداً آخر إلى أن تبلغ مراحلها القوية المؤثرة التي تجعل منها حضارة من الحضارات المتميزة والمرموقة. كما أن هذه الحضارات مهما بلغت من الدقة والكمال، فإنها لا تقف عند قدر معين من بلوغها هذا .. لأن هجرة الأفكار تلك .. لا يمكنها أن تتوقف أو تتلكأ .. بل تظل مرتحلة تحمل معها بذوراً جديدة لأفكار جديدة ومن ثم لإنشاء حضارات جديدة أخرى .. وتظل تلك الحضارات تتنقل من موضع إلى آخر وتهاجر من أمة إلى أمة حاملة معها بذور تقدمها ومقومات نهضتها إلى أن تتناولها عقول أكثر تقدماً وأكثر تحرراً فتجعل منها ثورة جديدة في عالم الحضارات. وأغرب ما في هجرة تلك الأفكار .. أنها رغم اتخادها في كثير من الأحيان مسالك متعرجة وطرقاً ملتوية غير واضحة المعالم، إلا أن هذه الطرق المتعرجة وتلك المسالك الملتوية نجدها في الأخير تسير في خط لا يتعارض مع خط سير التاريخ نفسه .. فالتاريخ كما هو معلوم ليس تسجيلاً عملياً لتطور هجرة الأفكار، أو تسجيلاً لتقدم خبرة الإنسان، ومع هذا لا يمكن أن نجد فيه ما يفيد بتتبع قصة هجرة الأفكار بطريقة منتظمة متداركة الحلقات. بل أنه يجمع شتات عدد من الحضارات نشأت في أمكنة معينة وأزمنة خاصة، ويحاول الربط بينها لاستخلاص الروابط والصلات التي تجمع بينها، أو إرجاعها إلى أصولها الأولى ومصادر إرهاصاتها. ومن هذا التصور فقد كانت دراسة التاريخ (من حيث تطور الأفكار) تكاد تكون منقوصة وغير كاملة، لأن التاريخ مهما توسع في البحث والدرس لا يستطيع أن يرد كل تلك الأفكار بعد أن أخذت نصيباً من التجدد والتطور إلى مصادرها وشذراتها الأولى. فهذه الأفكار عند هجرتها وتنقلها من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى ومن أمة إلى أخرى فإنها لا تتخذ أشكالاً محددة نستطيع تمييزها، بل تعتورها في أثناء إنشاء هجرتها متغيرات قد تكون إيجابية أو سلبية وتطرأ عليها تطورات قد تكون متقدمة فيها نوع من الثبات وقد تكون معرضة للانتكاس ولكن هذه المتغيرات وتلك التطورات سواء كانت تقدمية أو معاكسة لا نجدها تتقيد بأوضاع معينة أو بأساليب خاصة.. أو ترتهن بمقومات عرقية أو جغرافية أو بايولوجية .. ولكنها تنطلق انطلاقاً غير مقيد، ولا تحده حدود أو قيود، ومع كل ذلك فإن هجرة الأفكار تلك رغم ما كانت تمتاز به من انطلاق حر وحركة مترابطة متجددة، تحدد معالم التاريخ وترسم له اتجاهات سيره، فإن هذه الأفكار هي التي تصنع الحضارة، ومن ثم تصنع التاريخ. [email protected]