حلقت الرؤية التي قدمتها الكاتبة السعودية بدرية البشر في ملتقى القاهرة الخامس للإبداع الروائي العربي على مجمل المشهد الإبداعي في المملكة العربية السعودية والروائي خاصة، كاشفة عن أن الطريق كان وعرا أمام الرواية السعودية، وذلك بسبب المجتمع الذي ظل زمنا طويلا حبيس أفكار قبلية متشددة لفكرة العادات والأعراف الدينية التي لا يجب لأي فرد تخطيها أو حتى الاقتراب منها. وحكت البشر في الجلسة التي ضمتها والمصري بهاء طاهر والعمانية جوخة الحارثي والمغربي عبدالرحيم علام والمترجم وليم مانيراد، قائلة : في منتصف الثمانينيات تقريباً نشر أحد كتاب القصة قصة له بعنوان (لا يوجد سوانا في البيت) بطلها رجل يدعى بن طرباخ، وبعد شهرين وجد نفسه أمام المحكمة بتهمة التشهير رفعها ضده رجل اسمه بن طرباح، وهو نفس اسم بطل القصة بن طرباخ، لكن بفارق نقطة على الخاء. ولولا بعد نظر القاضي الذي وجد نفسه أمام قضية فريدة وجديدة من نوعها، لتعدت عقوبة الكاتب الاكتفاء بنشر إعلان اعتذار لابن طرباخ في الصحف. وأضافت (تحت هذا الهاجس، أذكر أن وعينا ككتاب ومثقفين كان محاصراً بسؤال: هل يمكن أن نكتب الرواية في ظل مجتمع لديه كثير من الممانعات والتحفظات وسوء الفهم لما تعنيه الرواية؟ ما كان يؤكد هواجسنا هو أنه لم يكن هناك سوى روايتين أو ثلاث روايات ذات طابع رومانسي اكتفى بوصف القرية وطبيعة الحياة). وأوضحت البشر (ما زاد الأمر سوءاً وتعقيداً، أن هذا المجتمع المحافظ البسيط قد ابتلي منذ مطلع الثمانينيات وبعد حادثة احتلال المسجد الحرام عام 1978 بنمو تيار عرف باسم (تيار الصحوة الإسلامية) ما زاد من حمولة الممانعات التي تلبست لباس الدين وأصبح لها حراسها، هؤلاء قضوا على بوادر ولادة أصوات سعودية حداثية كانت قد بدأت تنشر النصوص القصصية والشعرية. لقد فرض تيار الصحوة حصاره على الساحة الثقافية والأدبية، وأخمد كل صوت حداثي بتهمة الكفر الصريح، ولعل كتاب (الحداثة في ميزان الأسماء) هو الوثيقة الرسمية على ما حدث). ورأت البشر أنه باستثناء روايات قليلة انتهجت التيار الرومانسي وحديث الحنين إلى القرية (فإن الرواية السعودية لم تحظ بتاريخ كلاسيكي يؤصل لتجارب جديدة يستطيع المبدع أن ينظر إلى تاريخه من خلالها، فظلت الرواية خارج طموحات السعوديين الذين يفتش معظمهم عن عذر لكي لا يكتب، كأنهم مجتمع خارج ضرورة الرواية، كان الطيب صالح كلما زار الرياض قال لنا: من سيكتب الرواية في بلادكم هي امرأة). وأكدت أنه بعد حرب الخليج واحتلال الكويت كان المجتمع السعودي قد تشبع بتقاليد معسكرات الصحوة الإسلامية التي خططت لأدلجة معظم قطاعات المجتمع وفئاته، وأهمهم الشباب (من خلال سيطرتها بشكل كامل على قطاع التعليم والإعلام، وهذا ما أبعد الآمال عن ولادة رواية سعودية، إلا أن قلق الحرب وتداعياتها الاجتماعية أفرز روايتين هما: (شقة الحرية) لغازي القصيبي، و(ثلاثية تركي الحمد)، إحداهما جاءت من الشعر، والأخرى جاءت من المقال السياسي والجامعة، لكن من تلقفوا هاتين الروايتين ليسوا الناس والمثقفين والنقاد، بل تيار الصحوة وتيار القراء المناهضين لأفكار الصحوة، وحصل ما هو أسوأ من قضية بن طرباخ، فرأي أهدر دمه، و آخر حمته الدولة). وقالت البشر إنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول واجه السعوديون أسئلة مقلقة ومشارف حرب أخرى، من نوع هل نحن من فعلها؟ هل نحن مسئولون حقاً عما حدث؟ وحاول الإعلام عبر مثقفيه التصدي لهذه الأسئلة، و(كان لتراجع رموز الصحوة وخوفهم من الإدانة دور في تقدم التيار الليبرالي ليرفع سقف التعبير عن أفكاره التي لم يكن من الممكن التعبير عنها لولا أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ولأن هذه الصدمة كبيرة، كان التفاعل معها كبيراً أيضاً، فقد حظي الإعلام بفرصة رفع سقف حرية التعبير من قبل التيار الليبرالي أو المنفتح نسبياً، نتيجة لظروف الحرب على الإرهاب وتراجع تيار الصحوة عن الدفاع عما حدث، فبرزت قضية التعبير في الصحف كقضية أساسية، تصدت للإجابة عن الأسئلة القلقة، والمطالبة بالمراجعات لما حصل). وأضافت الكاتبة السعودية (من هذا الفضاء المكتسب من ارتفاع سقف حرية التعبير، جاء الإنترنت ليؤسس لما هو أكثر بروزاً، وهو إيجاد شروط جديدة لمجتمع جديد، مثل ساحات ومنتديات عديدة، وجمهور معظمه من الشباب والشابات يحضر لأوقات طويلة داخل هذه المنتديات، وحرية تعبير تحرسها الأسماء المستعارة. هذه العوامل (حرية التعبير النسبية، والإنترنت، وجمهور غفير مختلط من نساء ورجال، ومقاه وصالونات إلكترونية بمواصفات مجتمع محافظ)، هؤلاء ظنوا أن هذا هو المسرح الطبيعي للأحداث فكتبوا بنبرة الشباب المندفع، فهو لا يعرف تاريخ بن طرباخ ولا يفهم ماذا حصل لغازي القصيبى وتركي الحمد). وأكدت البشر أن هذا المناخ دفع بخمس وعشرين رواية سعودية في ستة أشهر إلى الساحة الثقافية العربية، كتب معظمها شباب الإنترنت ونشرتها معظم دور النشر العربية الشهيرة، بعد أن كان الرصيد لا يتجاوز خمس روايات في ثلاثة عقود. وقالت: (هذه الروايات كتبها شباب من خارج الوسط الثقافي، يكتبون للمرة الأولى، وفجأة أصبحت الرواية السعودية الأكثر مبيعاً والأكثر استهلاكاً في سوق الكتاب السعودي! لم ينجح تيار الصحوة في ضبط المسألة، فالقبضة اليوم لم تعد في يد أحد، أصبحت في فضاء مهما وضعت له حدود، انفتحت له جهات أوسع، بل إن زخم التصدي لكل رواية يزيدها شعبية وتعاطفاً. وبدأت الرواية السعودية تنمو، يشجع على نموها سهولة النشر والروايات الممنوعة تصل إلى البيوت عبر خدمات التوصيل المنزلي عبر الإنترنت! لكن الأسئلة لا يمكن أن تفسر على المستوى الشخصي، ففي الحكاية التي قلتها كانت تحولات مر بها المجتمع السعودي مثل حرب الخليج وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومن ثم مظاهر ووسائل العولمة من سقوط الحدود إلى وسائل الاتصال العولمية، التي غيرت وجه العالم كله، ولم تكن السعودية بعيدة عن مظاهر التغيير، وفي ظني أن النمو السكاني الذي تحتل نسبة الشباب فيه حيزاً كبيراً جعل ظاهر الحراك الاجتماعي والثقافي ملموساً بقدر أكبر مما هو عليه في السنوات الماضية). وطرحت الكاتبة بدرية البشر عددا من التساؤلات المهمة التي رأت أهمية طرحها على الساحة الثقافية والنقدية منها: لماذا يهتم الخارج بالرواية السعودية؟ هل بسبب منطق العولمة المجيد الذي يحول العالم إلى قرية صغيرة، أم لأن مجتمع السعودية المحجوب إعلامياً والمتباعد جغرافياً والمنغلق على ذاته هو منطقة تثير الفضول المعرفي والاجتماعي، والرواية السعودية تشيع بعضاً من هذا الفضول وتحرض عليه؟ هل الرواية السعودية تقوم بمغامرة على مستوى النوع أم مستوى الكم فقط؟ هل الرواية السعودية تثير حدثاً ثقافياً حقيقياً أم أنها مجرد سلعة سيطر رواجها على قانون السوق فتصدرت الواجهة؟! من يهتم بالرواية السعودية: القراء العرب أم فقط الناشرون؟! وأوضحت أن (الرواية السعودية الآن وجدوا فيها سلعة جيدة، والسوق السعودية تمثل ستين في المائة من قوة الشراء العربي، هذه العوامل أدت إلى أن كل مخطوطة سعودية لا يقوى الناشر على قول كلمة (لا) في وجهها إلا من رحم ربي، ما دام كاتبها تحمل نصف الكلفة. من هذه الظروف، ظروف المصادمات والمحاكمات، ظهرت الرواية مشغولة بالظرف الاجتماعي السياسي الاجتماعي، خرج معظمها ليرد على حراس الفضيلة والرقباء، وأصبحت الرواية مشغولة بجو من التوتر والتحفز والخوف، وتكرست مقاييس عن الرواية الناجحة التي يطلبها القارئ ويشتريها). وصرحت البشر أنها الفوضى الخلاقة، مع هذا الماراثون الذي يتسع لآلاف المتسابقين والمحاولات، لكن (الرواية السعودية التي لم تحظ بتاريخ طبيعي لظهور الرواية الكلاسيكية المحلية ولا التجريبية، لن يضيف تراكمها العددي سوى أعباء على مجتمع الرواية السعودية، إذا ما ظلت سلعة استهلاكية، تنشأ في بيئة استهلاكية، من سمتها السرعة في الهضم واللفظ، ويوازيها في مكان آخر تلك النظرة السيادية لمحاكمة الكتب على أنها جرائم مجازية وأفكار ونصوص خاضعة لمعياري الحلال والحرام، تمنعها الوزارة وينتخبها جمهور من القراء يحتكم لمزاجه الغوغائي، إن تخلى النقاد عن مهمتهم النقدية، والمؤسسات الكبرى التي تقرأ الروايات وترشحها للقراء وتثري حضورها بالقراءات النقدية التي تقود القارئ، وتعينه على تلمس النماذج المتقدمة من الفن والإبداع، ستخلى الساحة للعوام من القراء والمتذوقين بحسب أمزجتهم وطباعهم). وأشارت البشر إلى أن تقدم الرواية السعودية - لا شك - بحاجة إلى كل هذا الكم، لكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى أن يستنير بضوء الوعي النقدي ليتطور، ولينتهي من مرحلة الكتابة المزاجية ليدخل في الاحترافية، ويحتاج إلى إضاءات نقدية لا يستطيع النقاد تقديمها ما لم يخلصوا النية والجهد لصالح وجودهم النوعي في الوسط النقدي ويقوموا بمهماتهم الجادة والمنتظرة منهم. وخلصت الكاتبة السعودية إلى أنه كثر خير الروائيين السعوديين على عطائهم، «هم ولدوا يتامى دون إرث روائي (لا توجد كلاسيكية سعودية واحدة). هل فعلاً - كما يعلمنا غيلبرت تشيسترتون - تخبرنا الرواية الجيدة حقيقة أبطالها، أما الرواية السيئة فتخبرنا حقيقة كاتبها؟ أتذكر مرة أنني قرأت أن بعض النقاد يعتبر رواية (قصة مدينتين) أفضل قصص ديكنز وبعض النقاد يعتبرها الأسوأ، والسبب أنها أقل رواياته اقتداء بنموذجه (أقلها ديكنزية).