"ثورة شعبية ضد الحوثيين"...قيادية مؤتمرية تدعو اليمنيين لهبة رجل واحد    رباعية هالاند تحسم لقب هداف الدوري.. وتسكت المنتقدين    فاجعةٌ تهزّ زنجبار: قتيلٌ مجهول يُثيرُ الرعبَ في قلوبِ الأهالي(صورة)    حقيقة وفاة محافظ لحج التركي    استهداف السامعي محاولة لتعطيل الاداء الرقابي على السلطة التنفيذية    " تصريحات الزبيدي خاطئة ومضرة وتخدم الحوثي!"..صحفي يحذر من تمسك الزبيدي بفك الارتباط    لماذا رفض محافظ حضرموت تزويد عدن بالنفط الخام وماذا اشترط على رئيس الوزراء؟!    الليغا: اشبيلية يزيد متاعب غرناطة والميريا يفاجىء فاليكانو    جريمة مروعة تهز شبام: مسلحون قبليون يردون بائع قات قتيلاً!    وفاة مريض بسبب نقص الاكسجين في لحج ...اليك الحقيقة    "جروح اليمن لا تُداوى إلا بالقوة"...سياسي يمني يدعو لاستخدام القوة لتحقيق السلام المنشود    ليفربول يعود إلى سكة الانتصارات ويهزم توتنهام    رصاصاتٌ تُهدد حياة ضابط شرطة في تعز.. نداءٌ لإنقاذ المدينة من براثن الفوضى    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ورشة في عدن بعنوان "مكافحة غسل الأموال واجب قانوني ومسئولية وطنية"    أين تذهب أموال إيجارات جامعة عدن التي تدفعها إلى الحزب الاشتراكي اليمني    السلطة المحلية بمارب توجه بتحسين الأوضاع العامة بالمحافظة    الرئيس الزُبيدي ينعي المناضل محسن أبوبكر بن فريد    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    الوكيل الحسني يطلع على سير اعمال مشروع إعادة تاهيل الشارع العام مدخل مدينة الضالع    لماذا اختفت مأرب تحت سحابة غبار؟ حكاية موجة غبارية قاسية تُهدد حياة السكان    افتتاح دورة مدربي الجودو بعدن تحت إشراف الخبير الدولي ياسين الايوبي    خصوم المشروع الجنوبي !!!    الحبيب الجفري ناعيا الشيخ بن فريد.. أكثر شيوخ القبائل والساسة نزاهة في بلادنا    قيادي حوثي يعاود السطو على أراضي مواطنين بالقوة في محافظة إب    مجلس القضاء الأعلى يقر إنشاء نيابتين نوعيتين في محافظتي تعز وحضرموت مميز    الإصلاح بحضرموت يستقبل العزاء في وفاة أمين مكتبه بوادي حضرموت    تنفيذي الإصلاح بالمهرة يعقد اجتماعه الدوري ويطالب مؤسسات الدولة للقيام بدورها    بعد رحلة شاقة امتدت لأكثر من 11 ساعة..مركز الملك سلمان للإغاثة يتمكن من توزيع مساعدات إيوائية طارئة للمتضررين من السيول في مديرية المسيلة بمحافظة المهرة    الاحتلال يرتكب مجازر جديدة بغزة وارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و683    بخط النبي محمد وبصمة يده .. وثيقة تثير ضجة بعد العثور عليها في كنيسة سيناء (صور)    غدُ العرب في موتِ أمسهم: الاحتفاء بميلاد العواصم (أربيل/ عدن/ رام الله)    أمريكا تغدر بالامارات بعدم الرد أو الشجب على هجمات الحوثي    صحيفة بريطانية: نقاط الحوثي والقاعدة العسكرية تتقابل على طريق شبوة البيضاء    ماذا يحدث داخل حرم جامعة صنعاء .. قرار صادم لرئيس الجامعة يثير سخط واسع !    الحكومة تجدد دعمها لجهود ومساعي تحقيق السلام المبني على المرجعيات    نجوم كرة القدم والإعلام في مباراة تضامنية غداً بالكويت    اشتباكات بين مليشيا الحوثي خلال نبش مقبرة أثرية بحثًا عن الكنوز وسط اليمن    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني في صنعاء وعدن    ماذا يحدث في صفوف المليشيات؟؟ مصرع 200 حوثي أغلبهم ضباط    ثعلب يمني ذكي خدع الإمام الشافعي وكبار العلماء بطريقة ماكرة    الحرب القادمة في اليمن: الصين ستدعم الحوثيين لإستنزاف واشنطن    المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدة وعدن ومسقط في كتاب ثلاث سنوات في آسيا ( 1855 – 1858) لجوزيف آرثر دي غوبينو
نشر في 14 أكتوبر يوم 18 - 01 - 2015


1 – دي غوبينو العنصري
يهدي آرثر دي غوبينو كتابه الأول (دراسة حول تفاوت الأجناس البشرية، L'Essai sur l'inégalité des races humaines) إلى الملك جورج الخامس دي هانوفر. وفي الإهداء يصنف الكتاب ضمن نصوص التاريخ العام للبشرية. وبتأثير الفلسفة الوضعية لأوغست كونت يدخله كذلك في إطار العلوم الطبيعية، وتحديدا ما يسميه: الجيولوجيا الأخلاقية.
في هذه الدراسة الطويلة يزعم دي غوبينو أن العرق هو المحرك الأساس، بل الوحيد للتاريخ. وينفي، بالمقابل، وجود أي دور للبيئة المادية أو الأخلاق أو المؤسسات أو الديانات في تطور البشرية. فعبقرية الجنس فقط هي التي تحدد مسار الإنسان. ومن وجهة نظر دي غوبينو يتفوق الجنس الأبيض كثيرا على الجنسين الأصفر والأسود. ومن بين فصائل الجنس الأبيض يتفوق الفصيل الآري، على الفصيلين السامي والحامي.
ويرى أن أكثر الشعوب (عبقرية) هي الشعوب التي احتوت على أكبر قدر من الدماء الآرية. وفي اعتقاده لم يكن الإغريق ولا الرومان كذلك. فهاتان الأمتان نشأتا نتيجة تهجين حط من مستواهما.
ويرى دي غوبينو أن الكرة الأرضية لم تشهد نقاء الدم الآري إلا في القرون الأولى من تاريخ البشرية، وذلك في فارس القديمة (قبل داريوس) وفي بلاد الجرمان القديمة. أما اليوم وبعد أن اندثرت الأجناس البدائية، لم يعد هناك دم أري نقي على سطح الأرض. لكنه يرى أن بقايا فروع العرق هي التي لا تزال تهيمن حتى زمنه. ويلاحظ أنه "في كل مرة يحدث فيها تقاطع بين هذه البقايا وبين الأعراق المهزومة التي يضطر العرق الأعلى لحكمها، يحدث تدهور في سمات تلك البقايا لصالح الشعوب الأسفل".
ووفقا لقانون التطور البشري الذي لا مفر منه، تتجه الإنسانية نحو المزيد من الاختلاط بين الأعراق الذي يتزامن مع انحطاطها. وهنا ينتفي التفاوت بين الأجناس الذي وضعه في عنوان دراسته. ولكي يحد من هذا التدهور يرى ضرورة تجنب الاختلاط. ومن هذا المنطلق فهو – كما سنرى – ضد محاولات الدول الأوروبية استعمار أقطار آسيا وإفريقيا.
وهناك إجماع اليوم على أن هذه (الفلسفة الغوبينية: (Gobinism أسهمت في ظهور بعض الحركات العنصرية في القرن العشرين مثل: النازية والفاشية وغيرها.(1) وقد أفرزت هذه الأطروحات العنصرية ردود فعل مختلفة لدى السود والملونين الذين شرعوا في التعبير عن أنفسهم بطريقة دفاعية تهدف إلى إثبات الذات والهوية. وتجسّد ذلك في حركة (النيجروئيدية أو الزنوجية) التي عبر عنها بعض المفكرين والشعراء والساسة الأفريقيين مثل ليوبولد سنغور وإيمي سيزار.
وفي مقالة عن كتاب (دراسة حول تفاوت الأجناس البشرية) يتناول فيها بعضا من تناقضات دي غوبينو يذكر إبراهيم العريس إن العنصرية التي أصبح دي غوبينو المنظر الأول لها لم تكن رائجة في أيامه، ويؤكد العريس أن عنصرية دي غوبينو توجهت أول ما توجهت، ضد الفرنسيين، وليس تماماً ضد الشعوب "الدنيا" الأخرى أي ضد الشعوب الملونة.
ويلاحظ أن "العنصرية ضد الملونين لم تكن عملة رائجة في أيامه، بل من المعروف أن زوجة دي غوبينو التي أحبها أول أمره وأنجبت له ابنته الوحيدة، كانت (مثل جدته لأمه) خلاسية سمراء اللون. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن غوبينو كان منذ شبابه المبكر، مولعاً بالشرق وبالإسلام، إذ كان يحلو له أحياناً أن يرتدي ثياباً شرقية ويقول عن نفسه إنه مسلم.
وإذا أضفنا أيضاً أن هذا المفكر الفرنسي، الذي لعنه التاريخ، أولع كثيراً بمصر منذ زارها وأمضى فيها شهوراً، وأعلن دائماً أنه عاش أحلى سنوات حياته في فارس التي ألف عنها وعن تاريخها كتاباً مهماً، يصبح ما لدينا من هذا الرجل مجموعة من التناقضات التي تبدو، ظاهرياً، عصية على الحل أو على الفهم.
ذلك أن هذا كله ما كان يمكن له أن يكون منطقياً بالنسبة إلى مؤلف سبق في كتابه الرئيس، الذي نذكر هنا، صموئيل هانتنغتون في الترويج لصراع الحضارات والتفاوت العرقي والديني.
ونقول إن التناقض يبدو ظاهرياً، لأن غوبينو، كما أسلفنا وجه نزعته العنصرية ناحية تمجيد الشعوب الآرية ذات الامتداد الجرماني المعاصر. فهو كان مقتنعا بأن جذور الآرية نبتت في فارس، ومن هنا تنبع كل التداعيات الأخرى، التي سنخلص منها إلى النتيجة التي عبرنا عنها أولاً، وهي أن ما كان يحكم فكر غوبينو، إنما كان اعتباره الشعوب اللاتينية المعاصرة، وعلى رأسها الشعب الفرنسي – شعبه أصلاً – شعوباً دنيا مقارنة بالجرمان".(3)
2 – دي غوبينو الاستعماري
منذ مطلع القرن التاسع عشر احتدم التنافس بين الدول الاوروبية الكبرى للهيمنة على مناطق واسعة في أفريقيا وآسيا. وفي تلك المعركة لم تكتف تلك الدول باللجوء إلى القوة، بل وظفت أيضا علماءها ليضعوا عددا من النظريات والأطروحات والمفاهيم العنصرية التي تبرِّر ما تقوم به من سلب ونهب. ومن أشهر تلك الأطروحات: المفهوم الفرنسي عن الرسالة الحضارية للاستعمار الأوروبي لأقطار آسيا وأفريقيا، (La mission civlisatrice)، الذي يقوم على فكرة مفادها أنَّ بعض الأعراق والأمم تمتلك واجبات وأهدافا أسمى مما لدى سواها.
وبما أنها أكثر تحضرا وتطورًا فلها الحق في استعمار الآخرين، ليس باسم الفتح أو الغزو أو السلب – وفي الواقع كلها مكوِّنات رئيسة لهذه العملية-، بل باسم مبدأ أعلى ونبيل: تحضير الشعوب المتخلفة.
لكن دي غوبينو يختلف مع أصحاب تلك المبادئ والشعارات، ليس لأنه ضد هيمنة الغرب على الشرق، بل لقناعته بأن الغربيين بذهابهم لاستعمار الشرق واحتكاكهم بالشرقيين سيكونون هم من سيتأثرون وليس الشرقيون. ففي الفصل السادس من الجزء الثاني من كتابه (ثلاث سنوات في آسيا)، تحدث دي غوبينو عن (النتائج المحتملة عن العلاقات بين أوروبا وآسيا)، وكتب ما يلي: ص221-220:
"منذ ثلاثين عاما، يتحدث الناس هنا في أوروبا عن (تمدين) شعوب العالم الأخرى، ونقل الحضارة من أمة إلى أخرى. وبحثت حولي دون جدوى؛ فأنا لا أرى أي نتيجة من هذا النوع: لا في عصرنا الراهن ولا في العصور القديمة، فالنسبة للماضي، لم يستطع الإغريق والرومان أن يحضروا أي مخلوق، وفي العصر الحديث، لا أرى أن الفرنسيين حضروا الكنديين، أو الهندوس في بونديشيري، أو المغاربة في الجزائر. كما لم يفلح الإنجليز في تغيير مظهر رعاياهم في الهند.
ولم ينجح الهولنديون في تغيير البنية السكانية في جاوة، ولا الروس في القوقاز. وهذا لا يعني أن هذه الظاهرة التي لم تتحقق مطلقا منذ بداية الخليقة لا يمكن أن تُنجز يوما ما. لكن، على الرغم من ذلك، حينما نتأمل هذا الفشل الطويل، يظل الشك في النجاح هو الأصلح.
بالطبع، عندما يكون سكان بلد ما قليلين عدديا، من الممكن (تمدينهم). لكن ذلك يتم إما عن طريق إزالة هؤلاء السكان، أو عن طريق خلطهم مع عناصر أخرى. فيما عدا ذلك، ليس هناك إلا خياران: إما أن تستمر شعوب آسيا الوسطى في الركود كما فعلت منذ قرون، أو أنه سيتم غزوها وإخضاعها لهيمنة الأمم الأوروبية.
وعلى الرغم من أن أراضيها واسعة جدا، وفي الغالب بعيدة عن السواحل التي يمكن أن تهاجم منها، فهذا الافتراض لا يمكن استبعاده كليا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار القدرة الكبيرة على التوسع والحاجة للغزو اللتين تبرزان اليوم في مجتمعنا. لهذا ليس هناك عائق أمام هذا الخيار، لاسيما أن تحت تصرفنا وسائل مادية كبيرة تمكننا من تحقيق رغباتنا.
كما أن طريقة تنظيم قواتنا العسكرية تضمن لنا التفوق المؤكد في أي مكان نريد الذهاب إليه، حتى وإن كان عدد سكانه يفوق عددنا بمائة ضعف.
لهذا أنا أقبل إمكانية استقرار أمة أوروبية في آسيا الوسطى. ويمكنها فعل ذلك بطريقتين. لنفترض أولا أنه سيتم استخدام تبني النظام البريطاني الذي تكمن سمته الأبرز في رغبته السيطرة على الناس الذين تم غزوهم دون الاختلاط بهم، والتحكم فيهم وإدارتهم من الأعلى مع البقاء متميزا عنهم، وعدم منحهم إلا قسطا محدودا وثانويا جدا من إدارة شؤونهم الخاصة، ومع الاحتفاظ بإمكانية نزعه منهم في أي لحظة. هذا النظام، في اعتقادي، نبيل وممتاز طالما كتبت له الاستمرارية. لكن، من وجهة نظر الشعوب المستعمَرة، له بعض المساوئ، إذ أنه يشكل في نظرها حالة مؤقتة يتحملون بفارغ الصبر ثقلها ومرارتها.
ولكي تستمر تلك الحالة على المستعمِر أن يكون قويا وذكيا ويقظا دائما. فأدنى فشل، وأدنى إهمال لإجراء ضروري يمكن أن يؤديا إلى تقويض كل شيء. وبما أنه في مواجهة عدو فلا مجال أبدا للنوم. وبما أن السادة يميلون دائما إلى النوم أكثر من العبيد فهذا النظام يبنى على خطر دائم.
ولا شك أن استمرارية تلك الحالة المأزومة تكلف الكثير. ولو حدث أن شئون الشعب المستعمَر ساءت جدا في أحد الجوانب ربما يترتب على ذلك ردود فعل رهيبة. فالتمرد العام يمكن أن يؤدي إلى نهاية السيطرة.
ونحن إذا ما وضعنا نصب أعيننا مثل تلك اللحظة، يتبيّن لنا كم هو هش ذلك النموذج من الحكم. ففي غداة سقوطه لا يتبقى أي شيء أبدا. وقد غرقت البلدان التي طُبِّق فيها وسط الفوضى وأوصلها إلى الهاوية. ولم يسلم حتى الحطام. كل شيء ينبغي بناؤه من جديد، وربما لن يستطيع أحد فعل أي شيء.
أما الخيار الثاني (لتمدين الشعوب): فهو النظام الذي تبناه السلوقيون بعد الإسكندر المقدوني، والذي طبقه الرومان في الماضي، والذي يعتمده اليوم الروس في أراضيهم في آسيا.
ويكمن هذا النظام في اعتبار السكان المحليين -قدر الإمكان- قادرين على المشاركة في إدارة البلاد، مثل الغزاة، وفي منحهم وظائف ودرجات بطريقة تربط بين مصالحهم وحبهم لأنفسهم وبين الاستعمار وديمومته، أي، بمعنى آخر، دمجهم في الأمة الغازية المنتصرة حتى ينصهروا فيها، ويكوّنوا معها شعبا واحدا وأرضا واحدة. ولن أتحدث هنا عن السنوات الانتقالية المليئة بالمخاطر.
فالسكان المحليون لم يتم ترويضهم بعد، ولا تزال لديهم بعض وسائل ارتكاب الضرر. كما أنهم لا يزالون منقسمين بين الإخلاص للغزاة وبين تلبية نداء الشعور الوطني المحلي. ويمكن أن تولد المراتب العليا التي منحت لهم، وارتفاع تأثيرهم، طموحات كبيرة جدا لديهم ولا يمكن أن يرضيها إلا التحرر، أما السخط المبرر الذي تظهره بعض الفئات الدنيا التي ترافق عادة أي غزو فيجد دائما ما يسنده.
ورغم كل ذلك، ينبغي علينا ألا ننفي أن المراقبة اليقظة يمكن أن تساعد على تجاوز تلك المصاعب. كما أن كسب الوقت في مثل هذه الحالات والاستفادة من تجارب الماضي (السلوقيين والرومان الذين سبق ذكرهم) يمنحان هذا النموذج فرصا أكبر للاستمرار. فالأمتان تقاربتا والتحمتا معا، لكنهما لم ينصهرا معا بعد. وحينما يبدأ الانصهار ماذا يحدث؟ هل ستعطي الأمة الأوروبية للأمة الآسيوية خصالها وسماتها المتينة؟ أو أنها ستقترض منها عيوبها ونقاط ضعفها، وتحديدا تلك التي أدت إلى تخلفها وهزيمتها. لقد قال التاريخ كلمته: إن الاحتمال الثاني هو الذي حدث. فبعدما غزا الإسكندر آسيا فقدت اليونان كل قيمها الأخلاقية وسقطت إلى مستوى تلك الشعوب المعمرة والمنحطة التي كانت اليونان تظن أنها قد جعلت منها فريسة لها.
وبالوتيرة التي تهاوى بها مستواها الأخلاقي تدهور مستواها الروحي والثقافي، إلى درجة أنه حينما أخضعت روما اليونان لسيطرتها، نقلت أثينا لروما العدوى التي قتلتها. وروما نفسها غزت آسيا. ومنذ ذلك الغزو تدهورت أكثر وأكثر، وتوقفت عن أن تكون روما التي كانت. فقد نسيت العبقرية الأوروبية، ورأت أنه من الأنسب أن ترتب نفسها وفق تلك الأخلاق العتيقة التي كانت في السابق تحتقرها، وبحق".
وفي اعتقادنا أن كثيرا من الأفكار الاستعمارية التي عرضها دي غوبينو في هذا النص، الذي ضمنه كتابه (ثلاث سنوات في آسيا)، قد طبِّقت فعلا من قبل الصهاينة الذين قاموا (بإزالة) معظم العرب من أرض فلسطين ليؤسسوا فيها دولة اسرائيل. ولا شك أن حرص الغرب على بناء ترسانة عسكرية فائقة التطور لإخضاع الشعوب والأمم الأخرى، التي "تفوقه عدديا بمائة ضعف)"، يجسّد هو أيضا تطبيقا ملموسا آخر لآراء دي غوبينو الاستعمارية.
3 – دي غوبينو والعرب وجزيرة العرب
جوزيف آرثر دي غوبينو ليس من الرحالة الغربيين الذين تاهوا في الصحاري العربية؛ فهو لم يتعرف على بلاد العرب إلا من خلال زيارة عابرة لكل من القاهرة والإسكندرية، ولثلاث مدن ساحلية في جزيرة العرب: جدة وعدن ومسقط. وخلال دراستنا للفصول الرابع والخامس والسادس من كتاب (ثلاث سنوات في آسيا) سنتحدث باستفاضة عن صورة العرب كما رآهم دي غوبينو في جدة وعدن ومسقط.
لكن رأينا أنه سيكون مناسبا أن نقدم هنا بعض الآراء التي أوردها دي غوبينو عن العرب وجزيرتهم في كتابه عن (الأديان والفلسفة في وسط آسيا، 1864)، وفي الجزء الأخير من كتابه (ثلاث سنوات في آسيا)، وكذلك في كتابه الأول (دراسة حول التفاوت بين الأجناس البشرية) الذي يقع خارج إطار متننا، والذي كتب فيه:
"نحن لا نزال نجد العرب ليس في صحاري بلادهم الجافة فقط، ولكن أيضا هناك في الأراضي الخصبة التي تتوفر فيها المياه في ملابار وسواحل كورومانديل، وجزر الأرخبيل الهادي، وعدد من المناطق في السواحل الشرقية لأفريقيا. وفي الحقيقة امتزج العرب بالأمم الأخرى في تلك البلاد أكثر منه في أي مكان آخر. كما لا تزال آثارهم باقية في بعض الأجزاء من مقاطعتي (روسيون ولانغدوك) الفرنسيتين، وفي الشواطئ الإسبانية، وذلك على الرغم من مرور أكثر من قرنين، تقريبا، على جلائهم من هناك".
وبالنسبة لموقع العرب بين الأجناس البشرية، فقد أطلق دي غوبينو – في الكتاب نفسه- على ظاهرة تدهور الأجناس العليا بسبب اختلاطها بالأجناس الدنيا (السوممة Semiticization)، إذ أنه يعتقد أن الشعوب السامية كانت نتاج (جسر الشرق الأوسط)، الذي التقت فيه الأجناس الثلاثة: الأبيض والأصفر والأسود. ويقرر أن الساميين عبارة عن خلاصة مزج لتلك الأجناس. وقد وضع دي غوبينو، الذي لم يكن معاديا للسامية، العرب وسط هذا المزيج العرقي السامي.
وفي الفصل السادس من الجزء الثاني من كتابه (ثلاث سنوات في آسيا)، الذي يحمل عنوان (النتائج المحتملة عن العلاقات بين أوروبا وآسيا) نعثر على عدد من أخطر الملاحظات التي أطلقها دي غوبينو حول العرب، نورد منها هذه الأحكام:
"من الواضح، في نظري، أنه لا يوجد في تلك البلدان التي شاهدتها (أمة سياسية) بالمعنى الذي نعطيه لهذا المصطلح اليوم. ولا يستطيع العرب اليوم أن يطالبوا بالانتماء إلى مثل هذا الكيان، ولم يقدروا على ذلك أبدا. وحينما خطفهم الإسلام فجأة من صحاريهم ورماهم عن طريق الفتح وسط الشعوب القديمة التي تتحدث اللغة اليونانية، رسخ لديهم حب النهب، وليس فن قيادة الشعوب الذي لم يتعلموه منذ ذلك الحين. فجميع رجال الدولة لديهم وإدارييهم وعلمائهم وفلاسفتهم كانوا من الأجانب الذين تحولوا إلى الدم العربي، وشرعوا منذ وقت مبكر في إدارة دفة الحكم في إمبراطوريتهم بدون العرب وضدهم.
والعرب، إذا ما أخذناهم بشكل انفرادي، عرق نبيل، لكنه غير قادر على استيعاب فكرة الأمة، وفكرة التنظيم (systeme). وارتقى إلى مستوى القبيلة لكنه لم يستطع أن يتجاوزه. ولا يمتلك الجنس العربي شيئا مما يقرب الناس بعضهم من بعض، ولا حتى الاعتقاد الديني الذي ينحصر عندهم في إطار المشاعر الصرفة".
ولاشك أن التعصب للجنس الآري، الذي يرى دي غوبينو أن الفرس القدماء كانوا جزءا منه، هو الذي دفع (دي غوبينو الإيراني)، كما كان يلقبه الروائي الشهير بلزاك، إلى ترجيح كفة الإيرانيين ضد العرب، فبعد أن قدم دي غوبينو العرب في النص السابق، يضيف: "أما الفرس فيستوعبون ما ظل منغلقا على العرب. كما أنهم بذكائهم يستطيعون أن يتعلموا أي شيء. لكن تعوزهم القدرة على التركيز الفكري. ويفتقرون أيضا إلى المنطق، وقبل ذلك إلى القدرة على الإدراك".
ومن المعلوم كذلك أن دي غوبينو من المستشرقين القلائل الذين ربطوا التشيع برغبة الفرس في الثورة ضد العرب. ويعد دي غوبينو من أبرز الغربيين الذين ربطوا بين التشيع في الإسلام وديانات فارس ما قبل الإسلام. فهو، في كتابه (ثلاث سنوات في آسيا) يرجع ظاهرة تبجيل الأئمة إلى مبدأ تقديس كهنة الزرادشتية. أما في كتابه (ديانات وفلسفات آسيا الوسطى) فيرى أن التشيع كان حركة انشقاقية وثأرا مبطنا يستهدف العناصر العربية في فارس.(5) وعلى الرغم من عدم دقة ما ذهب إليه دي غوبينو- بما أن التشيع الفارسي على هذا النمط لم يبدأ إلا متأخرا مع إيران الصفوية- فقد لاقت رؤية دي غوبينو للتشيع الفارسي شعبية واسعة لدى منتقدي المذهب الشيعي.
كما ضمن دي غوبينو الجزء الأخير من كتابه (ثلاث سنوات في آسيا) عددا من الملاحظات الجغرافية المهمة حول تضاريس الجزيرة العربية نذكر منها: "تنتهي رحلاتي في آسيا هنا. ولم يبق لي إلا أن أحدد بعناية أقوى انطباع ترسخ في ذهني إثر اتصالي بعالم مختلف جدا عن عالمنا. فمن وجهة نظر جغرافية، يبدو لي أن الاتساع والغموض هما السمتان المهيمنتان على شكل آسيا الوسطى وشبه الجزيرة العربية ومصر، ولكن بشكل مختلف جدا في كل واحدة من هذه المناطق الثلاث.
فبالنسبة لشبه الجزيرة العربية، لا يكمن الاتساع في الامتداد المطلق للأراضي، إذ أننا نعلم أننا ننتقل إلى شبه جزيرة متوسطة المساحة، بل في تضاريس تلك الأراضي الجبلية القاسية والجرداء وشديدة الحرارة، والتي يخترقها عدد كبير من الأودية، وينتصب فوق سطحها العديد من التلال، وتتناثر في أصقاعها صحاري عدة يسكنها ويمر فوقها ويتوه وسطها عدد من القبائل، تشكل كل منها أمّة ذات أصول وسمات مختلفة، مثلما هو الحال بالنسبة للغاتها التي اعتقدنا لفترة طويلة أنها متجانسة.
فالجزيرة العربية لا تزال اليوم مجهولة بالنسبة لنا، ليس لأنها تقع، مثل مصر، خارج مدى البصر، بل لأن الوصول إليها يتطلب ركوب السفن. وتتحدث أسفار بعض الرحالة القدامى وقصص السكان المحليين عن عدد قليل من الوديان الزراعية والمدن المتهدمة في جنوب الجزيرة وشرقها. كما تشهد الخرائب على قيام ممالك قديمة فوق هذه الأرض التي كانت، كما هو معلوم، وكرا للمقاتلين والغزاة. ويبدو أنه من الغريب أن يكون قد وُجِد يوما ما في هذه المناطق القاحلة شيء آخر غير أكوام جثث الأمم القادمة من الخارج. لكننا بدأنا أيضا نعيد النظر في هذا الاعتقاد بعد أن تبيّن لنا اليوم عدم صحته مثل كثير من الاعتقادات الأخرى. وهذا ما يجعل من الجزيرة العربية أرضا نتوق إلى القدرة على استكشافها".
هوامش:
* د. مسعود عمشوش، أستاذ الأدب العام والمقارن، جامعة عدن
** الكونت جوزيف آرثر دي غوبينو (1816 – 1882) أديب ودبلوماسي فرنسي وعالم اجتماع عنصري ويعد من أشهر الرحالة الفرنسيين الذين زاروا الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر.
صفحات من كتاب د. مسعود عمشوش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.