مجاراة أوضاع حياتية (سياسية ومجتمعية) قابلة لأن تتغير سجية طبعنا عليها وعودتنا قيادات التيارات الحزبية في مجتمعنا بفعل المعايشة وبالنظر إلى تقاطيعها وتناولها لمختلف الأحداث والقضايا السياسية والاقتصادية والديمقراطية والاجتماعية وخلال تجربة ليست بالقصيرة من العمل الحزبي في طوره (العلني) لاسيما تلك الأحزاب التي تتمتع بامتداد زمني يعود إلى ما قبل 22 مايو 90م والتي كان يتطلع لدورها في التأثير لإحداث تغييرات أقله التأسيس (النظري والقانوني والسلوكي) لديمقراطية تحمل دلالتها ومعانيها الحقيقية تخرج كل الفعاليات السياسية إلى دائرة الضوء وتشعر المواطن بجدواها وبجدوى الأحزاب كما تشعر المواطن بقدرته على الإدراك والتمييز بين الحقائق الغائبة والمتناقضات القائمة. بيد أن التجربة والوضع السياسي الراهن يحدثنا أن معظم الفعاليات الحزبية الرئيسية قد سارت في اتجاهات مغايرة نأت بنفسها عن الغايات والأولويات التي تقتضي طبيعة وجودها وحراكها والنابع من القراءة الدقيقة للواقع اليمني ولطبيعة التركيبة الاجتماعية وللفكر والثقافة السائدة وللأسس والمفاهيم والتوجهات التي يرتكز عليها نظام الحكم وتبلورها في إطار استراتيجية تستوعب منظومة متكاملة من الرؤى والأفكار الناجعة وتأخذ في الاعتبار عامل توافر وتضافر كل الجهود والقوى الحزبية والتقائها حول طاولة وبرنامج مشترك يتحول إلى فعل ميداني يصب في كل الاتجاهات والمجالات يبشر بعهد جديد ويزعزع كل الأفكار والمعتقدات والآراء التي تأبى إلا أن يكون بلدنا خارج صفحات التاريخ المعاصر. لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه فبدلاً من تمثل ماهية العمل الحزبي والسياسي المحترف والمجسد للأهداف الوطنية السامية ليصبح معها (الحزب أو التكتل أو الإطار الجامع) مصدر قوة وتعزيز لشرائح المجتمع (الحكومة) ولسان معبر عن الهموم والتطلعات باتت معظم الأحزاب (اليوم) أحد أسباب وعوامل ضعفه حيث أسهمت خلال الفترة السابقة وبدون أن تعي في الانهزام النفسي للناس فأضحى ساكن الإرادة محدود القدرة على الإبداع والابتكار بل وتسربت ونمت مفاهيم مغلوطة لدى (العامة) تجاه مبادئ وأهداف سامية كأن يعيب البعض من (العامة) الديمقراطية والأحزاب لأنها من وجهة نظرهم أداة للفرقة والتناحر والاختلاف وربما يقول البعض إنها سبب الغلاء وضيق العيش والبطالة وفي مناطق أخرى من البلاد قد تسمع (وللأسف حتى من ذوي العقول البصيرة إن سببها يعود للوحدة اليمنية أو أن الانتخابات في نظر الناخب في (القرية) أو (العزلة) تعني موسم المقايضة بين الناخب ومرشح الحزب الحاكم حين يصوت له مقابل التنفيذ الفوري لمشاريع خدمية تمس حاجة الناس وهي حالة قد تنم عن حق المواطن في الاختيار لكنها محدودة حيث إن ناخباً آخر في منطقة أخرى قد لا يملك حق الاختيار ولاحق الضغط. انطباعات وردود أفعال مجتمعة تجاه منظومة الحكم بشكل عام وتعكس في نفس الوقت الهوة الكبيرة بين الأحزاب وبين شرائح المجتمع المحكومة أفقدت الناس الثقة بدور الأحزاب (في الحكم والمعارضة) كما تعكس مدى الضرر الذي لحق بالناس جراء الفساد والاختلالات والممارسات والتصرفات الغير مسؤولة وحالة الإحباط واليأس تجاه أي أمل. بعد تجربة تجاوزت عقداً ونصف من العمل الحزبي العلني وفي قراءة لحصيلة عملها وحراكها وضجيجها خلال الفترة السابقة مدعمة بما تعانيه الديمقراطية والأحزاب بوضعها الراهن لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا أننا أمام كيانات سياسية حزبية هشة في مقياس الفعل الحزبي الحقيقي وهي في نفس الوقت صورة عاكسة لحالة السلطة القائمة وحزبها الحاكم الذي يعاني حالة من الجمود والانفلات كما إننا لن نتجاوز الحقيقة إذا سلمنا بأن الديمقراطية التي ولدت (يوم خرجت كل الأحزاب إلى العلن) كانت في بدايتها سليمة ومعافاة وقابلة للنمو والمراجعة والتقييم لكنها ما لبثت أن تراجعت لتصبح مجرد هياكل لمضامين مفرغة وأن الأحزاب في مقابل هذا قد فشلت في رعايتها وتنميتها وتقدمها وهو الحد الأدنى من الاستحقاقات المطلوبة من الأحزاب تجاه "الديمقراطية" لأن الأخيرة لا تمنح ولا تورث ولا تجسد بمجرد الإعلان عن تبنيها. وقد ابتليت الديمقراطية بداء أنها تشكل حساسية ومحاذير لدى النظام الحاكم ولأنها هكذا في نظر الحكام فقد تعرضت للعسف والطغيان والامتهان والإفراغ من المحتوى، وظلت الديمقراطية خلال الفترة السابقة مجرد ديكور تتزين به السلطة. أما الأحزاب خلال نفس الفترة فقد أضاعت المسار المتجه نحو إحداث أو خلق وعي سياسي لدى المجتمع لأنها ظلت منشغلة بالسلطة وبنفسها وبمجاراة الأوضاع القائمة بل وانجرت لتساهم في خلق تباينات وصراعات تجاه قضايا هامشية واتسمت علاقاتها بحالة من التوتر والشد والجذب وفي كثير من الحالات تحولت إلى مهادنة ومغازلة وتبادل منافع بين أطراف المنظومة الحاكمة وعلى حساب الغالبية من الناس ومن هؤلاء القواعد العريضة للأحزاب نفسها. واقع الحياة الحزبية في بلادنا يزخر بحالات ونماذج توصف مخرجات بعضها بالجمود والانغلاق ليس فقط في قراءة واقع ومعطيات عصر وخصوصية مرحلة ولا في القدرة على إعلان أو تقديم مبادرات بل جمود وانغلاق فكري وحركي في أن تعي وتعني ما تقول مع فقدان القدرة على التفكير الإبداعي لابتكار أساليب ووسائل مناسبة لتحقيق الأهداف إضافة إلى جمود فكري مرجعه الضيق والأنانية والحسابات الضيقة والتي تقف جميعها حائلاً دون تلبية أي دعوة أو مبادرة لطرف آخر يدعو إلى الحوار يهدف إلى تضافر كل الجهود والقوى والسير جميعاً بالاتجاه الصحيح الأمر الذي أوجد هوة في تقارب الرؤى والأفكار بين الأحزاب وبعضها البعض وبينها مجتمعة في التعامل مع الحزب الحاكم وبين الجميع والشعب الذي لا يزال الجميع يتحدث باسمه في حين أنه بات لا يكترث أو يسمع لأحد. على الجميع أن يقرأ بمصداقية بعض الحقائق التي قد تكون مرة على كل أطراف المنظومة السياسية، فحقيقة إن صحيفة أهلية ربما تكون أقوى من كل الأحزاب لأنها اختارت أن تكون قريبة من ضمير الغالبية العظمى من الناس. إنها حالة فشل وشلل أفقدت الأحزاب الوجود التأثيري المبدع والمتجدد والخالق لأجواء من الانسجام والتناغم السياسي والاجتماعي لأنها ظلت حبيسة الأمس بخلفياته السياسية والثقافية والاجتماعية وحبيسة القراءة السطحية لمعطيات الأشياء وللأحداث والمتغيرات المتجددة والتعاطي معها بردود أفعال أو على طريقة منطق إسقاط الواجب وليس بناءً على رؤى وطروحات وحسابات علمية ومنهجية ويتضح الأمر جلياً هنا من التأزم السياسي الحاصل وطبيعة العلاقة القائمة بين مختلف التيارات الحزبية وطبيعة تعاطي كل طرف مع الآخر وقراءة كل حزب لأي متغير أو حدث سياسي فإعلان الرئيس مثلاً عزمه عدم الترشح لدورة رئاسية قادمة قد أوقع معظم الأحزاب في زاوية من الإرباك بما فيها الحزب الحاكم والأحزاب خارج السلطة التي ظلت خلال ما يقارب العام تنتظر الجديد فيما يتعلق بالاستحقاق الانتخابي القادم (عدا حزب "رأي" الذي تفرد دون سائر الأحزاب بالساحة بإصدار بيان عصر يوم الإعلان رحب فيه بإعلان الرئيس ليس لثقة الحزب بحتمية عدم تراجع الرئيس عن قراره بل لأن دلالات ومخرجات الإعلان تعد خطوة في الاتجاه الذي يؤسس لتداول سلمي للسلطة الذي يعد ضمن أطروحات ورؤى الحزب لتأسيس حكم ديمقراطي حقيقي) في حين تعاملت بقية الأحزاب مع الإعلان بشيء من التشكك والحذر لأنها لاتملك رؤية ولا تسير على حسابات وسوف تكون النتيجة الطبيعية خروجها في المحك الانتخابي القادم دون تحقيق أي تقدم في طريق الانتصار للخيارات الوطنية والديمقراطية وليس الحزبية وسيظهر إن الاتجاه لإحداث منظومة من الإصلاحات الشاملة وبرؤى وآليات محلية بات مستبعداً لأن الآليات تعاني من مقومات الفشل أكثر بكثير من مقومات إعادة التأهيل لأنها عزلت نفسها عن ضمير الناس وعن كل التحولات العصرية. وعلى هذا الأساس فالأحزاب مدعوة لإعادة النظر في كل مقومات الوجود والعمل الحزبي والمجتمعي خصوصاً ونحن نعايش فاصلا زمنيا لحصيلة مرحلة لا تؤكد توقف منطقها بل مؤشر جعلت من المحك السياسي الراهن وما سوف يليه في الأيام القادمة كتاباً مفتوحاً أمام المنظومة السياسية في بلادنا (حزب حاكم وأحزاب معارضة) بغرض القراءة والمراجعة والاستفادة والتقييم لمسيرة حزب ومسيرة تجربة وديمقراطية. الأحزاب مدعوة لقراءة حصيلة مرحلة سابقة. وإمعان النظر في ما يحيط بالأحزاب على المستوى الداخلي والخارجي وما تقتضيه عملية المراجعة (للفكر والمعتقدات والتوجهات والمفاهيم) ومدعو كل حزب لأن يقلب دفتر يومياته ويراجعها ليستشف حجم الأخطاء وجوانب القصور وتراكماتها وانعكاساتها، يراجع الماضي لفهم معضلات الحاضر، ويدرك معضلات الحاضر من أجل مستقبل مختلف ومغاير عن الحاضر، يتطلع فيه الجميع إلى زوال المحنة التي تعيشها الديمقراطية وإلى إسدال الستار على عهد من الصراعات والمكايدات والانشغال بالآخر وبداية عصر جديد أكثر أمناً واستقراراً وتعايشاً بين الجميع.