بعد مرور عام على اندلاع الثورة المصرية، من المهم التوقف عند واحدة من أهم دلالاتها. فمن أهم دروس هذه الثورة، أن الطغيان لا يمثل خطراً على ضحاياه وحدهم، وإنما على الطغاة أنفسهم. فمبارك ورجاله فوجئوا بالثورة تماما، لأن الطغيان يعمي القلوب. فأي متابع لما كان يجري في مصر قبل الثورة، كان يدرك أن الأمور تتطور بسرعة نحو الانفجار. لكن نظام مبارك وحده، هو الذي لم يستوعب تلك التطورات ولا أدرك مغزاها! فثورة 25 يناير لم تحدث بين ليلة وضحاها، وإنما هي نتاج تراكمات وكفاح طويل، بدءا بحركة كفاية ومرورا بالحركات الاحتجاجية المختلفة وحركات العمال والمهنيين، ووصولا إلى يوم الثورة. فلعل النقطة الأولى في ذلك المسار، كانت "الحركة المصرية من أجل التغيير" المعروفة باسم "كفاية". فهي تأسست في أواخر عام 2003، وأعلنت عن نفسها في شكل فعاليات احتجاجية في 2004. والحقيقة أن جرائم بوش الابن كان لها دور مهم في نشأة حركة كفاية المصرية. فعلى عكس ما كان يزعمه المحافظون الجدد، من أن احتلال العراق سيؤدي لسريان "عدوى" الديمقراطية في العالم العربى بدافع "الغيرة" من العراق الذي سيصير ديمقراطيا على يد الأميركان، فإن ما حدث كان العكس تماما. فحركة كفاية المصرية أسستها مجموعة من النشطاء المصريين المنتمين لتيارات عدة من اليمين إلى اليسار، هزهم سقوط بغداد في براثن الاحتلال، واعتبروا أن الدكتاتورية هي المدخل الرئيسى لضياع الأوطان. ومن ثم اعتبروا أن الدفاع عن فلسطينوالعراق، يبدأ أولا بحماية مصر عبر تحريرها من الدكتاتورية. ومن هنا نشأت الحركة لتقول "كفاية" لمبارك بعد عقود في الحكم. وقد فتحت كفاية الفضاء العام من زاويتين، أولاهما أنها كسرت التابوهات المعروفة في السياسة المصرية. فلأول مرة، استهدفت حركة احتجاجية الرئيس بالاسم، وطالبته بالرحيل الذي كان متضمنا في تعبير "كفاية". ولأول مرة أيضا، تحدثت حركة سياسية علنا عن مخطط توريث الحكم وناصبته العداء. أما الإنجاز الثاني لحركة كفاية فكان أنها استعادت الشارع. فهي قررت منذ اليوم الأول أن الشارع ملك لكل المصريين، لا يحتاج أحد لإذن من النظام للاحتجاج فيه، وهو ما استفادت منه كثيرا ثورة يناير. وكان نزول كفاية للشارع في مظاهرات متعاقبة، بمثابة الحجر الذي ألقي في المياه الراكدة. فقد تشكلت فورا حركات احتجاجية صغيرة، ارتبطت بكفاية وانفصلت عنها في نفس الوقت، مثل شباب من أجل التغيير، وأطباء من أجل التغيير، وفنانون من أجل التغيير.. إلى آخر تلك المجموعة الهائلة من الحركات، التي صارت تدفع كل منها من أجل التغيير. وسرعان ما انضم قضاة مصر إلى الحراك السياسى، عندما فضحوا التزوير الذي جرى في انتخابات 2005 التشريعية والرئاسية، الأمر الذي مثل نقطة جديدة في التراكم الذي كان قد بدأ. وبينما رافد الدفاع عن الحريات السياسية ومناهضة التوريث يسير على قدم وساق، إذا بمصر تشهد ولأول مرة منذ السبعينات، إضرابا واسعا في أهم شركات الغزل والنسيج. فقد انتفض عمال شركة المحلة في إضراب واسع، فكان بمثابة إضافة لذلك التراكم، لأنه أضاف للاحتجاجات السياسية احتجاجات تتعلق بالظلم الاجتماعي لقطاعات واسعة، زادها نظام مبارك فقراً بسياساته المنحازة للأغنياء ورجال الأعمال. لذلك لم يكن على الإطلاق غريبا أن ترفع الثورة شعار الحرية والعدالة الاجتماعية معا، فتراكمات الكفاح كانت تجري في نهري الحرية والعدالة الاجتماعية بالتزامن. وحين حنثت حكومة مبارك بتعهداتها، عاد عمال المحلة للإضراب في عام 2008. وهو الإضراب الذي شهد لأول مرة انخراط حركات الشباب بقوة، بعد أن كان وجودهم في الفضاء الإلكتروني وحده أكثر وضوحا. فقد دعت مجموعة من الشباب لأن يعم الإضراب كل أنحاء مصر، تضامنا مع عمال المحلة الذين كانوا قد أعلنوا الإضراب يوم 6 إبريل من ذلك العام. ومن هنا صارت تلك الحركة الشبابية تعرف باسم حركة 6 إبريل. وحركة عمال المحلة تبعها في عام 2008 نفسه، اعتصام موظفي الضرائب العقارية الذي استمر حوالي 12 يوما أمام مجلس الوزراء في قلب القاهرة. وطوال العامين التاليين استمرت الاحتجاجات العمالية والفئوية حتى كانت بالعشرات في اليوم الواحد، في شتى أنحاء مصر، والتي تزامنت مع الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات من أجل الحريات السياسية ومناهضة مخطط التوريث. ورغم أن الاحتجاجات جميعها كانت تدين التدخل الأمني الشرس، إلا أن جريمة قتل خالد سعيد على يد الأمن، كانت بمثابة نقطة فاصلة في الكفاح التراكمي نحو الثورة المصرية. فلأول مرة، تدخل الطبقة الوسطى المصرية على الخط. فخالد سعيد الذي استشهد على يد الأمن في الإسكندرية بعد تعذيبه، هو ابن الطبقة الوسطى المصرية التي ظلت خارج المعادلة السياسية بالكامل لفترة طويلة، من أجل ضمان تربية الأولاد وتحقيق مستقبل معقول لهم. لكن استشهاد خالد سعيد جعل تلك الطبقة تدرك لأول مرة، أن أبناءها الذين ابتعدت عن السياسة لحمايتهم ليسوا في مأمن كما تصوروا، الأمر الذي جعل تلك الطبقة تتحرك بالفعل في 25 يناير. وكما ترى عزيزي القارئ، كان واضحا أن مصر تغلي وأن الانفجار قادم. لكن رجال مبارك وحدهم كانوا في واد آخر تماما، حتى أنهم ساروا في غيهم للنهاية بتزوير انتخابات 2010 التشريعية تزويرا غير مسبوق، الأمر الذي كان معناه سد كل القنوات الشرعية للعمل السياسي أمام المصريين. لكن المصريين حين انفجروا، اختاروا الانفجار السلمي الذي هو أرقى أنواع الاحتجاج، وأكثرها قوة بالمناسبة. دلالة كل ذلك أن المؤشرات كانت واضحة لمن يريد أن يرى. لكن الطغيان أعمى بطبيعته، وهو خدع نفسه وخدع حلفاءه، بالمناسبة! المصدر : البيان