" تعرفوا .. هذا بالويف" رواية للكاتب السوفيتي فاديم كوجيفنيكوف كتبها عام 1960 ونشرها مع ثلاث قصص أخرى طويلة خلال حكم نيكيتا خروتشوف الذي قيل إنه كان المسودة الأولى لتجربة جورباتشوف وسياسة اعادة البناء. الرواية عن انشاء خط أنابيب نقل غاز ومصاعب تلك العملية. في القلب من الرواية بطلها الأساسي " بالويف" المشرف على العمل. والرواية نموذج لما يمكن أن نسميه " الأدب الدعائي" الذي يقتصر دوره على تجميل سياسات النظام الحاكم وتبريرها والاشادة بها، بغض النظر عما يجري على أرض الواقع وعن التناقضات والصراع الذي تشغى به الحياة. ولكي يعرف القاريء ما أقصده أضرب مثلا بمقتطفات من الرواية حيث تقول إحدى الشخصيات: " كلما أصبحنا أقرب إلى عهد الشيوعية بات الناس أسطع نورا وأكثر تنوعا وأصالة"! بهذه الأفكار كانت تنطق الاذاعة والتلفزيون وتصدر الصحف بما معناه أن الدولة تمضي بالمواطن إلى النور والأصالة! وفي مواجهة الأدب الدعائي كان الشعب الروسي يطلق النكات مشبعة بالاشارة إلى الهوة الشاسعة بين الدعاية والحقيقة فيقول: " ذهب مواطن إلى مستشفى وطلب أن يفحصه طبيب أذن وعيون فقالوا له لايوجد مثل هذا الاختصاص" أذن وعيون"، يوجد طبيب أذن وطبيب عيون. قال: لكن حالتي تحتاج إلى طبيب يجمع الاختصاصين، لأنني أسمع شيئا وأرى شيئا آخر تماما"! وانظر قول الروائي على لسان إحدى الشخصيات : " نحن المواطنين السوفيت في صلة تبعية إلى بعضنا البعض ولا يحق لنا مطلقا ولا في أي ظروف أن نشعر أننا مستقلون عن بعض"! أوقوله : " إن كرامة الانسان السوفيتي متناسبة مع قدر العمل الذي يبذله في الانشاءات الكبرى لبناء الشيوعية". وأخيرا قوله : " عندما كان بالويف يخطب ويهتف في ختام كلمته : عاش وطننا السوفيتي، كانت عيناه وكذا عيون الجميع تنز دمعا فيما تهتز أعماقهم فرحا". هذا ما كتبه الأديب، أما في الواقع فقد أفصحت النكات عن الحقيقة : " واحد يسأل صديقه: هل تقرأ صحفنا السوفيتية؟ أجابه : طبعا وإلا من أين سأعرف أني أحيا حياة سعيدة ؟"! لم يكن المواطن البسيط فقط يواجه هذا الأدب الدعائي، بل وكانت قلة من الأدباء تسجل الحقيقة كما فعل أندريه بلاتونوف وميخائيل بلجاكوف وزوشنكو وسولجينتسين وغيرهم ممن دفع ثمن الحقيقة وظلت رواياته وقصصه ممنوعة من النشر وحبيسة أدراج مخازن اتحاد الكتاب ربع قرن كامل. بطبيعة الحال لا شيء يمنع الأدب من تناول تجربة بناء سد على نهر أوتشييد محطة كهربائية لأن كل تجربة قد تكون مادة أدبية، لكن المشكلة تبرز حين يقوم الكاتب بتناول تلك التجارب بروح الدعاية لنظام حكم وبعيدا عن هموم البشر في الواقع فقط من أجل أن يحوز على " جوائز الدولة" كما جاء في التعريف ب " فاديم كوجيفنيكوف". وعلى الصعيد الآخر فإن الأدب الدعائي لا يقتصر على الدعاية لنظام حكم، أو دولة، إنه في أحيان غير قليلة يكون أدبا ثوريا لكن دعائي في الجوهر، وقد حفل شعر العامية بالنماذج الداعية الى الثورة زمن مبارك، ولكن قراءة هادئة لتلك النماذج ستكشف عن أن كل ذلك أدب دعائي، صارخ بالفكرة، والهدف، بعيدا عن روح ووظيفة الأدب المرتبطة ارتباطا وثيقا بالحقيقة التي لا يمكن طمرها بجبال من الدعاية. وفي سبيل ذلك تعرض أدباء كثيرون للنفى والسجن زمن السلطة السوفيتية، ومصادرة أعمالهم في أمريكا، وفي الصين، وفي غيرها، لكن الكاتب يظل يعشق بستان الحقيقة الذي بداخله، والذي يجعله ينأى بنفسه عن الدعاية، وتجميل الهموم، لأنه يعرف تمام المعرفة أن الأدب بشكل ما هو الحقيقة، وكل كتابة أدبية تتجاهل ذلك تصبح باهتة، وشاحبة، وسرعان ما تذبل لأنها لا ترتوي من نبع الابداع، ومن أجل رشفة من ذلك النبع ستجد أن الكاتب مستعد لتحمل أية مشقة، هذا قدره وهذا دوره وهذا ما يبقى للناس والفن. جريدة الدستور الأحد 19 يناير 2020