"الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية" كتاب هام لعلامة عصره الشيخ الشيخ محمد الغزالي، والذي رحل في تسعينيات القرن الماضي، وهو يقول فيه : "من سنين قرأت أن الشعب الفرنسي في انتخاب حر قال للجنرال ديجول : لا أريدك، فجمع الجنرال أوراق مكتبه ومضى في هدوء إلى بيته .. والجنرال ديجول هو محرر فرنسا من الاحتلال الألماني .. ، وقلت لو كان الجنرال عربيا في بلد عربي لقال للشعب : إنك أحقر من أن تكون شعبا لي .. وسأبقى لأؤدبك حتى تتعلم احترام العظمة ! " . ويقر الغزالي في كتابه أن الحكم الفردي في العالم الإسلامي أهلك الحرث والنسل، وفرض ألوانا من الجدب العقلي والشلل الأدبي، وذلك في مناقضة ظاهرة لتوجيهات الإسلام، حيث نهضت دولة الخلافة على الشورى ، وكان المبدأ عند كل خليفة "إن رأيتم خيرا فأعينوني، وإن رأيتم شرا فقوموني" . "تفكيرنا الديني" في الباب الذي يحمل هذا الإسم، يبدي الغزالي أسفه على حكام لا يؤتمنون على دين الله ولا دنيا الناس ومع ذلك فقد عاشوا آمادا طويلة . وهو يعترض على من يضع دستورا ويسميه إسلاميا، مؤكدا أنه ما لم يوجد نص ديني فإن الأمة تكون مصدر السلطات .
كما يعجب الغزالي لحال المسلمين حينما لا يحلون حتى اليوم مشكلاتهم الإقتصادية، من ذلك دفع الضراء والبطالة عبر أداء الزكاة وبذل الصدقات في مشروعات، وتوخي الأمانة في تملك الأراضي الزراعية، ومراقبة إنفاق المال العام بحيث لا يتكدس لدى فئة وتفقر باقي طبقات الشعب، وأن نتوقف عن الترف الذي تسبب في ضياع دولة كبيرة كالأندلس . وكما يقول الكتاب فليس هناك ما يمنعنا من الأخذ بطرق حديثة غربية في تحسين أحوالنا السياسية والإقتصادية طالما أنها لا تصطدم مع نص شرعي؛ فقد جاء الدين مصلحا لا منشئا في باب العادات، فهو لم يخترع البيع أو الزواج وإنما جاء إلى هذه العقود فضبطها ، فأصبح البيع يحرم فيه الغش والربا والاحتكار، والزواج بإيجاب الطرفين ومن غير المحارم ولا ترك للإشهار وهكذا ، وفي كافة المعاملات إذا تحققت المصلحة فثم شرع الله . ويهاجم الغزالي في هذا الفصل بعض التقاليد الإجتماعية المتوارثة والتي تؤدي لتراجع المجتمع، منها حرمان المرأة من التعليم أو العمل أو الرضا بشريك الحياة ، كما ينتقد من يجبرها على ارتداء النقاب في مخالفة للأئمة الأربعة . ومن ضمن مظاهر التراجع التي يرصدها الكتاب تركيز مؤرخينا على جوانب الفخر في التاريخ الإسلامي، وإغفالهم جوانب الإخفاق، ومن ذلك أن أهملنا دولة كالفلبين التي هي جزيرة قريبة من إندونيسيا وسكانها كانوا مسلمين مائة في المائة، حتى أخذ التواجد النصراني يلح عليها ووضع ملك إسبانيا فيليب الثاني اسمه عليها في النهاية فصارت الفلبين .
ومن بين المظاهر الآخرى، أن إعلامنا يتقاعس عن الدعوة للدين خوفا من اتهامه بالرجعية، وهو في الوقت نفسه يدعو لكل ما هو غربي، رغم أن الفاتيكان استطاع باجهزته المنظمة أن يجعل عشرين دولة بأمريكا الجنوبية تتبع مذهبا واحدا وتنطق لغة واحدة، وأصبحت اللغة العالمية هي الإنجليزية وما تحمله من فكر وثقافة . ويقول المؤلف أن الخلاف بين الجماعات الإسلامية أحد أسباب تراجع أمتنا، وقد أدى لقصم ظهر دولة مثل باكستان، في حين أن دولة الهند المليئة بالديانات الوثنية تحدث طفرة وتفجر الذرة . لذا فإن الغزالي يدعو للإهتمام بجوهر العبادة قبل هيئتها، حتى لا نرى موظفا لا يقضي حوائج الناس وتاجرا يحتكر السلع رغم تدينهم الظاهر. كما يدعو الكتاب للأخذ بأسباب العلم بأقصى سرعة، ففي إسرائيل بنا اليهود وجودهم المغتصب لأرض فلسطين عبر إقامة مجتمع صناعي متمرس بالعلوم المادية، يستخرج المياه الجوفية ويستغل طاقة الشمس، ونجحوا في تشجير الصحراء، وحلوا المياه المالحة. السياسة عند العرب يقول المؤلف في الباب الثاني من كتابه القيم أن تعداد المسلمين يقترب من مليار نسمة حول العالم، ثلثهم يعيش كأقليات مضطهدة في سلطة حكومات غير مسلمة، والباقون يحيون في دول مستقلة بلغت 40 دولة . وللأسف لا يجمعهم اتحاد قوي يوحد كلمتهم . كما يعجب المؤلف لإهمال وسائل الإعلام العالمية لإضطهاد الأقليات المسلمة، قائلا : ألم يسأل أحدنا نفسه أين ذهب نصف مليون كمبودي مسلم بعد حلول سلطة شيوعية ؟ وقد سقط الآلاف في الكاميرون وتشاد أو الفلبين ولم يتحرك مجلس الأمن الذي يعلن الطواريء إذا خدش يهودي واحد . والقضية إذن ليست في عدد المسلمين وإنما في ضعف شوكتهم، وردا على ما يزعمه البعض من أن الرجوع للخلافة الإسلامية هو الحل، يقول الغزالي: هناك من الخلفاء من لو جردته من السلطة وعرضته على العدالة لأمرت بضرب عنقه، يعني بهم خلفاء بني أمية والعباس ، وقد ظهر الإستبداد في عهدهم وتنبأ الرسول (ص) بذلك حينما قال أن الخلافة الراشدة ستتحول لملك عضوض .. وهذا يختلف عما نقرأه في الأثر عن الخلفاء الراشدين، وقد سأل سلمان الفارسي الخليفة العادل عمر بن الخطاب: " نرى ثوبك طويلا سابغا، وما حصل أحدنا إلا على ملبس قصير، فمن أين لك هذا ؟ " وهنا طلب الخطّاب من ولده عبدالله أن يوضح الحقيقة للناس وهي أنه أعاره من ثوبه لأنه رجل ذو طول . وعمر هو من قال : لو عثرت بغلة في العراق لحسبت عمر مسئولا عنها، لم لم يسو لها الطريق .. لذا يشك الغزالي في إسلام حكام المسلمين الذين عاصرهم ، واصفا عبادة القصور على امتداد العصور ديانة خسيسة خلقها الحكم الفردي، وزحم محاريبها بالأقزام والأفاكين . كما يتعجب الغزالي ممن يقولون الظلم وتزوير الإنتخابات حرام ثم يصمتون صمت القبور وهم يشاهدون ذلك يحدث في بلادهم ، وهي أزمة فقه إسلامي لم يعد مكترثا بالمال والحكم . وتحت عنوان "حدود السمع والطاعة بين الحاكم والمحكومين" فيقول الغزالي أن حديث الرسول (ص) : " من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحدا يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية" فالمقصود منها منع المشاغبين من تهديد الدولة، وخاصة الحاقدين منهم ذوي الأطماع الشخصية ، وليس يعني ذلك أن نطيع الحاكم في غير المعروف . ويعتقد الغزالي أن جمال عبدالناصر ارتكب أخطاء جسام سببت هزيمة 1967 وعشرات الألوف من القتلى والمصابين في حرب اليمن، وأنه ناصب الهوية الإسلامية العداء، وهي نتيجة غياب مؤسسة محترمة للشورى في مصر . رأي الشعب يأسف الغزالي في الباب الأخير من كتابه لفساد أنظمتنا حتى صار 66% من العقول المهاجرة من العالم العربي، ثم ينتقل المؤلف لأثر الإستبداد السياسي على القضاء، وهو يعتبر أن كافة الإعتقالات والسجن والتنكيل بالخصوم السياسيين والنشطاء ضد الأنظمة العربية مرت على القضاء الذي اعتبر أنهم مسوا هيبة الدولة وخاصة أشكال المحاكم العسكرية . أما في الشأن العربي فقد وصلت لبريد المؤلف رسالة من شاعر دمشقي يقول فيها : دمشق أصبحت تطيع الغزاة وتسكر في يومها مرتين، في الصبح تشرب نخب الطغاة، وفي الليل تغفو لتسلو وتنسى، هذه المدينة تدوس بنيها" . وتنهد الغزالي وهو يتذكر القيود والأغلال حول الشعب السوري، وكأنه يعيش زماننا ليرى ما يفعله بشار الأسد من جرائم في حق شعبه الأعزل . وختاما يقول الغزالي : إن الإستمرار بهذه الذاكرة المفقودة التي لا تنتفع من عبرة ولا تستفيد من تجربة، هو خزي للأبد، فإما عشنا مسلمين للأبد وإما ممات لا قيامة بعده !