عاش العالم العربي الأسبوع الماضي ليومين متتاليين على وقع الأحداث اللبنانية.كانت القنوات الفضائية اللبنانية والعربية تنقل التطورات لحظة بلحظة إلى بيوت العرب ومنازلهم من المحيط إلى الخليج.آلاف الشبان يتجمعون في ساحة بيروت الرئيسية ويشكرون الجيش اللبناني على السماح لهم بالتظاهر رغم قرار منع التجمعات الذي صدر عن وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة .على بعد عشرات الأمتار من ساحة المتظاهرين كان نواب البرلمان اللبناني يناقشون الحكومة في مجلسهم ويوجهون سهاما قاتلة لرئيسها وأعضائها.وعلى بعد عشرات الأمتار من البرلمان حيث النقاش المحتدم كانت ما تزال آثار السيارات المحطمة أو المتفحمة التابعة لرئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في مكانها تشهد على حدث سيغير من الآن فصاعدا أشياء كثيرة في لبنان وربما في المنطقة المحيطة به. وعلى بعد عشرات الأمتار من موقع المقتلة كان يرقد الحريري في جامع محمد الأمين وقيل انه أعاد بناءه من ماله الشخصي. منذ وفاته لم تنقطع وفود الزائرين إلى ضريح الرئيس الراحل وتلاحظ في المكان باقات الزهور المتراكمة والشموع التي لا تنطفيء على مدار الليل والنهار ناهيك عن خيم المعتصمين المصممين على تحويل المكان إلى رمز سياسي من الدرجة الأولى. ما من شك أن كل العناصر الدرامية كانت مجتمعة في هذا المكان في اليوم الأخير من شباط فبراير الفائت لتوه وكان لا بد من أن تولد حدثا يليق بالمناسبة وأجوائها السوداوية. بدأ النقاش البرلماني بكلمة مأساوية للسيدة بهية الحريري شقيقة الرئيس الراحل.تحدثت عن أخيها بصورة مؤثرة ووصفت حكومة الرئيس عمر كرامي بحكومة التخاذل وطالبت باستقالتها.ثم توالى على الكلام نواب معارضون أولهم مروان حمادة الذي تعرض لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة ثم تحدث آخرون من التيار نفسه وتفوهوا بكلام قاس بل عدائي ضد الرئيس عمر كرامي دون أن يتدافع الموالون للحكومة من اجل نجدتها وهم يشكلون غالبية الموالاة.فبدا الأمر وكأنه رسالة موجهة إلى من يهمه الأمر كي يستقيل بالتي هي أحسن.فكان ما كان من أمر استقالة كرامي وبالطريقة التي شاهدها الجميع على شاشات التلفزة . وصف ما حصل بأنه آية في الديموقراطية وقيل انها المرة الأولى التي يسقط فيها شعب عربي حكومة في الشارع وفي البرلمان معا وجرى الحديث عن عرس ديموقراطي وتدخل معلقون أجانب للحديث عن تأثير الانتخابات العراقية على الحدث اللبناني للقول أن احتلال العراق استدرج المزيد من الديموقراطية للعرب وأن الباب بات مشرعا على عصر آخر خالٍ من الاستبداد وخالٍ من التحكم في الرأي العام العربي. على الرغم من إعجابي بدينامية الشبان الذين تجمعوا في بيروت فان المشهد الذي انتشر عبر وسائل الإعلام لا يختصر التعقيدات الديموقراطية اللبنانية ولا ينطوي على الصورة البرانية وحدها فهو يضمر مخاطر جدية من الواجب التحذير منها لصيانة الصورة المشرقة للتجربة اللبنانية وللحفاظ على السلم الأهلي اللبناني وهو الأصل والمبتغى في الحركة الديموقراطية حيثما وأينما حلت واستقرت. من المؤسف القول أن ما يعتبره البعض في لبنان انتصارا ديموقراطيا يراه البعض الآخر في لبنان ايضا انتصار انتقاميا. إن من يقرأ تفاصيل ردود الفعل على ما حصل خارج بيروت ولا سيما في طرابلس حيث معقل رئيس الحكومة المستقيل وفي زغرتا في أقصى شمال لبنان حيث معقل وزير داخليته سليمان فرنجية يلاحظ صورة أخرى للمشهد الديموقراطي اللبناني مليئة بالمرارة والتوعد وردود الفعل السلبية. في سياق مكمل يلاحظ أن استقالة الحكومة بواسطة المد الشعبي الإتهامي لا يعني أن طريق تشكيل حكومة جديدة مفروشا بالورود والرياحين في وقت تقف فيه البلاد على عتبة استحقاق نيابي داهم يفترض أن يأتي بخريطة سياسية برلمانية جديدة. وحتى ترتسم هذه الخريطة لا بد من حل مشاكل من الصعب حلها في شهور قليلة ومن بينها كيفية حماية المقاومة اللبنانية من الاستهداف الخارجي وكيفية تنظيم العلاقات اللبنانية السورية وعلى أية قاعدة وكيفية رسم خارطة طريق لتطبيق اتفاق الطائف بكافة بنوده وكلها مسائل خلافية تحتاج إلى حلول خلاقة ولا يمكن أن تحل إلا على طاولة التفاوض والنقاش والحوار بحيث يشعر الجميع على اختلاف مشاربهم السياسية وحساسياتهم و مصالحهم الخاصة أن ما حصل في ساحة التظاهر حصل من اجل الجميع ولمصلحة الجميع. ما يعرفه اللبنانيون وما يعرفه العرب الذين يحتفظون بقدر من الخبرة في تاريخ هذا البلد ينطوي على درس أساسي مفاده أن الديموقراطية اللبنانية لا تعيش بدون توأمها الملازم أي التوافق.ففي كل مرة تم تجاهل هذا الدرس كان لبنان يدفع ثمنا باهظا من أمنه واقتصاده وسلامه الأهلي. واليوم ربما تحتاج الديموقراطية اللبنانية إلى حلول توافقية خلاقة أكثر من أي يوم مضى.فالمسائل الخلافية الوطنية التي طرحت مؤخرا للنقاش لا تحل بوسائل سياسية عادية ولا عبر التظاهرات والتظاهرات المضادة بل بواسطة حوار وطني يحدد فيه اللبنانيون أولويات بلدهم ويصممون على الدفاع عن هذه الأولويات في مواجهة المجتمع الدولي الذي بدأ يتدخل بإيقاع متسارع في الشؤون الداخلية اللبنانية. حتى تبقى صورة المتظاهرين اللبنانيين زاهية ومشرقة ربما على كل الأطراف السياسية في لبنان أن تغلب بقوة المصلحة اللبنانية على ما عداها من المصالح.ولعل مصلحة هذا البلد الأساسية أن يبقى موحدا وان يظل مخلصا لمحيطه العربي وان يتمتع بالقوة الرادعة في مواجهة إسرائيل التي يجب أن لا يسمح لها بالعودة إلى لبنان في أية صورة من الصور ذلك أن طردها من الأراضي اللبنانية كان عملا تأسيسيا للبنان قوي بقوته الذاتية وليس قويا بضعفه على ما كان يردد ساسة الجيل اللبناني الاستقلالي.ولعل مجمل هذه العناصر واردة وثابتة في اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. في اليوم الأخير من شباط فبراير الماضي كان لبنان على موعد مع شباب وشبان الديموقراطية الذين سجلوا انتصارا حقيقيا بوسائل سلمية.لقد فعلوا ما ينبغي فعله لذا على الساسة اللبنانيين أن يحفظوا هذا الانتصار من النزعات الانتقامية وان يسعوا لتحصينه بالوفاق والحوار أي بأدوات السياسة اللبنانية الفعالة والمجربة.