كان من الصعوبة بمكان أن أعود للكتابة في هذا العمود بعد غياب ثلاثة أسابيع نتيجة وفاة والدي -رحمه الله- دون أن أشرك قارئي العزيز معي في التعرف على هذا الرجل الكبير الذي رحل في صمت وهدوء يليقان بشخصيته الجليلة ... وقد احترت كثيرا قبل كتابة هذا حول ما إذا كان يصح أن أكتب أنا عن والدي ، لكني رجحت أن ذلك من حقي ككاتب وصحفي يريد التعبير عن فجيعته ببضع كلمات أرجو أن يحتسبها الله عز وجل من البر الواجب تجاه رجل قام بواجبه كاملا غير منقوص نحو أبنائه خاصة وأسرته عامة وقبل ذلك ومعه نحو وطنه. ومع رحيله المفاجئ عن دنيانا اكتشفت أن اليتم قد لا يكون مقتصرا على الصغير الذي يفتقد رعاية وحنان أحد والديه ، لكنه في حالة هذا الصغير قد يكون أحيانا أرحم من حيث أنه لم يعرف أباه أو أمه أصلا وخاصة إذا يسر له الله من يرعاه ... وإذا كان مصطلح اليتم لا ينطبق بالتأكيد على من فقد والديه وقد بلغ سن الرشد فإن (الفقد) ربما كان المصطلح الأوفى في التعبير عن الأحاسيس والمشاعر التي يجدها المرء في نفسه بسبب العشرة الطويلة خاصة إذا كان هذا الأب يتعامل معك كصديق كما كان حال والدي -رحمه الله- رحمة الأبرار... ففجأة تجد نفسك وقد افتقدته فافتقدت معه طيبته ونصائحه وحكمته وبصيرته وخبرته وصدقه وقبل ذلك كله دعاءه المستمر لك الذي لا يمل ولا يكل لسانه وقلبه عن ترديده في حضورك وغيابك على السواء فتحس عند فقده أنك افتقدت ظهرا عظيما وسندا كبيرا قد لا تكون حاجتك له مادية بقدر ما هي حاجة نفسية ومعنوية. أعرف أن ما قد أقوله عنه سيقرني عليه كل من عرفه من أصدقائه وأسرته ، لسبب بسيط هو أن هذا الرجل لم يتعامل مع كل من حوله ومن عرفه إلا بالكلمة الطيبة والصدق والنقاء والخلق الحسن وما سمعت أحدا في حياته أو بعد وفاته إلا وذكره بخير لأنه لم يجرح أحدا ولم يؤذ أحدا ولم يأخذ حق أحد ولم يستغل نفوذه في يوم ما لاكتساب ما لا يحل له ... فهو من الرعيل الأول من المناضلين الذين حملوا البندقية في ريعان شبابهم دفاعا عن ثورة 1948م كما يؤكد ذلك أبو المناضلين الوالد القاضي عبدالسلام صبره -أمد الله في عمره- في أحاديثه وفي شهادته في كتاب وثائق أولى عن الثورة اليمنية الصادر عام 1984م عن مركز الدراسات والبحوث اليمني وهي شهادة عززها الرئيس الراحل المشير عبدالله السلال في نفس الكتاب وفي كتابه مع ثلاثة من رفاقه عن الثورة الدستورية الصادر في نفس العام تقريبا ، وأنا لا أسرد هذه الأمور لتوثيق كلامي بل للتأكيد على أن الوالد الراحل العظيم لم يكن ممن يحبون الحديث عن أنفسهم فتلك الأمور يعرفها كل أقرانه ، بل ويعرفون أنه استمر منخرطا في العمل الوطني السري منذ فشل ثورة 48م حتى قيام الثورة السبتمبرية المباركة عندما كلفه قائدها الراحل المشيرعبدالله السلال بأن يكون سكرتيرا خاصا له قبل أن يكلفه بعدها بتأسيس أول مكتب لرئاسة الجمهورية ويديره حينها بأبسط الإمكانات التي كانت تفتقر إليها البلاد ، ورغم القرابة التي تربطه بالمشير السلال فقد اختلفا على مسألة الدور المصري في اليمن فغادر صنعاء مع عدد من زملائه المناضلين في أواخر عام 1964م في ظل زخم قاده حينها أبو الأحرار الشهيد الأستاذ محمد محمود الزبيري حول نفس القضية ... ومع ذلك فعندما تغير المسار السياسي للقضية بتبني مشروع الدولة الإسلامية كبديل عن النظامين الجمهوري والملكي رفض مع عدد لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة التوقيع على اتفاق الطائف الذي تبنى هذا المشروع معتبرا أنه مهما كان الخلاف حول الدور المصري فلا تفريط في النظام الجمهوري ... وعانى بسبب ذلك الموقف الكثير من العنت في حياته المعيشية في المنفى ببيروت طوال السنوات الست التي قضاها هناك مع زوجته وأولاده ... ولأن مواقفه كانت واضحة وصادقة ومبدئية فقد ظل يحظى بالاحترام والتقدير والمحبة من كل الأطراف بدءا من المشير السلال -رحمه الله- وانتهاء بآل الوزير الذين عبروا عن حزنهم لوفاته بقصيدة الأستاذ قاسم الوزير المنشورة أوائل هذا الأسبوع ، رغم علمهم الكامل أنه طلق العمل السياسي إلى غير رجعة منذ عودته إلى اليمن من المنفى عام 1971م مركزا اهتمامه على تربية أولاده وتعليمهم ورعايته التي لم يكن لها حدود لكل أفراد الأسرة حتى وفاته -رحمه الله. لقد رأيت الدموع على فراقه في عيون الوالدين الأستاذين الجليلين أحمد جابر عفيف ومحمد الرباعي وسمعت نبرة الحزن الشديد في صوت الوالد الأستاذ الجليل حسين المقدمي والعشرات ممن عرفوه عن قرب وجاءوا أو اتصلوا معزين ومواسين ... وكان كل ذلك يسهم في التخفيف من حزننا على فقده فليس هناك أجمل من أن ترى الحب والمشاعر الفياضة والحزن الصادق في عيون كل من عرفوه وأحبوه واحترموه. لقد أدى الوالد الجليل واجبه الوطني على قدر الدور المنوط به فلم يزايد على أحد ولم يدع أدوارا زائفة بل ولم يكن يحب الأضواء ، وأكثر من ذلك فقد سلم معظم ما بحوزته من وثائق وطنية تاريخية هامة لصديق عمره القاضي علي أبوالرجال رئيس المركز الوطني للوثائق منذ أكثر من عامين بصمت وهدوء وطلب منا تسليمه أي وثائق أخرى قد نجدها ... لكنه بالمقابل أدى واجبه الأبوي والعائلي والاجتماعي بأكثر من طاقته ولم يقصر في شيء ، ولا حاجة بي لأي تفصيل في هذا الصدد فذلك ما كان بينه وبين ربه وأسأل الله أن يجعله في ميزان حسناته. أبي الحبيب ... إننا نفتقدك ... نفتقد ابتسامتك وبراءتك وطهرك ... نفتقد دعاءك ونصحك وعتبك الودود ... نفتقدك إلا أننا نسلم بمشيئة الله وندعوه أن يجمعنا بك في جنته وفردوسه لكن ذلك لن يمنعنا أن نقول إننا على فراقك لمحزونون وموجوعون فالحزن طبيعة بشرية لا مفر منها لكننا نطمئنك أننا لن نكون دوما إلا كما يرضي الله ويرضيك فلتنم قرير العين وإلى اللقاء ... [email protected]