من نافل القول ان اليمن لعبت ادوارا صبورة ومثابرة في المسألة الصومالية ، فقد باركت اليمن كامل جهود المصالحة الوطنية الصومالية فيما استقبلت افواج اللاجئين بروح الاخاء والاعتبار للعلاقات التاريخية بين البلدين الشقيقين ، وكان الرئيس علي عبدالله صالح حاضرا ومشاركا في كامل المحطات التصالحية ، سواء تلك التي تمت بمبادرات شخصية منه في صنعاء ، أو تلك التي تتوجت بمؤتمر « عرتا « في جيبوتي ، كما كان حضوره الشخصي المبكر في مصالحة نيبروبي اشارة ذات مغزى ، التقطها فرقاء التصالح والحوار الوطني الصومالي وظلت في افئدتهم شاهدا على المواقف اليمنية البناءةتجاه الاشقاء ومحنتهم المقيمة , وخلال الايام والاسابيع الماضية ، استتباعاً للتطورات الدراماتيكية في الساحة الصومالية اتسم الموقف اليمني بقدر كبير من الدقة والمسؤولية ، واستوعب الخارطة الجيوسياسية للمسألة الصومالية فيما يتسع له القول ،فقد جرت المعارك الطاحنة طوال الشهرين الماضيين بين تحالف امراء الحرب وتحالف المحاكم الشرعية ، وكما هي عادة امراء الحرب في العالم ، فقداثبتوا مجددا انهم ليسوا اكثر من نمور على ورق ، فالحاصل ان الذين عاثوا في الارض فسادا في الصومال ، ونهبوا الزرع والضرع ، وتفننوا في تعطيل كل افاق السلم والبناء للدولة .. الحاصل انهم ينحسرون الان ويتراجعون مذمومين مدحورين امام ارادة المواطنين الصوماليين الذين سئموا من تجارة الحرب واستباحة امرائها ، فالاخبار تشير الى ان « المحاكم الشرعية « تستولي عمليا على العاصمة الصومالية مقديشيو ، وان امراء الحرب الذين تحالفوا تحت راية «السلم ومكافحة الارهاب !! « الكاذبة ، تم كشف وجههم القبيح ؟، وكان الشارع الصومالي هو الحكم في المعادلة ، فالمعروف ان تجربة المحاكم الشرعية جاءت اثر الفراغ القانوني المخيف ، وانتشار الجريمة والسرقة ، ولم تكن هذه التجربة مصحوبة بمشروع سياسي ، بل بارادة تلقائية لجماعة من الخيّرين الذين وجدوا انه لا حل للمشكلة الا من الداخل ، وبأدوات الداخل ، وكان من الطبيعي ان يلجأ هؤلاء الى المرجعية المتاحة الميسرة ، فكانت الشريعة هي عتبة العمل الذين اعتمدوه لمكافحة الجريمة والسرقة والنهب والسلب والاعتداءت بانواعها المختلفة . اليوم واثرمباشرة امراء الحرب « مكافحي الارهاب !! «بالعمل ضد المحاكم خرج الشارع الصومالي في العاصمة معززا للمحاكم الشرعية ، وناقما من ايام البلاء والجنون الذي ترافق مع سيطرة امراء الحرب على العاصمة الصومالية. اللصوص والجهلة ، المفارقون للقانون ، الذين يعتمدون شريعة الغاب ، ليسوا في وارد التضحية بانفسهم ، ولهذا السبب تراجعوا وتخاذلوا فلم تنفعهم القبائل ولا العشائر ، بل وصل الامر بهم الى حد احتلال المستشفى الوحيد في العاصمة والذي يستقبل الجرحى ، وكان مبررهم ان المستشفي يستخدم من قبل الارهابيين !! . ما يجري في العاصمة الصومالية مدعاة لموقف سريع للشرعية بزعامة عبدالله يوسف ، لكن لا أحدا يدري ماهي حسابات عبدالله يوسف ومن معه ، فما زالوا يتفرجون وينتظرون ، فيما العاصمة تقع بقبضة المحاكم الشرعية ، البديل الطبيعي لمنطق امراء الحرب . واخيرا وبعد اقرار العالم كله بان امراء الحرب اندحروا هاربين من العاصمة الصومالية مقديشيو، وهم الذين كانو يملكون الارض ومن عليها وماعليها ، فاصبحوا بعد اربعين يوما مطاردين خارج العاصمة ، فيما قامت الشرعية الصومالية بدور متأخر ، وان كان محمودا ، فقد تم اقالة اربعة وزراء من امراء الحرب من الحكومة الصومالية . ميليشيات المحاكم الشرعية تسيطر الان فعليا على العاصمة مقديشيو ومدينة «بلعد» التي تقع على بعد 30 كيلومترا من العاصمة ، فيما يحاصرون مدينة جوهر «المعقل الاخير لامراء الحرب» ، ويعترف العالم برمته بالوضع الناشيء بوصفه انعطافا كبيرا في المشكلة الصومالية ، لكن الادارة الامريكية التي تعترف ايضا بهذه الحقيقة تقول بأنها قلقة من سيطرة « الاسلام السياسي « على العاصمة مقديشو ، وتطور موقفها المستجد الى القبول بمحاورة المحاكم الشرعية ، وبالمقابل تباشر حكومة الرئيس عبدالله يوسف بتدشين مشروع حوار مع قيادات المحاكم الاسلامية. معادلة الحوار تنطوي على طرفين : الاول « حكومة عبدالله يوسف « وتمتلك شرعية مصالحة نيروبي ، والثانية « تحالف المحاكم الشرعية « وتسيطر فعليا على العاصمة . من خلال هذه المعادلة المتوازنة يتضح جليا ان حوار الطرفين سيكون صعبا للغاية ، فالمحاكم الشرعية ليست في وارد التنازل على تمسكها بالتشريع الاسلامي ، وحكومة مؤتمر نيروبي مطالبة بتبني دولة اتحادية فدرالية علمانية ، واذا ما لجأ الطرفان الى حكمة العقل وتنازلا معا ، فانهما سيلتقيان عند خطوط مشتركة حاسمة ، خاصة وان الصوماليين شعب من دين واحد « بنسبة مائة في المائة « ومذهب واحد ، بنفس النسبة ايضا ، وان الاسلام السياسي الصومالي لا يمكنه ان يكون مشابها لاسلام « طالبان « ، تماما كالاسلام السياسي التركي الذي لا يشبه الاسلام السياسي الايراني . تلوح الان فرصة نادرة للخروج من حالة اللا دولة الى الدولة ، خاصة بعد انحسار امراء الحرب الذين كانوا دوما ضد بناء الدولة ، لأنها تتعارض مع مصالحهم غير المشروعة . فهل يستفيد فرقاء الارض من الفرصة السانحة والاستثنائية ، ويقطعون خط الرجعة على احلام امراء الحرب الذين يتمنون المستحيل ، ويحلمون باعادة لملمة صفوفهم في الأقاليم المجاورة للعاصمة ، بالرغم من تخلي افراد ميلشياتهم عنهم والتحاقهم بركب الوضع الجديد . هذا المشهد بكل تفاصيله الواقعية كان سببا في مزيد من الاهتمام اليمني الداعي عمليا لانتهاز الفرصة المواتية من خلال حوار بناء بين شرعية نيروبي برئاسة « عبدالله يوسف « ، والمحاكم الشرعية بزعامة « شريف احمد شريف « الذي أبدى في تصريحاته المعلنة قدرا كبيرا من الواقعية السياسية ، وفتح الباب لمصالحة متجددة تستقيم على عتبة الانجاز العظيم المتعلق بالتخلص من امراء الحرب ، والدليل على ذلك استجابته لايقاف الزحف على مدينة « جوهر « بناء على طلب اقليمي ودولي ، وحقنا للدماء . في تقديري ان اليمن مؤهلة ، بل ومجبرة اخلاقيا وتاريخيا على القيام بعملية اسعافية صبورة تتوج ما اختطته ، وتترجم رشدها السياسي في التعامل مع الأنواء والمحن ، واعتقد جازما ان فرقاء الصومال سيستمعون الى الصوت اليمني اكثر من اي صوت اخر ، وان الطريق ممهدة لدور تاريخي تباشره اليمن لصالح الأشقاء في الصومال الديمقراطية.. والنمطية الجديدة للتفكير الشمولي -احمد الزبيري الديمقراطية خيار وطني يمني خالص ارتبط اشتراطياً بالوحدة ومتلازماً معها ليكون الاساس الذي عليه قام البناء المؤسسي للدولة اليمنية الحديثة، وتصوير البعض اليوم لغايات مصلحية سياسية ضيقة، ان مواصلة هذا والتمسك به انما فرضته وتفرضه ضرورة علاقات اليمن الدولية دون انكار حقيقة اننا جزء من هذا العالم ومتغيرات حداثة اوضاعه الاقليمية والدولية تؤثر بهذا القدر، لكنها ليس عاملاً رئيسياً حاسماً في تحديد توجهاتنا، فعند انجاز فخامة الرئيس علي عبدالله صالح الوحدة ورديفها الديمقراطية لم يكن مطروحاً بعد مثل تلك الاملاءات التي اتخذت صورة المشاريع التغييرية المفروضة من الخارج ولم تبدأ هذه المشاريع بالظهور الا في السنوات الاخيرة والذي يفترض الاقرار به في هذا السياق هو ان قيادة الوطن السياسية كان لديها قراءة عميقة عند إعادة تحقيقها للوحدة لاتجاهات التحولات العالمية مستشرفةً من خلالها بنظرة ثاقبة آفاق المستقبل مستوعبة تداعيات انتهاء الحرب الباردة لصالح ترسيخ الوحدة والديمقراطية، وبالتالي وجود مثل هذا الطرح من قبل البعض يمكن فهمه على أساس انه يأتي في اطار تأثير المناخات التي خلقها اقترابنا من الاستحقاق الديمقراطي المتمثل في الانتخابات الرئاسية والمحلية في سبتمبر القادم ومناقشة مثل هذه الاطروحات تفضي الى استنتاج انها قناعات تعبر عن عدم اقتناع اصحابها بالديمقراطية الا بماهي مطلب خارجي فرضتها واستدعتها ظروف المرحلة، ولكن بما انهم امام استحقاق انتخابي فالسياسية تقتضي أكل الثوم بأفواه الآخرين معاً، ان البعض من هؤلاء اصبح يفصح عن قناعة بالديمقراطية تأتي من باب انها استحقاق يستجيب لمتطلبات دولية ومن مستلزمات السياسة مجاراة هذه الرغبة الدولية معطياً في هذا المنحى تحليلات تصل بعضها الى مجافاة الحقيقة جملة وتفصيلاً، متجنبين الحديث عن الديمقراطية التي تريدها الدول الغربية للمنطقة والتي ينبغي ان تكون مفصلة على مقاييس مصالحها- بمعنى انها تتعاطى معها من منظور برجماتي وهناك اكثر من دليل يبرهن على ان ماتريده ليس الديمقراطية بماهي كذلك ولكن بمدى انسجامها مع استراتيجية مصالحها وموقفها من نتائج الانتخابات الفلسطينية من الانتخابات في دول اخرى من العالم يؤكد صحة ماذهبنا اليه.. الأسوأ ان مثل هذه النظرة للديمقراطية لدى البعض تنسحب على مواقفها في قضايا وطنية اخرى مشّكلة منظومة من انماط التفكير الشمولي منتجاً بنمطية جديدة.