يُعتبر ما يشهده قطاع غزة هذه الأياّم تعبيراً صادقاً عن الخلل في موازين القوى على الصعيدين الأقليمي والدولي في مصلحة مزيد من الظلم ليس ألاّ. هذا الخلل، الذي رفض العرب في استمرار التعاطي معه، كان وراء معظم المصائب التي حلّت بالمنطقة بدءاً بالنكبة وانتهاء بالوضع الراهن مروراً بالنكسة التي حصلت في العام 1967 والتي لا يزال العرب والفلسطينيون يعانون من ذيولها حتى اليوم. يا لها من نكسة معروف جيّداً وبدقّة متناهية كيف بدأت وليس معروفاً هل تنتهي يوما؟ ويا لها من نكسة حصلت في ظلّ شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، يمكن القول أنّها أسوأ من النكبة التي حلّت في العام 1948 والتي كانت نتيجة مباشرة لرفض التعلّم من تجارب الماضي القريب جدّاً! هناك رئيس للوزراء في أسرائيل أسمه أيهود أولمرت يتظاهر بأنه تغيّر وأنه يريد السلام. والحقيقة أنّه لم يتغيّر قيد أنملة منذ تركه الليكود وهو ينوي تنفيذ عملية رسم الحدود النهائية لدولة أسرائيل من جانب واحد بأعتبار ذلك بديلاً من مشروع "أسرائيل الكبرى". هذا هو الواقع بكلّ بساطة وصراحة. أيهود أولمرت يتابع تنفيذ البرنامج السياسي الذي وضعه أرييل شارون والذي بدأ بالأنسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزّة قبل أقل بقليل من سنة. هل يريد الفلسطينيون التعاطي مع هذا الواقع أم لا؟ هل يريدون التصدّي بالفعل للمشروع الاستعماري الأسرائيلي الجديد أم أن همّهم منصبّ على كيفية المساهمة في تنفيذه عبر عمليات من نوع تلك التي حصلت في غزة أخيراً وانتهت بخطف جندي أسرائيلي. أن حياة الجندي الأسرائيلي ليست همّاً حكومياً أسرائيليا، واذا عدنا لتاريخ المشروع الاستعماري الذي نفّذته الحركة الصهيونية في أرض فلسطين العربية، نجد أن الحركة لم تتردد في التضحية بأرواح يهودية متى تعلّق الأمر بأنجاح المشروع الأكبر. حصل ذلك في مصر والعراق، على سبيل المثال وليس الحصر، عندما تطلّب الأمر تهجير اليهود العرب من البلدين إلى ما سُمّي "أرض الميعاد". لم تتوان الحكومات الأسرائيلية المتلاحقة في السعي إلى الأستفادة من المعطيات الداخلية في فلسطين، أضافة الى الوضعين الأقليمي والدولي للسير في تنفيذ خطط مرحلية تصبّ في مشروع أكبر. هذا ما حصل في الماضي وهذا ما يحصل الآن. لا وجود حالياً لهمّ أسرائيلي اسمه السلام. لو كان هذا الهمّ قائماً بالفعل، لكانت أسرائيل عملت، خصوصاً منذ العام 2001، على مساعدة السلطة الوطنية الفلسطينية. بدل ذلك، استغلّت القرار الخاطئ الذي أتّخذه الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات والقاضي بعسكرة الأنتفاضة من أجل شن حملة على كلّ ما له علاقة بمؤسسات فلسطينية ومن أجل تدمير هذه المؤسسات ومعها السلطة الوطنية الفلسطينية. في هذا الأطار، أطار تنفيذ ما وعدت به حكومة أولمرت والتزمته بالنسبة الى رسم الحدود النهائية لدولة أسرائيل، تحصل عملية تدمير غزة والقضاء على ما بقي من مؤسسات فلسطينية فيها والعمل في الوقت ذاته على أفهام أي طرف عربي أن اليد الأسرائيلية طويلة. ولذلك كان الكلام الذي صدر عن الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني النائب الأوّل لرئيس الوزراء وزير الخارجية القطري كلاماً على درجة كبيرة من الحكمة والدراية عندما أعتبر تحليق مقاتلات أسرائيلية فوق قصر للرئيس بشّار الأسد في منطقة اللاذقية "جزءاً من الوضع الصعب الذي تمرّ به الأمة العربية". أنّه بالفعل وضع صعب يتطلب وعياً للموازين القائمة فلسطينياً وعربياً ودولياً التي تجعل التحليق الأسرائيلي فوق قصر رئاسي سوري "جزءاً من اللامبالاة من قبل المجتمع الدولي ومن قبل أسرائيل بردة الفعل العربية والدولية". دعا النائب الأوّل لرئيس الوزراء القطري الى "وقفة واضحة صريحة ليست كلامية وليست أجتماعاً طارئاً وليست بياناً" في مواجهة أسرائيل التي "تريد تحديد حدودها من جانب واحد وتقتل من تعتقد أنّه أرهابي أو أنّه لا يروق لها وتريد ألاّ يكون هناك رد فعل فلسطيني كما تدمّر البنية التحتية للفلسطينيين ثمّ تدعو الدول والعرب الى مساعدة الفلسطينيين، ولكن لا يُطلب من أسرائيل دفع تكاليف ما دمّرته خلال السنوات الأربع الماضية". ما هذا الظلم الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني في ظلّ الخلل الكبير القائم في موازين القوى، وهو خلل يبدو أن حكومة أولمرت على أستعداد للذهاب بعيداً في أستغلاله لمصلحتها ولمصلحة مشروعها؟ من حسن الحظ أنّه لا يزال هناك عرب يفكرون ولا يكتفون بأطلاق الشعارات الفارغة التي لا علاقة لها بالواقع والتي لم تؤد سوى الى مزيد من الكوارث. من حسن الحظ أن هناك رجالاً بين العرب يعترفون بالحقائق ويدعون الى العمل من اجل مستقبل أفضل ومعالجة الأوضاع الراهنة يعيداً عن المزايدات والمزايدين. في النهاية، ما يسمح لأسرائيل بممارسة أرهاب الدولة في غزة وغير غزة هو المعرفة التامة لدى أولمرت بأن أدارة بوش الأبن لا تستطيع إلاّ أن تكون إلى جانب ما تُقدم عليه حكومته، حتى أنّ في الأمكان القول أن الأدارة الأميركية على أستعداد لتغطية الجرائم التي ترتكبها أسرائيل ما دام هناك هذا المقدار الكبير من الغباء السياسي لدى حركة مثل "حماس" يقول أحد الناطقين بأسمها أن الجندي المخطوف موجود لدى فصائل مسلّحة في غزة. أن هذا الناطق يعترف بطريقة أو بأخرى بأن هناك فوضى في غزة وأنّ هناك مسلحين ليسوا في الضرورة تحت سيطرة الحكومة أو الرئاسة... من مصلحة الجانب الفلسطيني أن يقدّم نفسه الى العالم بطريقة مختلفة، بصفة كونه جانباً يدرك تماماً وعلى نحو مسبق النتائج التي يمكن أن تترتب على خطف الجندي الأسرائيلي في ظلّ الموازين القائمة فلسطينياً وعربياً وأقليمياً ودولياً. ومن واجب العرب، كلّ العرب ألاّ يلتزموا الصمت في هذه المرحلة. من واجبهم مساعدة الفلسطينيين على الخروج من المحنة من جهة وأن يكون هناك موقف على أعلى المستويات يتوجه الى الولاياتالمتحدة وأوروبا بصوت عال يؤكد أن الموضوع ليس موضوع جندي خُطف، بل أنه موضوع مشروع أستعماري تصرّ أسرائيل على تنفيذه. أكثر من ذلك، من واجب العرب أيضاً تنبيه "حماس" بشكل صريح ومكشوف الى أنه يفترض بأيّ عمل تقدم عليه أن يكون موضع دراسة عميقة تأخذ في الأعتبار الموازين القائمة أوّلاً من جهة والنيّات الأسرائيلية من جهة أخرى. في النهاية، يظلّ السؤال المطروح ما هي أفضل طريقة لمواجهة المشروع الأسرائيلي؟ هل يكون ذلك عبر خطف جندي أم عن طريق البحث عن أستراتيجية فلسطينية موحدة وواضحة يمكن تسويقها عالمياً؟ هذا الوقت ليس وقت أحراج الرئاسة الفلسطينية عن طريق عمليات لها ما يبررها نظراً الى أن الذي خُطف جندي يعمل في خدمة الأحتلال، ولكن ليس في مقدور الشعب الفلسطيني تحمّل النتائج التي ستترتب عليها. في كلّ الأحوال والظروف، لا مفرّ من أن يرسخ في البال أنّ كل عمل، أكان سياسياً أو عسكريا،ً لا يأخذ في الأعتبار موازين القوى القائمة مآله الفشل. كل كوارث العرب نجمت عن ذلك. بعض الحكمة ضرورة في مرحلة زادت فيها المشاكل التي يعاني منها الشرق الأوسط والمنطقة بدءاً بما يجري في الصومال وأنتهاء بالبرنامج النووي العراقي... مروراً بالحدث العراقي الذي أسس لأزمات وأنقسامات عرقية ومذهبية معروف كيف بدأت وليس معروفاً كيف يمكن أن تنتهي. بعض الحكمة أكثر من ضرورة أيضاً من أجل المحافظة على القضيّة الفلسطينية ومكانتها عربياً ودولياً وألاّ يسقط الفلسطينيون مرة أخرى في لعبة الأوهام وأن يتحولوا مجدداً الى وقود في معارك ذات طابع أقليمي لا علاقة لهم بها تصبّ في خدمة المشروع الذي تنفذّه أسرائيل. على الفلسطينيين أن يتذكروا بأستمرار ما تسمح به وما لا تسمح به موازين القوى في ظل "الوضع الصعب الذي تمر به الأمة العربية".