ليس مهمّاً ما يحدث في إسرائيل. المهم ما يحدث في لبنان. ما الفارق بين أيهود أولمرت وبين بنيامين نتانياهو أو بين أولمرت وايهود باراك الذي يمكن أن يعود زعيماً لحزب العمل تمهيداً للعودة إلى موقع رئيس الوزراء في إسرائيل. كلّ ما في الأمر أنّ هناك قاسماً مشتركاً بين الثلاثة يتمثّل في الرغبة الواضحة في تجميد عملية السلام. لم يتحقق تقدّم يذكر على صعيد عملية السلام منذ إغتيال إسحق رابين في تشرين الثاني- نوفمبر من العام 1995. يمكن القول أن متطرفاً اسمه ييغال عمير، قاتل رابين الذي وقّع إتفاق أوسلو مع الشهيد ياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض خريف العام 1993 ، أنهى عملية السلام. كان هناك رجل استثنائي هو الملك الحسين، رحمه الله، عرف معنى أن تكون هناك عملية سلام ومعنى أن تتوقف هذه العملية وخطورة ذلك على الهوية العربية. وحده العاهل الأردني الراحل استوعب أهمية التطورات الأقليمية في مرحلة معينة وأن يكون استغلال عربي لهذه التطورات بغية توظيفها حيث يجب أن توظف، أي في اتجاه السلام. ولذلك، لم يفوّت فرصة التوصل إلى اتفاق سلام مع اسرائيل في تشرين الأوّل- أكتوبر من العام 1994، بعدما وقعّت منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بموجب قرار من القمة العربية، اتفاق أوسلو مع حكومة دولة اسرائيل وصار هناك اعتراف متبادل بين الجانبين. لم يفوّت الملك الحسين تلك الفرصة من أجل المحافظة على حقوق الأردن، حقوقه في أرضه وفي مياهه كي لاّ تكون هناك تسويات أو حلول على حسابه. بكلام آخر قطع الملك الحسين الطريق على السياسيين الإسرائيليين الذين طالما نادوا بنظرية "الوطن البديل" للفلسطينيين، وهي نظرية لم يتخل عنها أرييل شارون يوماً وربما لا تزال تلازمه في غيبوبته! هناك عقلان في العالم العربي. عقل ينادي بالسلام والعمل من أجل السلام... وعقل يعتقد أن عرقلة عملية السلام انجاز في حدّ ذاته. لا يدري العقل الأخير أنّه يخدم المشروع الإسرائيلي الذي يراهن على الوقت من أجل تكريس الاحتلال وفرضه أمراً واقعاً بعد الوصول الى مرحلة تتحول فيها القضية الفلسطينية إلى قضية ثانوية ليس إلاّ بدل أن تكون القضية الأولى للعرب. هل من خطر يتهدد القضية الفلسطينية في أيامنا هذه أكثر من خطر تركيز الاهتمام العالمي على ما يحصل في العراق وعلى النتائج التي ترتّبت على الاحتلال الأميركي لهذا البلد، العربي الى ما قبل فترة قصيرة؟ لعلّ أفضل تعبير عن خطورة العقل العربي الذي يعمل على عرقلة السلام الخطاب السياسي الذي يتمسّك به "حزب الله" في لبنان وممارساتها على الأرض. حرص الحزب بلسان قادته، على رأسهم الأمين العام السيّد حسن نصرالله على الاشادة بتقرير "لجنة فينوغراد" الإسرائيلية التي كانت مكلفة بالتحقيق في أسباب الاخفاقات التي تعرضت لها حكومة أيهود اولمرت خلال حرب الصيف الماضي على لبنان. دانت اللجنة التي ترأسها القاضي ألياهو فينوغراد أولمرت وزير الدفاع عمير بيريتس ورئيس الأركان، خلال فترة الحرب، الجنرال دان حالوتس. ذهبت بعيداً في ادانتها للشخصيات الثلاث ولتصرف الحكومة والقيادة العسكرية ككل وتحدثت عشرات المرات عن "الفشل" الاسرائيلي في المواجهة مع "حزب الله". والواقع، أن ليس في استطاعة أي مراقب يتمتع بحدّ أدنى من الموضوعية، التنكر لبطولات مقاتلي "حزب الله" وتضحياتهم. هذا شيء ونتائج الحرب شيء آخر بغض النظر عن الفشل الاسرائيلي والخسائر التي لحقت بأقوى جيش في المنطقة وفقدانه الكثير من هيبته ومن القدرة على الردع التي كان يفاخر بها. صحيح أن خسائر كبيرة لحقت بالجيش الاسرائيلي. صحيح أن القيادتين السياسية والعسكرية كانتا مرتبكتين، لكنّ الصحيح أيضاً أن هزيمة كبيرة لحقت بلبنان. هزيمة بالأرقام كان أسطع دليل عليها أن بلداً كان يستقبل مليون سائح في الصيف صار بلداً فيه مليون نازح. دمّرت اسرائيل جزءاً من البنية التحتية اللبنانية، وكان في استطاعتها تعطيل كلّ مرافق الحياة في البلد الصغير لولا الضغوط الدولية. هناك جسور تربط بين المناطق والقرى لا يزال العمل جارياً على اعادة بنائها نتيجة ما ألحقه بها العدوان الاسرائيلي من دمار. والأهم من ذلك كله أن آلاف الشبان اللبنانيين هاجروا نتيجة الحرب التي تسبب بها "حزب الله" واستغلتها اسرائيل للانتقام من لبنان واللبنانيين. هل هناك أخطر من هجرة الأدمغة والشباب يتعرّض لها بلد يحاول أن يعيد بناء نفسه ولا يزال في غرفة العناية الفائقة بعد سنوات طويلة من الحروب الداخلية ووصاية نظام متخلّف مثل النظام السوري عليه؟ عندما ينادي "حزب الله" بالانتصار، يفصل نفسه عن لبنان واللبنانيين الذين يشعرون بمرارة الهزيمة. انهم يشعرون بان "حزب الله" أنتصر فعلاً ولكن على لبنان وذلك تعويضاً عن قدرته على الانتصار على اسرائيل. غداً يمكن أن يستقيل أيهود أولمرت تحت ضغط الشارع ونتائج تقرير "لجنة فينوغراد". من سيخلفه؟ سيخلفه أيهود أولمرت آخر أو شخص أكثر تطرفاً منه مثل بنيامين نتانياهو أو فاشل مثل أيهود باراك في احسن الأحوال. ماذا يهمّ لبنان من كلّ هذه المعمعة الاسرائيلية وكيف يمكن أن يكون هناك من يتحدث عن "انتصار على اسرائيل" فيما النتيجة العملية الحقيقية الوحيدة للحرب هي القرار الرقم (1701) الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. أنشأ هذا القرار، الذي يمكن أن يصبّ في مصلحة لبنان وأهل الجنوب، القوة الدولية المعززة التي سمحت بانتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود. متى يقف "حزب الله" مع تنفيذ القرار (1701)، يصبح هناك أمل في الانتصار على اسرائيل... يكفي أن القرار يساهم بأبعاد شرورها عن لبنان. المؤسف أن الحزب المذهبي ذي المرجعية الايرانية لا يجد غضاضة في متابعة الحرب الاسرائيلية على لبنان واستكمالها عن طريق الانقضاض على وسط بيروت لتعطيل الحياة في المدينة وتهجير مزيد من اللبنانيين. في هذه الحال، يستطيع "حزب الله" أن يعتبر أنه خرج منتصراً من حرب الصيف. نعم انتصر على لبنان واللبنانيين وذلك ليس بتعطيل الحياة الاقتصادية وكل المظاهر الحضارية في البلد فحسب، بل باثارة ما يمكن اعتباره أسوأ أنواع الغرائز أيضاً. أثارت حرب الصيف بكل بساطة الغرائز المذهبية. انتقلت العدوى العراقية إلى لبنان. في حال كان هذا ما يسعى إليه "حزب الله"، لا يمكن عندئذٍ إلاّ الاعتراف بالانتصار الذي حققه، ولكن مع تذكيره بأن الانتصار على لبنان لا يمكن في أيّ شكل أن يكون بديلاً من الانتصار على اسرائيل! من الأفضل في هذه الحال الحديث عن بدل من ضائع وليس عن انتصار!