ليست العدالة في البلدان الغربية مجردة من التدخلات وليست منزهة تماما من الغرضيات خصوصا في القضايا السياسية وتلك المتعلقة بالفساد، ولكن العدالة في القضايا الجنائية تنطوي على شروط عالية الشفافية والتجرد تتيح التوصل الى احكام جديرة بالاحترام علما ان العدالة بنسبة مائة في المائة لا تتوافر على الارض وانما في السماء، فالحكم الالهي هو الحكم الوحيد العادل في حين ان حكم البشر معرض للغرضية وسائر النزعات الشخصية. عموما يمكن القول ان عدالة اهل الارض في الغرب في القضايا الجنائية هي الاكثر قربا من العدالة النموذجية وهذا امر في غاية الأهمية بالنسبة للسلطة القضائية وبالتالي لتنظيم علاقات البشر ببعضهم البعض ولاستقرار السلطة السياسية. من فرنسا ننقل مثالا عله يفيد في توضيح معنى ما نذهب اليه. «قضية غريغوري» اندلعت هذه القضية في 16 اكتوبر تشرين الاول من العام 1984 عندما عثر على جثة الطفل غريغوري فيلمان البالغ من العمر 4 سنوات مقيد اليدين والرجلين طافية على سطح الماء في نهر قريب من منزل والديه في منطقة الفوج. توجهت الانظار اولاً نحو خاله برنار لا روش بناء على اتهام احدى قريباته وأدلة اخرى ثانوية. اعتقل لاروش على اثر ذلك وخضع للمحاكمة لكنه بريء من بعد بسبب عدم احترام قواعد التحقيق.براءته لم ترق لوالد الضحية جان ماري فيلمان فاقدم في 29 مارس اذار عام 1985 على قتل لاورش دون ان يدخل السجن ولكنه خضع للمحاكمة خلال 8 سنوات وحكم عليه بالسجن 4 سنوات في العام 1993 بتهمةالقتل عمدا. من جهتها تعرضت الام كريستين فيلمان لاتهامات بقتل ولدها وسجنت لمدة اشهر في العام 1985 وخضعت من بعد لمحاكمة طويلة قضت ببراءتها في العام 1993 . الملفت في القضية ان الوالدين حصلا على مبالغ مالية بمثابة عطل وضرر من الحكومة الفرنسية بسبب الاخطاء التي ارتكبتها الاجهزة العدلية ومثلهما حصلت ارملة الضحية لاروش على مبالغ مماثلة للسبب نفسه. ومن ثم اقفل ملف القضية لتعذر تحديد الفاعل واستمر اقفاله حتى العام 2000 حين فتح مجددا بزعم توفر تقنيات جديدة كفيلة بتحديد هوية الفاعل عبر الفحص الجيني ذلك ان القاتل ترك اثارا على طابع بريدي في رسالة مجهولة المصدر ارسلت الى ذوي الضحية وتتضمن تهديدا بقتل الطفل. بيد ان التقنيات المذكورة ظلت قاصرة عن تحديد المجرم فاعيد اقفال الملف بعد سنة على فتحه واليوم قرر احد القضاة اعادة فتحه متذرعاً بوجود تقنيات جديدة وفائقة الحساسية والفعالية في التعرف على هوية الفاعل من خلال الدي اي ان. هكذا تعود قضية غريغوري الى الواجهة مجدداً بعد ان شغلت فرنسا طيلة الربع الاخير من القرن العشرين ومع هذه العودة من المنتظر ان تشهد تطورات جديدة ربما ينجلي بعدها لغز غريغوري عبر تحديد قاتله وان تم ذلك تكون العدالة قد انتصرت في معركة شديدة الصعوبة ويكون انتصارها شاهداً آخر على انتصار الحق على الباطل وعلى هزيمة الجريمة امام العدل. ثمة من يقول ان العدالة في بلداننا العربية مفقودة وبالتالي من الصعب العثور على قضية شبيهة بقضية غريغوري وهو قول صحيح مع الاسف لكن يجب الا نفقد الأمل ذلك ان بلداننا ستكون مضطرة بفعل قواعد وشروط الحياة المعاصرة الى توفير الشروط الملائمة لكي يصبح القضاء سلطة حقيقية مفيدة للجميع، وليس اداة بيد فئة على حساب اخرى ولعل المطلوب أقله في القضايا الجنائية ان يمارس القضاء سلطة مطلقة ففي هذه الحالة- وفيها- وحدها يمكن للرأي العام ان يمحضه ثقته وان يعترف بسلطته وفي هذا الاعتراف يكبر البلد بأسره وترتفع قيمته في اسهم الدول المعتبرة. فخر الصناعة اليمنية نقل لي بعض الاصدقاء ردود فعل على شطر من مقال نشر في هذه الزاوية بعنوان كن وحدويا وافعل ما تشتهي الاسبوع قبل الاخير وقيل لي ان كثيرين رحبوا بفكرته وان آخرين اعترضوا على ما جاء فيه. المرحبون قالوا ان الوحدة ليست مسؤولة عن ظاهرة الفساد التي تتم خارج القوانين وعن تصرف هذا المسؤول او ذاك وفق اهوائه مستخدما السلطة التي أؤتمن عليها استخداما كيفياً الى غير ذلك من الظواهر السلبية التي يسلط عليها اليمنيون في مقايلهم اضواء كاشفة ونقدية، وهذا قول صحيح ذلك ان ربط الوحدة بالفساد يسيء للوحدة ويحمي الفساد والفاسدين من المساءلة، ولنفترض ان فاسدا اميريكا ارتكب الكبائر فهل تكون الوحدة الامريكية بين الشمال والجنوب هي المسؤولة أم الشخص المعني حصرا؟ في امريكا وفي غيرها من الدول التي تحترم عقول مواطنيها يعتبر الفاسد فاسداً بشخصه وليس بهويته الوطنية وفي المانيا يكون المجرم مجرماً لشخصه وليس لكونه المانياً وحدوياً، فلماذا يصبح الكلام عن الوحدة الامريكية بوصفها هوية مقدسة للجميع ولماذا يتم الحديث عن الوحدة الالمانية بوصفها إرثاً للجميع فيما الحديث الوحدوي في اليمن يعتبر فئويا؟لماذا يكون حلالا على امريكا ان تحمي وحدتها من اذى الافراد ولماذا يكون حراماً على اليمن ان يتبع القاعدة نفسها؟ اما ردود الفعل السلبية فقيل لي أنها في غالبها شخصية وان الذين رفضوا مقاربتي لموضوع الوحدة لم يناقشوا ما قلت بل اين قلت ما قلت وقلة منهم اعتبرت انني غير محق لانهم يعانون من الفساد في ظل الوحدة ولانهم لايملكون وظيفة ولان اسعار المواد الغذائية مرتفعة.عن الذين بادروا الى التعرض لشخصي فليس لدي ما اقوله ذلك انه ليس التهجم الاول ولن يكون الاخير خصوصا انني ادافع عن قضية عادلة وليس عن قضية مشينة وبالتالي يمكن لي ان اتفهم امتعاض المتضررين من عدالة هذه القضية وعن الذين يعتقدون مخطئين ان الفساد ظاهرة وحدوية، فأقول سامحكم الله وسدد خطاكم ذلك ان الفساد كان موجودا في كل انحاء اليمن قبل الوحدة وبالتالي من الصعب ربطه بها وهو موجود في دول مقسمة وموحدة ومعرضة للتقسيم ومعرضة للتوحيد. وأقول سامحكم الله ثانية لأن الوحدة هي فخر الصناعة اليمنية فكيف سيكون حال اليمن واليمنيين عندما ينزلون بأفخر ما لديهم الى الدرك الاسفل؟