الراجح عندي أن “ايمانويل تود” الباحث الفرنسي في علوم الديموغرافيا ليس معروفا في اليمن الا من قلة قليلة من الباحثين او المطلعين على الحياة الثقافية الفرنسية.قد يكون “بول نيزان” جده لوالدته اكثر شهرة بالنسبة الى الشريحة العليا من اشتراكيي عدن التي خصها بكتاب شهير وكان يساريا مخضرماً لكنه انتهى منتحرا إذ القى بنفسه من مبنى عال فكانت نهايته مسرحية بالمعنى الدرامي للكلمة. وليس “تود” معروفا على نطاق واسع في بلده فرنسا او الاصح انه لم يكن معروفا حتى العام 1995 اثناء حملة الانتخابات الرئاسية حيث قيل عامذاك انه صاحب دراسة اجتماعية فرنسية تبين الحجم الواسع للهوة الفاصلة بين الطبقات في فرنسا وأن المرشح الرئاسي في حينه جاك شيراك قد استخدم هذه الدراسة في حملته الانتخابية وكانت سببا بين اسباب اخرى في وصوله الى قصر الأليزيه. ليس الحديث عن “تود” في هذه الزاوية من باب التعريف بباحث فرنسي مجهول وانما من باب التعريف باستنتاجات اساسية توصل اليها من خلال منهجه الديموغرافي ( لم السكان) وقد صحت كلها وكانت تاريخية ومتقدمة على كم هائل من الاستنتاجات المضادة التي خذلتها الوقائع والاحداث. سقوط الاتحاد السوفيتي توقع “تود” في العام 1976 انهيار الاتحاد السوفييتي المحتم مستندا الى قراءة اجتماعية للمجتمع الشيوعي وقد قوبل استنتاجه حينذاك بالسخرية او بالاهمال ولربما اعتبره اليساريون في حينه بوقا من الابواق الغربية المناهضة لموسكو.بل ذهب كثيرون الى تصنيف كتاب السيدة هيلين كارير دانكوس بعنوان” انهيار الامبراطورية” السوفييتية في مرتبة عليا واغداق الالقاب الحميدة عليها رغم ان كتابها قد صدر في العام 1978 بعد عامين من كتاب “ تود” ورغم الاخطاء التي ارتكبتها حيث قالت ان الامبراطورية الشيوعية ستسقط انطلاقا من آسيا الوسطى بسبب الثورة الديموغرافية التي تشهدها مقابل الانحسار الديموغرافي الروسي غير ان السقوط جاء من دول البلطيق الاكثر تقدما في الفضاء الامبراطوري الشيوعي. هكذا تقدمت دانكوس على “ تود “ ومازالت فهي عضو في الاكاديمية الفرنسية المرموقة وهو باحث عادي. وفي استنتاج آخر توقع “تود” منذ عشر سنوات انهيار البورصات العالمية وان هذا الانهيار سيودي بالسيطرة الرأسمالية المطلقة على العالم وقد وجه في دراسته انتقادا لاذعا للاقتصادي البريطاني الشهير« ريكاردو» و هو الاب الروحي لنظرية التبادل الحر في القرن التاسع عشر. ويعتقد” تود” اليوم بوجوب ان تحمي اوروبا نفسها من العولمة المفتوحة ومن التبادل بلا ضوابط. سقوط الامبرطورية الامريكية بيد ان الاستنتاج الاخطر في جملة استنتاجاته فهو يتصل بالامبراطورية الامريكية فقد توقع سقوطها في كتاب صدر في العام 2002 بعنوان« ما بعد الامبراطورية» وفيه متابعة حثيثة لمصادر القوة الامريكية منذ القرن التاسع عشر وحتى تدمير البرجين عام 2001 وكيف ان هذه المصادر آخذة في التراجع الواحدة تلو الاخرى فهو يؤكد أن الولاياتالمتحدة كانت مكتفية ذاتيا في المواد الاولية في نهاية القرن التاسع عشر وان بضائعها كانت تشكل في منتصف القرن العشرين نصف البضائع العالمية ما ادى الى توسعها الهائل حتى تسعينيات القرن الماضي حين بدات تسجل تراجعا مذهلا بدأ بعجز في الميزان التجاري بنسبة 100 مليار دولار في العام 1991 ووصل الى 450 مليار دولار عام 2001 وعليه صارت الامبراطورية الامريكية بحاجة الى تمويل خارجي ياتيها من اوروبا واليابان ومؤخرا من الصين وذلك للتعويض عن النقص في انتاجيتها. ويرى “تود” أن مركز الانتاج الاول في العالم انتقل الى اوراسيا( اوروبا + اسيا) ما ادى الى ان تصبح القوة الاعظم في العالم محتاجة الى غيرها بدلا من ان يحتاجها الغير. ويخلص الباحث الى ان هذه الوضعية هي التي حملت أمريكا على خوض حروب استعراضية ضد دول هزيلة لكي تبرهن للمنتجين الكبار انها جديرة بحمايتهم ويرى انها أصرت وتصر على ابقاء الصراعات الدولية مشتعلة ومن بينها الصراع العربي الاسرائيلي لكي تبرر استعراض قوتها وهيبتها العالمية ولعل مثال الحرب على العراق ينطوي على برهان ساطع على هذه الاستراتيجية حيث تبين لنا جميعا ان الحرب على العراق كانت مجردة من كل الاسباب الضرورية وان الاصرار على شنها هو من باب استعراض العضلات والقول للعالم انه يحتاج الى امريكا لحمايته في حين بينت تطورات الحرب ان امريكا صارت عبئا على العالم وعلى شعبها بدلا من أن تكون حاجة للعالم ولشعبها..ويلاحظ “ تود “ ان احدا في القرن العشرين لم يتمكن من زيادة قوته بالوسائل العسكرية وان اصرار الولاياتالمتحدةالامريكية على الاستراتيجية العسكرية سيؤدي الى كشف عجزها امام العالم اكثر من زيادة قوتها ولعل هذا العجز نلمسه اليوم في الدين الداخلي الامريكي البالغ 10 ترليون دولار وفي الانهيار الفظيع الذي يضرب الاقتصاد الامريكي ناهيك عن العجز المتزايد في الميزان التجاري بسبب حرب العراق وافغانستان والذي يجعل الامبرطورية تحت رحمة منافسيها بدلا من ان يكونوا تحت رحمتها. ويجدر التذكير هنا بموقع الامبراطورية المتزايد الضعف في حديقتها الخلفية في امريكا اللاتينية حيث تنبثق الدول المناهضة لها ويجرؤ “هوغو شافيز” وهو زعيم دولة متوسطة على تحديها وتوسيع التحالفات المناهضة لها الى حد اجراء مناورات عسكرية مع روسيا الاتحادية في عقر دارها ان جاز القول..هكذا يرى” تود “ ان الامبراطورية الامريكية آيلة الى السقوط بسبب تراجع موقعها الاقتصادي وعجزها التجاري ونهوض منافسيها ناهيك عن انتشار التعليم والوعي في العالم والذي ادى ويؤدي الى رفض الخضوع والسيطرة والمطالبة بالديموقراطية ليس فقط على الصعيد المحلي وانما على الصعيد العالمي ما يعني ان العالم سيصبح تعدديا بالضرورة وان السيطرة الامبراطورية الامريكية على النظام الدولي محكومة بالزوال. تعايش الحضارات واخيراً توصل “ تود “ الى استنتاج مناقض لاستنتاج صموئيل هنتنغتون الذي ساد لبعض الوقت حول “ صراع الحضارات” فهو يرى في كتاب مشترك مع باحث من اصل عربي صدر العام الماضي ان العالم مقبل على “تفاهم الحضارات” وتعايشها وان الثورة الديموغرافية التي شهدها العالم الاسلامي والتي كانت تخيف الغربيين هذه الثورة آخذة في التراجع لتصل الى التوازن الطبيعي بفضل التعليم وتحسين اوضاع المرأة وان المسلمين سيقبلون كغيرهم من الحضارات على المطالبة بالديموقراطية لانفسهم وللعالم وانه على قاعدة هذه المطالبة يمكن للحضارات ان تتعايش دون ان تلغي الواحدة منها الاخرى كما كان عليه الحال في القرون الغابرة فهل يصح اسنتاج “ تود “ حول تعايش الحضارات كما صحت من قبل استنتاجاته السابقة ؟ من الصعب تجاهل مصداقية هذا الاستنتاج طالما ان صاحبه برهن في كتابين منفصلين بالحجج الملموسة عن حتمية سقوط الامبراطوريتين السوفيتية والامريكية. يبقى التذكير ان الباحث مختص بعلوم الديموغرافيا وليس بالفلسفة والاقتصاد وفي تجربته معين لمن يرغب في تحد ي الاختصاصات الصارمة وبالتالي العودة المفيدة الى التفكير الشامل المبني على مصادر المعرفة المختلفة تماما كما هو حال اللامعين في حضارتنا العربية قبل الف عام شأن ابن رشد وغيره من قضاة العرب وفلاسفتهم. حبذا لو نكون سلفيين بهذا المنحى وليس بمنحى القاء القنابل في الشوارع والساحات العامة.