لا ضير في قيام التظاهرات والمسيرات، التي تعبر من خلالها الأحزاب والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني عن مواقفها وتوجهاتها، فذلك حق ديمقراطي يكفله الدستور والقوانين النافذة، ولكن هذا الحق ما لم يحط بالضوابط والقواعد الناظمة يصبح عرضة للانتهاكات والتجاوزات التي تنزلق به إلى مهاوي الفوضى والاستخدام العبثي الذي يلحق الضرر بالمصلحة العليا للوطن والمجتمع، وهو ما يمكن استشراف ملامحه في التظاهرات الجماهيرية التي شهدتها أمانة العاصمة يوم أمس، حيث برزت حالتان متناقضتان، سواء في الدلالات أو الغايات والأهداف. ففي الأولى خرج عشرات الآلاف من المواطنين يعبرون عن ابتهاجهم بنجاح المرحلة الأولى من عملية الانتخابات والمتمثلة بمرحلة مراجعة جداول الناخبين والتي تندرج في إطار التحضير للانتخابات النيابية القادمة المقرر إجراؤها في 27 ابريل 2009م رافعين الشعارات المؤكدة على التمسك بنهج الديمقراطية والمضي قدماً في تنفيذ استحقاقاتها الانتخابية في مواعيدها المحددة باعتبار أن الانتخابات هي جوهر العملية الديمقراطية، والتراجع عنها يمثل انتكاسة كبيرة لهذه العملية. وليس هذا وحسب بل أن من شاركوا في هذه التظاهرة الحاشدة خرجوا إلى الشوارع يدفعهم إلى ذلك، الإصرار على رفض كل محاولات التعطيل أو الصفقات السياسية أو الالتفاف على إرادة الشعب أو سعي أي طرف سياسي أو حزبي إلى ممارسة أعمال الابتزاز واستغلال مناخات الديمقراطية وأعمال التظاهر لإثارة القلاقل، والإخلال بالأمن والاستقرار وإشاعة الكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد. ويستمد هؤلاء مبرراتهم وهم الأغلبية - على كل حال- من القناعة بأن المعيار الحقيقي للديمقراطية يتمثل في الاحتكام لصناديق الاقتراع واحترام إرادة الناخبين، وهو منطق وجيه لا يمكن القفز عليه خاصة وأن خيار الديمقراطية يستند في منهجيته على ثابت راسخ هو أن الأغلبية تحكم وتتحمل مسئولية إدارة شئون الدولة والمجتمع فيما الأقلية تعارض وتجتهد في وضع البرامج التي تقربها إلى الناس وتمكنها من نيل ثقتهم في أية انتخابات قادمة. وعلى النقيض من ذلك نجد الحالة الأخرى قد تجلت بكل تفاصيلها في المظاهرة التي نظمتها أحزاب المشترك في عدد من شوارع العاصمة والتي كان المحرك الرئيسي لها هو رفض إجراء الانتخابات النيابية القادمة ما لم يتم التراجع عن الإجراءات التي تم اتخاذها من قبل اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء وما لم يتم السير نحو التغيير ودون أن تكشف أحزاب المشترك التي رفعت هذه اليافطة.. ما نوع التغيير الذي تريده وتسعى إليه، هل هو تحريض المواطنين على ممارسة الاحتجاجات والمظاهرات على ذلك النحو من الفوضى والأساليب غير الشرعية وغير القانونية، أم أنه التغيير الذي يصوب سهامه على الوطن وخططه الإنمائية وتوجهاته الاستثمارية أم أنه التغيير الذي يعبث بأمن واستقرار الوطن والسلم الاجتماعي وينتهك أصول وقواعد اللعبة السياسية، كما بدا ذلك في مشهد الأحداث التي تخللت مظاهرة اللقاء المشترك التي استخدمت كل أوراقها المشروعة وغير المشروعة بما في ذلك الزج بالأطفال وصغار السن ودفعهم إلى إثارة الشغب والتعدي على رجال الأمن والمصالح الخاصة والعامة. فإذا كان ذلك هو التغيير الذي تتطلع إليه أحزاب المشترك فإنها تقدم الدليل الذي يدينها ويكشف سوءاتها ويؤكد أنها صارت على خطوط التماس مع مصالح الشعب والوطن، وأنه لم يعد يهمها سوى إشعال الحرائق وافتعال الأزمات والدفع بالبلاد إلى متاهات الاحتقان والاضطرابات الكارثية. وأمام ما لمسناه ورأيناه وشاهده الجميع - يوم أمس- من أفعال وممارسات وتجاوزات للأنظمة والقوانين والتقاليد الديمقراطية، نجد أن التغيير الذي ترفع شعاراته قيادات أحزاب اللقاء المشترك هي أحوج الناس إليه فهم من يتعين عليهم تغيير أنفسهم وتغيير مسلكهم وتغيير تفكيرهم وتغيير الرؤى والثقافة التي تعشعش في عقولهم المتحجرة. ومصيبة هؤلاء أنهم بتلك الأفعال وضعوا أنفسهم في خصومة مع الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، حتى وإن تدثروا بلبوسها وتشدقوا بمصطلحاتها ورفعوا شعاراتها، ولكي يتغيروا ويعودوا إلى جادة الصواب عليهم التحرر من الغل والحقد الذي ينخر في دواخلهم مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).. صدق الله العظيم.