عندما عينت الحكومة البريطانية أول سيدة في منصب الرئيس العام للاستخبارات خلال التسعينات من القرن الماضي ذهلت الأوساط الشرقية عموماً والعربية خصوصاً لأكثر من سبب. أولاً أن وجود سيدة في أحد أهم المناصب الاستخباراتية في العالم وبالذات لندن كان أمراً جديداً. ثانياً أن المنصب نفسه كان من المفترض أن يناط بالرجل وقدراته على التصدي وشجاعته في مواجهة الصعاب المترتبة على الجاسوسية ومكافحتها. ثالثاً أن المواطن العربي لم يكن يعرف حينذاك اسم رئيس استخباراته. رابعاً أنه لم يكن يتصور أن تملأ الفراغ سيدة من الشارع المجاور، وظل سنيناً لا يعرف ليس فقط أكبر موظف في مرتبته بل حتى بعض الضباط الكبار في الخدمة أو صغارهم في الجهاز. ولما امتلأت الصحف بأخبار السيدة ستيلا رمنجتون وأحاديث شتى عنها كتبتُ مقالاً في ذلك الصدد أقول فيه لماذا نحن في البلدان العربية لا نزال نمتنع عن نشر اسم أو أسماء كبار موظفي الاستخبارات عندنا، وأحياناً في بعض الدول كأننا نخشى أن يتعرف أحد على أسمائهم المعروفة لدى الحكومات الأخرى خصوصاً في الأجهزة التابعة لكل الدول. وإذا كانت هناك مناسبة نمتنع عن نشر أسماء الضيوف أو الحضور إذا كانوا من منسوبي الجهاز مع أنه من أهم المرافق التي تعتمد عليها الدولة في تسيير أمورها وملاحقة الأعداء وأحياناً الأصدقاء، فإسرائيل تتجسس على أمريكا، وأمريكا بدورها تسعى إلى اختراق وزارات الخارجية والداخلية والاقتصاد في الدول الحليفة ولا ترى عيباً في ذلك. وبعد تولي السيدة رمنجتن رأيت صورها في صحافة بلادها والوكالات المصورة وهي تحمل سلة مشتريات في البقالات، وتشتري مناديلها في المعارض، وتنتقل عبر المواقف إلى سيارتها التي تقودها بنفسها، ربما كانت تحمل مسدساً صغيراً للاستعمال وقت الحاجة أو سلاحاً دقيقاً سرياً، كذلك الذي نراه في المعارض المتخصصة بالولاعات والنظارات والأقلام السرية التي تباع في شارع بارك لين بلندن قريباً من فندق هيلتن خلف فندق جروفنر هاوس، ويمكن لأي كان دخوله والتسوق فيه والخروج منه بدون مراقبة ولا حتى إبراز هوية. بعد عدة سنوات من الخدمة أحيلت السيدة إلى المعاش وظن البعض أنها ستختفي عن الأنظار كما كانت عادة نظرائها في البلاد الشرقية والعربية، لكنها فاجأت الجميع بقضاء أوقات فراغها بالتأليف، عماذا؟ عن عالم المخابرات طبعاً، ولكن بشرط وهو وجوب عرض مسودات رواياتها على المكتب الرئيسي لجهاز المخابرات للموافقة المسبقة على نشرها منعاً لاحتمالات كشف أسراره وهو الذي كان يوماً ما أهم جهاز من نوعه في العالم قبل ظهور السوفيتي بعد الحرب العالمية الأولى ثم الأمريكي خلال الحرب الثانية. أصدرت - وقد تجاوزت السبعين- عدة روايات مثيرة معتمدة على تجاربها وخبراتها وقراءاتها مئات الألوف من أوراق التقارير التي كانت تردها من كافة أنحاء العالم عن طريق مكتبها الرئيسي، ووجدت أنها تكاد أن تقلد الكتاب البريطانيين في نفس المضمار الذين كانوا يخدمون الجهاز ذاته وهم إيان فلمنج – مبتكر شخصية جيمس بوند، وجراهام جرين صاحب "رجلنا في هافانا"، وجون لاكاريه مؤلف "الرجل الذي عاد من الصقيع". وكلهم برزوا في الأدب المعاصر كما نجحوا سابقاً كعملاء في الجهاز، وأتصور أنها تتحلى بالاعتدال في سرد حكاياتها لأننا نعرف من هي، وماذا كانت لعدة سنوات حتى وصلت إلى قمة هرم الجاسوسية المضادة في بلادها المعروف بحروفه الأولى إم.آي.خمسة– قبل تقاعدها، فهي لا بد تمتلك ذخيرة هائلة من المعلومات، وأنها أيضاً محاطة بحراسة مشددة ولو عن بعد لحمايتها من الأجهزة المعادية التي تتمنى وضع أيديها على ذلك المخزون، لذلك يحرص مكتبها الرئيسي على منعها من نشر أي جانب منها إلا في حدود ضيقة عندما تنسج قصصها مع خبراتها. لكن السيدة تختلف عن زملاء المهنة الذين سبقوها إلى الخدمة ثم التأليف، فهي أكبر مما كانوا سناً ومكانة ثم أنها سيدة، أما هم فكانوا شباباً واستطاعوا التحليق بخيالهم في عالم الجاسوسية والمغامرات الجنسية وسفك الدماء – ولم تكن تلك من صنع الخيال بل أنها كانت أجزاءً هامة من عدة الشغل وطبعاً أن منهم من لاقى حتفه وألقي به في الأعماق بعد تعليق مائة كيلو من الأسمنت والحديد في عنقه. ومن سوء حظه أن حكومته لم تطالب به لأنها ببساطة تامة لم تعترف بوجوده داخل أجهزة الأعداء. لذلك تجد قصصها لها بطلة وليس بطلاً اسمها ليز كارليال تبلغ الثانية والثلاثين وموظفة سرية في خدمة ام.آي.خمسة وهي الخدمة الخاصة بالمجال الداخلي عكس جيمس بوند في قصص إيان فلمنج الذي اهتم بالمجال الخارجي كجزء من خدمة ام.آي.ستة خلال الحرب الباردة ومحاربة مجانين العظمة، ماذا تحارب الآنسة ليز، وأفترض أنها آنسة بعد نهاية الحرب الباردة؟ ربما كما كانت تفعل السيدة خلال خدمتها قبل توليها الرئاسة متابعة الجماعات الإرهابية الحقيقية من كل الأجناس سيما من الكتلة الشرقية السابقة، ومكافحة الحركة الأيرلندية التي كانت تقض مضاجع بريطانيا قبل التسوية السلمية لها لأنها كانت تطالب باستعادة إقليم أيرلندا الشمالية وضمها إلى أيرلندا الأم التي كانت بريطانيا قد ضمته عنوةً في القرن الماضي، لأن سكانه كانوا من المسيحيين البروتستانت بينما أيرلندا تكونت من المسيحيين الكاثوليك. وكما فعل جون لاكاريه ستجد السيدة مواقف ومواقع متعددة لحكاياتها، ولديها من الذكريات واللقاءات والقراءات ما سيكفيها لعدة سنين قادمة إذا ما تقدم بها العمر وما لديها من النشاط والصحة والاهتمام والهوس بالمادة، كما كان بالمهنة مع أن أنوثتها قد تحد من نشاط بطلتها، فهي قد تبتعد عن المغامرات الجنسية وسفك الدماء الغزيرة التي كان يحبذها إيان فلمنج، وذلك أفضل للقارئ الذي يحبذ الاستمتاع بعالم الجاسوسية الدولية الأقرب إلى الحقيقة بدلاً مما كنا نراه في حكايات مشبعة بالموت الجماعي والوحشية البالغة.