أعرف أناساً لهم أكثر من عقدين من الزمن في الوظيفة العامة وبعضهم ناهز الثلاثة عقود من الخدمة الوطنية قضاها بإخلاص ونزاهة ونظافة يد، لكنه للأسف الشديد في موقع أقل مما يستحق ومن منصب تجاوزه "حمران العيون" في سنين قليلة جداً، في حين أن مثل أولئك "محلك سر" وبظروف مادية صعبة وفي بيوت إيجار وأصبحوا ضحايا أمراض الضغط والسكر والقلب والصداع المزمن نتيجة الشعور بالإحباط ونظرة الآخرين لهم بأنهم مساكين و"خُبلان". أحدهم قال لي: أنا أصبحت لا أستطيع أن أسافر إلى القرية ليس فقط لأسباب مادية فهذه عقبة يمكن تجاوزها بتدبير مصاريف حتى ولو من باب السلفة .. لكن المشكلة أن أبناء قريتنا معظمهم مغتربون وأثرياء وبنوا قصوراً في قريتنا فضلاً عن أملاك لهم في أكثر من مدينة .. ولذلك عندما أكون بينهم أصبح محل سخرية وتندر ويقولون هذا موظف من ثلاثين سنة ولم يستطع أن يبني بيتاً لأولاده .. ولو كان شاعراً وذكياً يفهم الأمور وهي طايرة كان دبّر حاله من زمن وهبر "هبرات" مش بس تعمل له بيت وسيارة فخمة وإنما تجارة و"بيزنس". بل وذهب بعضهم -على حد قوله- أن يعرض عليه ترك الوظيفة ويشتغل عنده عامل في المحل الذي يملكه في بلد الاغتراب.. وآخر يعاني من الأسئلة التي يحاصره بها أولاده وهم يستفسرون لماذا وضعهم المادي والمعيشي أقل بكثير من وضع جيرانهم الذين لم يكمل والدهم سنتين على دخوله الوظيفة وأصبح وضعه كجار لهم مؤقت بالنظر إلى أنه أصبح يبني مسكناً ملكاً سيخرج إليه هو وأولاده بعد أقل من سنة. وثالث يقول لك أنا إخلاصي وولائي والخدمة التي قدمتها لهذا الوطن وللدولة والحكومة والنظام السياسي أكثر بكثير من فلان، والناس يشهدون لي في محافظتي بأنني صاحب أقدمية من ذلك الشخص ولكنه تجاوزني إلى المنصب الأعلى لأنني نزيه ويدي نظيفة، بينما هو "بلطجي" لكن الناس يخففون تلك المصطلحات ولا يقولون "هذا نزيه" وذلك "بلطجي" بل يقولون "هذا مسكين" وذاك "شجاع وسمخ" وإذا قال لها "دوري" دارت حتى ولو كانت قراراته عوجاء ورقبته تتحمل مظالم الناس. إذاً نحن أمام أمثلة بسيطة جداً لحالات بالآلاف بل وأكثر من ذلك نعاني من غياب ثقافة النزاهة وبروز ثقافة "الشطارة" ووضع كهذا ليس ما ينشده الوطن ولا ما ينشده المخلصون للوطن وللدولة وللنظام السياسي. وبقاء الحال كما هو عليه لا يخدم الوطن ولا وحدته ولا تنميته ولا أمنه ولا استقراره، ولا يمكن لأي معالجات أن تكون فاعلة وناجعة إذا لم تركز بدرجة أساس على ثقافة النزاهة ونظافة اليد والكفاءة والإخلاص كأساس لإسناد المسئوليات وبناء منظومة مقومات الدولة وإعادة "هيبة الدولة" التي يدرسها أصحاب الذمم الكبيرة. مهما عملنا من تشريعات متقدمة وخطوات ديمقراطية كبيرة وإجراءات لتجاوز إشكالية المركزية الشديدة وتجسيد مبدأ اللامركزية المالية والإدارية والحكم المحلي فإن تتويج كل ذلك وجعله يسير في المسار الصحيح يقتضي إعادة تصحيح الاختلالات والتصدي لمظاهر الفساد وتجسيد مبدأ الثواب والعقاب قولاً وفعلاً وجعل ثقافة النزاهة هي السائدة بحيث تكون قيمة وتاجاً على رأس كل وطني شريف ومخلص وليس مدعاة للتندر والسخرية والاستخفاف بل وأحياناً التجريح والتشهير بما ينعكس على نفسية وصحة هؤلاء "الموظفين" الذين قد تحسبهم أغنياء من التعفف. وما ذهبت إليه من المؤكد أن الجميع سيفهمه على أنه فعلاً الدور الذي ينبغي علينا القيام به كإعلام وطني مسئول ينتهج النقد البناء وفاءً وإخلاصاً لهذا الوطن ونظامه السياسي، وفي وقت نحن أحوج فيه إلى اصطفاف وطني يعتمد الآليات السليمة التي تمكننا من تسوير وطننا وحماية وحدتنا وثوابتنا من كل الدعوات المشبوهة والمخططات العدائية والنوايا المريضة