شارك الحزب الشيوعي الفرنسي في الحكم بعد تحرير فرنسا من الاحتلال النازي واستمر في الحكومة بين العامين 1945و1947 وكانت الوزارة تضم في حينه الاشتراكيين والحركة الجمهورية الشعبية والتيار البرجوازي.وقد شغل قادة من الحزب الشيوعي الفرنسي وزارات الاقتصادالوطني والانتاج الصناعي والعمل. وكانت سياسة الحزب الستاليني في تلك الوزارات مبنية على استدراك الاضرابات العمالية ووقفهاان وقعت علما انه كان الاكثر تمثيلا للعمال والحرفيين والاكثر حضورا في المنظمات النقابية في تلك الفترة. اما وقف الاضرابات فمرده الى رهان الحزب على "الوحدة الوطنية "داخل الائتلاف الحكومي وبخاصة الحفاظ على الوئام مع التيار البرجوازي وذلك من اجل كسب ما كان يسمى في حينه ب" معركة الانتاج " في بلد حطمته الحرب العالمية الثانيةحتى ينهض ويستأنف دوره من جديد.وكان شعار الحزب الشيوعي في ذلك الحين ينتمي الى اللامعقول اذ يرى ان "الاضراب هو سلاح التروستات" اي المجمعات الاقتصادية العملاقة على الطريقة الامريكية التي يهمها الربح المطلق بغض النظر عن شروطه ووطنه. وفي العام 1947 اندلعت موجة من الاضرابات العارمة تسبب بها التيار التروتسكي الذي كان وما زال يصنف في خانة اليسار المتطرف فحمل الحزب الشيوعي على المضربين واطلق عليهم شتائمه المعروفة في حينه مشيرا الى "الفوضوين والتروتسكيين والديغوليين" وهي الفئات التي كانت على صراع حاد مع الحزب بيد ان الشيوعي لم يكن قادرا على البقاء طويلا في الحكومة لان موجة الاضرابات اتسعت وخشي من ان يتجاوزه المضربون ويخرجون على اطره ويهددون تمثيله النقابي لذا كف عن ادانة الاضرابات ما ادى الى طرده من الحكومة وقد تزامن ذلك مع اندلاع الحرب الباردة بين الشيوعية والراسمالية علما ان وزراء شيوعيين طردوا ايضا من الحكومتين الائتلافيتين البلجيكية والايطالية في الفترة نفسها استجابة لسياسة الرئيس الامريكي هاري ترومان حول وجوب مقاومة الايديولوجية الشيوعية الهدامة. والثابت ان العديد من الانجازات الاجتماعية التي حققتها الطبقات العمالية والوسطى يعود الى تلك الفترة والى الجهود المؤتلفة التي بذلتها حكومة "الجبهة الشعبية" المنتصرة في الحرب ضد النازية وذيلها النظام الفيشي في فرنسا وقد شارك الحزب الشيوعي الفرنسي في حكومات لاحقةعشية انهيار الحرب الباردة وبعدها دون ان يلتزم ادانة الاضرابات العمالية ودون ان يتسبب بها ذلك ان موقعه العمالي والنقابي والتمثيلي القوي هو الذي تسبب دائما في توزيره وكان عليه ان يكبح جماح العمال كي يشترك في الحكم ويسعى من اجل تحسين شروط حياتهم وذلك دون ان يخشى من الوقوع في تناقض بين ماركسيته و ووسائل تطبيقها. نسوق هذا المثال للقول ان الايديولجية في عرف الاحزاب اليسارية والمعارضة الغربية ليست كابحا للمشاركة في الحكم والسعي لتحقيق مكاسب للفئات التي يمثلها هذا الحزب المعارض او ذاك .والايديولجية ليست قيدا مطلقا يقيد هذه الاحزاب ويضعف هامش المناورة في عملها السياسي فعندما يقتضي الامر تولي وزارة الاقتصاد الوطني لكسب معركة "الانتاج الوطني" بعد حرب طاحنة يتخلى الحزب الشيوعي عن تراثه الشعاراتي العمالي مؤقتا ويكبح الاضراب والمضربين بل يتهمهم بالعمالة لاصحاب التروستات المتوحشة. كم حزب شيوعي خارج الغرب اظهر هذا القدر من المهارة السياسية واحترم الاولويات الوطنية على حساب شعاراته وايقوناته الفكرية؟ كم حزب برهن وقت الشدة ان ما يهمه هو الوطن اولا واخيرا لان لا قيمة للاحزاب ولكل المتحزبين اذا ما انهار الوطن.كم حزب معارض امتلك الجرأة وتحالف مع خصومه الالداء من اجل الوطن كما فعل الحزب الشيوعي الفرنسي.؟كم حزب خارج الغرب اعتبر ان عدم قدرته على تغيير السلطة تغييرا جذريالا يقفل باب الاشتراك في الحكم من اجل تحقيق اهداف حزبية ووطنية مفيدة للحزب وللجميع؟ اقول بصراحة تامة انني لا اعرف حزبيين كثر وبخاصة في التيارات الايديولوجية اليسارية والدينية قد انتهجوا هذا المنهج واظهروا هذا القدر من المرونة وتمتعوا بهذا القدر من حسن المناورة وسطروا صفحات مجيدة في تاريخ بلا دهم كما فعل الحزب الشيوعي الفرنسي الذي احتل مرتبة الشرف في اطلاق المقاومة ضد الاحتلال النازي وتبعه الاخرون من بعد. ثمة من يعترض على هذه الخلاصة باتجاهين. الاول عبر الاستشهاد بحال الحزب الشيوعي الفرنسي وهو اليوم في ادنى المراتب التمثيلية والرد على هذا الاعتراض يكمن في انهيار الحرب الباردة التي طعنت الاحزاب الشيوعية والاشتراكية في القلب وعززت صعود الاحزاب الليبرالية واليمينية ناهيك عن ان الحزب الشيوعي الفرنسي اخطأ في كبح الجناح الاصلاحي في صفوفه بزعامة بيار جوكان واذ امتنع عن الاصلاح تراجع اكثر فاكثر حتى كاد في تمثيله يلامس الارض. والاتجاه الثاني يقول " اعطني سلطات عربية وعالمثالثية كالسلطة الفرنسية حتى اشترك في الحكم واظهر مواهب تفوق مواهب الحزب الشيوعي الفرنسي!! والقول صحيح الى حد بعيد ذلك ان السلطات القمعية والاستبداداية لا تسمح بتفاعل التيارات السياسية داخل ائتلاف حكومي يحقق الاهداف والمصلحة الوطنية بيد ان الاستبداد ليس شاملا كل الدول وكل الاوطان والقمع المطلق ليس توأما للسلطة في كل انحاء المعمورة فهناك العديد من البلدان التي تخوض تجربة تعددية وتحتاج الى مثل هذه المبادرات الائتلافية التي تتيح ممارسة الحكم من اجل تحقيق اهداف وطنية او من اجل التصدي لمخاطر وطنية او من اجل الحفاظ على الوحدة الوطنية او من اجل كسب معركة الانتاج الوطني... غالبا ما نقلد الاخرين في ملبسهم ومأكلهم وعاداتهم وتقاليدهم فماذا لو استفدنا من طرقهم في الحكم وفي حل المشاكل الوطنية ماذا لو اعتمدنا منهجا سياسيا تعدديا هو حصيلة افضل المناهج واكثرها فعالية؟ ماذا لوخففنا قليلا من اثقالنا الايديولوجية حتى نتمكن من السير بمشاريع الوحدات الوطنية الى الامام بطريقة ميسرة؟ لعله السؤال المركزي في حيواتنا السياسية ولعلنا الأولى بالاجابة عنه فهل نفعل؟