من المنتظر بحسب الاتفاقية الأمنية الموقعة بين قوات الاحتلال الأمريكي والحكومة العراقية أن ينسحب آخر جندي أمريكي من العراق مع نهاية العام الجاري، في هذا الوقت تسري شائعات عن ضغوط أمريكية خفية على المسؤولين العراقيين من اجل الاحتفاظ بمجاميع عسكرية تنتظم في قواعد بزعم حماية السفارة والقنصليات الأمريكية في مختلف الأراضي العراقية ويسود اعتقاد إن هذه القواعد قد تضم حوالي خمسين الف جندي الأمر الذي أثار إطرافا عراقية عديدة هددت باعتبار هذه القوات محتلة وبالتالي مجابهتها وطردها من الأراضي الوطنية. ومن غير المعروف بعد ما إذا كانت واشنطن ستتعظ بهذه التهديدات وتغادر العراق كما تنص الاتفاقية الثنائية أم أنها ستغامر بالبقاء جزئيا في هذا البلد. وكائنا ما كان الموقف الأمريكي فان الانسحاب الاستراتيجي من بلاد الرافدين يذكر بمصير الاحتلال المغولي قبل حوالي سبعة قرون. يبقى الفارق المؤلم وهو أن الهزيمة الأمريكية في العراق تغطيها هذه الأيام حرائق عديدة في بلاد العرب فلا تظهر كما ينبغي أن تظهر ولا تشكل منطلقا للخلاص من التبعية مرة واحدة والى الأبد. ولإلقاء الضؤ على هذا الحدث عدت إلى ورقة سابقة كنت قد نشرتها لهذه الغاية علها تفي بالغرض. تلح على المرء في عام الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من العراق عبارة وردت في خطاب أول للرئيس الراحل صدام حسين مطلع الحرب على بلاده عام 2003 إذ قال " سينتحر مغول العصر على أبواب بغداد". لم يعبأ احد بشرح معنى العبارة التي يبدو أنها طويت مع خطب أخرى كان ينظر إلى مضمونها بوصفه وعظا إيديولوجيا لايتناسب مع الوقائع العسكرية التالية للخطاب حيث سقطت بغداد بسهولة فاجأت الغزاة قبل غيرهم. بيد أن تطورات الحرب خلال السنوات الماضية أعادت التذكير بتلك العبارة.فهل قيلت استنادا إلى نظرة ثاقبة لما سيحل بالغزاة الأمريكيين في بلاد الرافدين؟ أم أنها حكم على الأحداث أشبه بفعل إيمان مستقل عن مساراتها ومضمونها؟ لا تساورني شكوك حول ميل رفاق الرئيس الراحل إلى الثقة المطلقة بأقواله وتنزيلها منزلة سامية ولكنهم لن يعدموا الشواهد والأدلة والوقائع الدامغة. ذلك إن الانسحاب الأمريكي من الأراضي العراقية يتزامن مع أزمة اقتصادية عالمية تهدد جديا مكانة الولاياتالمتحدة كقوة منفردة بشؤون العالم ناهيك عن انكشاف حجم هذه القوة العسكرية وظهور محدودية تأثيرها في مجابهة خصم مصمم على الدفاع عن أرضه بوسائل حربية بدائية هذا إذا أردنا إهمال سقوط واشنطن في ورطة إستراتيجية حقيقية في الشرق الأوسط اثر حرب العراق ورعايتها لحرب أهلية مذهبية وطائفية واثنية للخروج من هذا البلد. وتجدر الإشارة إلى المقارنة التاريخية مع المغول الذين مكثوا في العراق فترة توازي اقل من نصف الفترة الأمريكية وقد الحق المماليك هزيمة ساحقة بجيوشهم عام 1260 فكان احتلال عاصمة الرشيد سببا في فناء قوتهم الأعظم في القرن الثالث عشر. وإذا كان الجدال قائماً ومشروعاً حول تراجع مكانة الولاياتالمتحدةالأمريكية وما إذا كان بوسعها استرداد دورها العالمي كاملاً بعد الكارثة العراقية فان هزيمتها في "ارض السواد" تكاد إن تحظى بما يشبه الإجماع ودون الحاجة إلى " مماليك العصر" وإنما إلى مقاومة عراقية متعددة الطرف معزولة ومشتتة ما كفت عن التعرض لضغوط عربية وإقليمية لتحجيمها وشيطنتها طيلة السنوات الست الماضية تارة عبر الحروب المذهبية وأخرى عبر حروب الصحوات في مقاطعة الانبار وثالثة عبر أجهزة الأمن في البلدان المجاورة ورابعة من خلال وسائل الإعلام العربية والأجنبية التي نجحت ليس فقط في التعتيم على أخبار المقاومين وإهمال نجاحاتهم الظاهرة، وإنما أيضاً عبر جمعهم مع القتلة الطائفيين والمذهبيين أو حصرهم في خانة ما سلم من أجهزة النظام السابق. وعلى الرغم من وسائل التشويه التي استخدمت للنيل من المقاومة العراقية فقد تمكن منتظرالزيدي عبر إرسال نعليه الشهيرين إلى منصة مؤتمر صحافي للرئيس السابق جورج بوش من رسم صورة المنتصر والمهزوم في هذه الحرب التي استقرت على ذلك المشهد بحسب قسم وافر من وسائل الإعلام الدولية التي أجمعت على القول إن المؤتمر الصحفي المذكور ربما سيكون الأشهر في الألفية الثالثة. وهنا يحسن التذكير بان رمزية هذا المشهد طوت بقوة مشهداً آخر أريد له أن يطبع بداية الاحتلال عندما نشر على نطاق واسع مشهد "أبو تحسين" العجوز الشيوعي وهو ينهال بحزمته على صورة للرئيس السابق لحظة سقوط بغداد. مع الزيدي يكون المحتل الأمريكي قد سقط بالضربة القاضية في لعبة الرموز التي أطلقها بنفسه في شوارع العاصمة العراقية يوم سقوطها. ما من شك إن حال بغداد بعد تحريرها من الجيوش الهمجية المغولية لا تختلف كثيرا عن حالها بعد انسحاب الجيوش "الهمجية" الأمريكية من المدن، وذلك على الرغم من فوارق العصور والتقدم، فقد حرث المغول درة الحضارة العربية ومنارتها في القرن الثالث عشر وقتلوا أكثر من نصف مليون من سكانها وذبحوا علماءها ونكلوا بعائلاتها والقوا بمكتباتها في نهر دجلة، ونهبوا خزائنها مع المتعاونين معهم فيما يشبه حرب الإبادة الحضارية فكانت بعد رحيلهم عنها أشبه بخرائب هجرها العمران، وهي اليوم تبدو على حال مماثل بعد أن تسبب " مغول العصر" (على ما ورد في الخطاب أعلاه) بتهديم الدولة والجيش والأجهزة الأمنية ونهب وتدمير المتاحف واغتيال وترهيب العلماء، و قتل أكثر من مليون مواطن وتهجير أربعة ملايين آخرين. وإذا كان رحيل المغول قد خلف أسطورة ابن العلقمي والتنابذ المذهبي فان المحتل الأمريكي يسير على الرسم نفسه إذ أرسى التنابذ الطائفي والمذهبي والأثني عبر لعبة سياسية مقيتة و دستور ينظم حروبا أهلية باردة أو ملتهبة تتيح له التحكم بمسارها عن بعد . تبقى الإشارة إلى أن هولاكو قائد الحملة المغولية كان يتمتع بحنكة عسكرية وسياسية معطوفة على مواصفات بربرية كانت تميز شعبه النازع إلى الثراء عبر النهب والسيطرة العسكرية وليس الإبداع والإنتاج في حين بدا جورج بوش قائد الحملة الأمريكية (الديمقراطية !!) متوسط الذكاء ومحدود الخبرة وسيء التدبير إلى حد إلى أن حملته الهمجية على بغداد سارت بثبات على خطى الحملة المغولية رغم مضي أكثر من سبعة قرون اختزنت خلال الشعوب خبرات وتجارب عصية على الحصر.