منذ كنت طالباً في المراحل الجامعية الأولى وأنا أحرص على تدوين بعض اليوميات التي أسجل فيها انطباعاتي عن الكتب التي أقرؤها أو عن الشخصيات المهمة التي تجمعني بها صدفة ما أو مواعيد سابقة. وحين أعود بين حين وآخر لأقرأ تلك الانطباعات أحزن أشد الحزن لأن جزءاً كبيراً منها ضاع عند عودتي المفاجئة من القاهرة إلى صنعاء، ولأنني لم أكن حريصاً بما فيه الكفاية على تدوين كل اليوميات ولو في سطور قليلة لذلك فقد انطوت بسبب ذلك التردد والكسل آلاف الأفكار ومئات المواقف التي أتذكر بعضها الآن من بعيد وأتمنى لو أنني تمكنت من تدوينها في حينه، لا لأهمية أسلوب التدوين وإنما لما تقوم به تلك اليوميات من تنشيط للذاكرة، ذاكرتي التي باتت تنسى كثيراً لاسيما ما يمر بها الآن من وقائع وأحداث. تشير اليوميات الباقية إلى عدد من الشخصيات الأدبية المرموقة ممن قابلتهم صدفة في الشارع أو الأتوبيس أو في المترو أو في مطعم أو فندق. وتحضرني الآن شخصية الأديب الكبير يحيى حقي الذي قابلته لأول مرة في المترو الذي كان يبدأ خط سيره من قرب ميدان التحرير إلى مصر الجديدة. وسبب حضور هذه الشخصية الآن صدور طبعة جديدة من كتابه الطريف والممتع «كناسة الدكان» الذي يتحدث في أجزاء منه عن عالم طفولته وما ارتبط بها من ذكريات تستأثر بالمشاعر. يحيى حقي شخصية لافتة للنظر مثيرة للإعجاب وعندما قابلته لأول مرة في أواخر الستينيات وكان ذلك في المترو- كما سبقت الإشارة- خانتني الشجاعة فلم أجرؤ على الحديث معه. لكن الجرأة واتتني بعد ذلك عندما ذهبت اليه في مقر عمله وهو رئيس تحرير مجلة «المجلة» وقدمت اليه دراسة متواضعة عن صديقي الشاعر الكبير عبدالله البردوني وهي الدراسة الأولى التي تنشر عن شاعرنا خارج اليمن.. في ذلك اللقاء تحدثت مع الأديب الكبير عن كتبه وعن رائعته العظيمة «قنديل أم هاشم» واستغربت أن يصرخ في وجهي «قنديل أم هاشم!!» ثم عرفت بعد ذلك أنه كان دائم الشكوى من جناية هذه الرواية القصيرة أو القصة الطويلة على بقية أعماله الإبداعية وهي كثيرة وفيها ما يفوق «قنديل أم هاشم» لغة وفناً، وما دونته في يومياتي عن ذلك اللقاء يبدو لي الآن وكأنه رسم بالريشة إذ يبدأ بالإشارة إلى قامته القصيرة، وطاقيته السوداء، وهندامه الأنيق، والعصا التي لا تفارقه، بالاضافة إلى صوته الناعم وابتسامته الخفيفة، ووجهه المترع بالطيبة والحنان، وكأنما لا يوجد تحت شمس مصر من يضارعه في تواضعه وبساطته سوى مبدع آخر هو محمود تيمور ذلك المبدع الذي كتبت عنه في اليوميات بأنه رجل صافي الوجه والسريرة وكأنه مخلوق من نور!. لقد تكررت لقاءتي بصاحب قنديل أم هاشم في نادي القصة وفي إحدى قاعات جامعة القاهرة وفي أماكن عديدة إلا أن أهم اللقاءات هي تلك التي كانت تتم في المترو صدفة وبلا موعد وقد لاحظت أنه وعدد من الأدباء الكبار يستخدمون وسائل المواصلات العامة لأنهم لا يجدون ثمن السيارة، وكم كان الواحد من هؤلاء يعتبر نفسه محظوظاً إذا وجد كرسياً فارغاً في وسائل المواصلات العامة أو وجد شخصاً قارئاً يتخلى له بطيب خاطر عن الكرسي الذي يحتله، وكانت صلتي الدائمة بكلية الآداب جامعة عين شمس تجعلني دائم التعامل مع المترو الذاهب إلى مصر الجديدة والعائد منها لذلك فقد كنت كثير اللقاء بالاستاذ يحيى حقي الذي توطدت صلتي به وأسعدني بأحاديث شتى عن حياته وعن بعض مؤلفاته لكنه لم يشر في أي لقاء من قريب أو بعيد إلى طفولته لذلك أسعدني هذا الجزء من كتابه (كناسة الدكان) لأنه يتناول بالتفصيل طفولته وما تخللها من إحساس لذيذ ومخيف في آن واحد على حد تعبيره وكيف يظل هذا العالم خفياً ومبهماً يتدخل في حياتنا ويخاطبنا صراحة أحياناً ورمزاً أحياناً، ويتوقف طويلاً عند ذلك المنعطف من عالم الطفولة وكأنه يبكي تلك المرحلة من حياته ومن حياتنا أيضاً: «إنها خسارة جسيمة، لأننا نهبط من الروعة والدهشة والاهتزاز النفسي إلى وجود رتيب وطمأنينة تافهة مقامة على مسلمات اصطلحنا عليها، قلما نناقشها، وإن بقي صوت ضئيل جداً يهمس لنا بخفوت أن لا ضمان بأنها عملية زائفة.. ولكنه صوت مزعج، إذ أننا درجنا على الاستراحة في حضنه بتأجيل الإجابة على الاسئلة إلى الغد، ونحن نعلم أن هذا الغد لن يأتي ابداً حتى إذا وصلنا إلى مرحلة الرجولة تتبعنا بشغف تحسس العلماء لهذا الواقع الخفي المجهول، ولكن هيهات لهذا التتبع أن يثير في قلوبنا ما كانت تحس به أيام الطفولة من الروعة والدهشة، الخبز الطازج أصبح بائتاً، وشتان بين الطعمين». إنها قصيدة بديعة في البكاء على زمن الطفولة، زمن البراءة والنقاء، زمن التأمل في الحياة والناس والأشياء بعين صافية بريئة لم تتلوث بعد بواقعية الحاجة وما يتتبعها من أوجاع وتأملات قاسية ومباشرة ومن خصومات مجانية على أشياء أو من أجل أشياء نكتشف أنه لا معنى لها ولا قيمة لها على الاطلاق وحسب «كناسة الدكان» إنها تثير فينا هذه الأحاسيس حتى بعد قراءتها بعقود.. وذلك شأن الأدب الخالد.