إذا كان المتشائمون قد بهرهم مجرد الاجماع على بيان مشترك، فإن المتفائلين لم يتوقعوا أن يتضمن البيان اتفاقا على أن المقاومة حق مشروع للشعوب كافة أكثر المتشائمين لم يكن يتوقع حضور هذا الكم من ممثلي الشعب العراقي في مؤتمر الوفاق الوطني العراقي بالقاهرة، وأكثر المتفائلين لم يكن يتخيل صدور مثل هذه التوصيات التي تضمنها البيان الختامي للمؤتمر. لهذا نستطيع ان نقول أن مؤتمر الوفاق الوطني العراقي فاق توقعات كل المتفائلين، وتجاوز هواجس كل المتشائمين. لقد كان مجرد عقده في مقر جامعة الدول العربية، وبحضور معظم القيادات الممثلة لفصائل الشعب العراقي يحمل دلالات مهمة لأنه يؤكد ويرسخ إيمان كل الفصائل العراقية بعروبة العراق، وهو هاجس كان ولايزال يمثل أهمية كبيرة ليس فقط للعراقيين، بل لجميع الشعوب العربية، التي تتخوف منذ احتلال العراق من أي محاولات لتقسيم العراق أو لطمس هويته العربية. بالإضافة إلى ذلك فقد كان هذا المؤتمر فرصة غير مسبوقة لاجتماع قوى عراقية تلتقي وجها لوجه، كما وفر لها فرصة التحدث بعمق ومناقشة القضايا الأساسية المطروحة على الساحة العراقية. فمنذ احتلال العراق لم يتسن لهذه القوى التي خرجت الى السطح لأول مرة منذ عقود طويلة، تعرضت فيها لأقصى أنواع العسف والتنكيل من نظام صدام البائد، لم تمارس هذه القوى السياسية أي نوع من الحوار المباشر وبشكل معلن، حول قضايا تتعلق بمصير العراق، ولم يتعد الأمر في حالات مشاورات ثنائية أو بين عدة أطراف حول السيادة على مناطق النفوذ التقليدية لهذه الفصائل، أو من أجل الحصول على مزيد من فرص التمثيل داخل الحكومة المؤقتة، أو على الكيانات السياسية الجديدة كأجهزة الحكم المحلي أو ماشابه ذلك. لكن الأهم ليس فقط بالنسبة لنا في العالم العربي، بل ولكل المتابعين في العالم هو تحقيق إجماع نادر بين الفصائل المتنازعة حول البيان الختامي للمؤتمر. لذلك لم يكن غريبا أن تقول صحيفة الفايننشيال تايمز في أول تعليق لها على المؤتمر :”إنه رغم عدم الاتفاق حول تفاصيل البيان، فانه كان من غير المسبوق اجتماع أعضاء من الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة والأكراد مع أنصار السنة في غرفة واحدة، ناهيك عن إصدار بيان مشترك”. وإذا كان المتشائمون قد بهرهم مجرد الاجماع على بيان مشترك رغم عدم الاتفاق على كل تفاصيله، فإن المتفائلين لم يتوقعوا أن يتضمن البيان اتفاقا على أن المقاومة حق مشروع للشعوب كافة، وإن لم يشر بشكل محدد إلى المقاومة العراقية.. وهو شيء لابد أنه لم يقابل بارتياح لدى صقور واشنطن، فهو لم ينف حق الشعب العراقي في مقاومة المحتل. ورغم أن البيان تضمن رفض الإرهاب، وهو شيء لا يختلف عليه اثنان داخل العراق أو خارجه إلا أن البيان بهذه الصورة لم يوصم كل المقاومين للاحتلال والرافضين له بصفة الارهاب والارهابيين، ولكنه حصر الأمر في من يرتكبون أعمال الإرهاب وأعمال العنف والقتل والخطف التي تستهدف المواطنين العراقيين والمؤسسات الإنسانية والمدنية والحكومية والثروة الوطنية ودور العبادة. لكن الجميع قد تلاقوا متفائلين ومتشائمين على أن أهم ما أسفر عنه المؤتمر هو تأكيد بيانه الختامي على أن الشعب العراقي يتطلع إلى اليوم الذي يتم فيه خروج القوات الأجنبية من العراق وبناء قواته المسلحة والأمنية ويحظى فيه بالأمن والاستقرار، والتخلص من الإرهاب الذي يطال العراقيين والبنية التحتية العراقية ويُدمر الثروات وأجهزة الدولة، والمطالبة بجدولة انسحاب القوات الأجنبية، وذلك بوضع برنامج وطني فوري لإعادة بناء القوات المسلحة تدريبا وإعدادا وتسليحا على أسس سليمة تُمكنها من حماية حدود الوطن ومن السيطرة على الوضع الأمني. لهذا أضم صوتي لصوت الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي قال إن المؤتمر نجح بنسبة تربو على 70% في تحقيق الأهداف التي كان يسعى إليها في التوفيق بين القوى السياسية العراقية المختلفة. رغم اعترافه بأنه ما زالت هناك خلافات بين هذه القوى، وقوله “إن المسألة ليست أبيض وأسود”، فهذا المؤتمر- على حد قوله - مجرد خطوة على طريق التوافق، لأن مهمة التوفيق بين القوى العراقية، لن تتم في أيام معدودة بل هي عملية بدأت بخطوة المؤتمر وسوف تستمر مادامت الأحزاب والقوى السياسية العراقية تريد ذلك. لقد رفض جميع العراقيين الذين حضروا هذا المؤتمر استمرار الاحتلال تحت أي اسم من المسميات، فنالوا ثقة الجميع واحترامهم، ورفضوا وصم كل الرافضين للاحتلال والمقاومين له بالإرهابيين، وفي المقابل أكدوا أنهم يتمسكون بعروبتهم ووحدة أراضيهم، وإيمانهم بأن الحوار هو الوسيلة الفاعلة لبناء العراق الجديد. وهذه كلها رسائل تلقاها كل المعنيين بالأمر بشكل واضح لا لبس فيه. فمنذ شهور طويلة يحاول المحتلون التأكيد على أنهم باقون من أجل حفظ الأمن في العراق وحماية المواطنين العراقيين الشرفاء من أخطار من يسمونهم بالإرهاببين، أو من المقاتلين الأجانب الذين جاءوا للعراق لزعزعة استقراره، أو لفرض أفكار تنظيم القاعدة، وهي تهمة أو إدعاء أشبه بالإدعاء الذي كانوا يرددونه حول امتلاك نظام صدام لأسلحة الدمار الشامل. والجميع أصبحوا يدركون أن كلا الادعاءين باطل، ومحض خيال أمريكي من أجل محاولة فرض الأمر الواقع، واستمرار الإحتلال لأطول فترة ممكنة. وهذا ليس كلامنا فقط في العالم العربي بل وكلام الذين يحولون كشف الحقائق وفضح الأكاذيب حتى داخل الولاياتالمتحدة، ولن نقول في هذا الصدد أكثر مما قالته صحيفة “واشنطن بوست” في الأسبوع الماضي عندما نقلت عن ضباط في لواء الخيالة المسلح أن اجتياح تلعفر قرب الحدود السورية أسفر عن قتل مائتي مسلح واعتقال ألف منهم، وقالت الصحيفة الأمريكية إنه لم يكن بينهم مقاتل أجنبي واحد. وإذا كان هذا هو الحال قرب الحدود السورية، فماذا عن داخل العمق العراقي؟ * كاتب ومحلل سياسي بحريني "الخليج"