لعل أخطر أنواع العنف هو العنف المجاني. إنه بلا سبب كافٍ لتحققه، وبدون هدف يستحق أخطاره. وقد تمارسه فرضيات مريضة نفسياً، أو محبطة بظروفها، أو يائسة من ذاتها ومن عالمها. لكن عندما تمارسه فئات إجتماعية أو أحزاب، وحتي شعوب أحياناً، فإنه يغدو تدميراً كارثياً، غايته في ذاته فقط. في العراق انفلات للعنف من قبل كل الأطراف. وقد يكون في بعض أشكاله أنواعاً من ردود الفعل علي العنف الأكبر الناجم عن الإحتلال. ويسمي في هذه الحالة مقاومة وتمرداً وثورة. لكنه في شريحة أكبر من أشكاله الأخري يصير العنف وسيلة لممارسة أحط غرائز السطو والعدوان والانتقام. يحتل العنف بذلك شبكية العلاقات المجتمعية. تنعدم أبسط شروط الشعور بالأمان الفردي الأسروي المذهبي، في البيت والشارع والحي والمدرسة والمكتب وفي كل مكان عام لالتقاء الناس ببعضها، ليس هناك من علاقة بين الذات والآخر، أيّ آخر حتي الأقرب أحياناً، إلا ويبطنها دبيب الخوف. الجميع يخاف الجميع. الناس مرشحون إما لنموذج القاتل أو لنموذج المقتول. في ظل الرعب المعمم لا يتبقي سوي العنف وحده سيدَ الأفعال والانفعالات كلها. إنه العنف اللاغي لأضعف مبرراته كما لأخطرها. لم يعد العنف العراقي مقتصراً علي بلده وشعبه. لكنه يرتفع إلي مستوي الرمز العالمي الذي يمكن أن تكون له تطبيقات متنوعة، ومتنقلة من بلد إلي آخر، ومن قارة إلي ثانية وثالثة حتي يعم العالم. ليس هو العنف العراقي بالذات هو الذي ينتشر، لكنه هو الذي يبني السقف الأعلي الذي يمكن أن يبلغه العنف المطلق، حتي يغدو كل عنف آخر، في هذا البلد أو ذاك، نسبياً ويكاد يصير مبرراً. فما ينبغي أن يوصف به مطلع القرن الواحد والعشرين ليس عصر الفوضي، بل عصر العنف. والفوضي تالية عليه، وتشكل أفضل وسائله كذلك. ولقد ادّعت إيديولوجيا الأمركة المفتتحة لمسيرة الأمبطرة، إدعت أبوة هذا القرن، سمته بالقرن الأمريكي، لكن ترجمته العملية خلال السنوات القليلة الماضية، لم تكن سوي نص العنف، والتناصّ عليه حسب الاصطلاح العلمي اللساني أي تداعياته ومشتقاته، أو الدوائر المنداحة حوله إلي أوسع الأقاليم جغرافياً وأبعدها استراتيجياً. في القرن الماضي الذي اعتبره المفكرون أنه قرن الإيديولوجيات الكيانية، كان العنف هو أداة مفضلة للأدلجة، للعقيدة التوتاليتارية، لكن الأمركة جعلت العنف هو عقيدتها. بمعني أن تصاعد العنف لم يعد بحاجة إلي أية تغطية منسوجة من غير خيوطه عينها. ولو استعنا قليلاً ببعض التحليل النفسي والفلسفي لقلنا إن الأمركة جسّدت تظهير كل العنف الذي تراكمه الحضارة في أقبيتها المظلمة والمتوارية وراء الكثير من لافتات الشعارات السلامية والخلاصية التي كانت طلائع التغيير (الإنسانوي) تخدع بها ذاتها وشعوبها معها، وتحشدها وراءها من حقبة نهضوية إلي أخري. وهذا القانون معمم في تاريخ الحضارة، ولكن حضارة الغرب وحدها كانت الرائدة العظمي في تصنيع ثقافة العنف واختراع أقنعته الخلابة، وتنويع مؤسساته في الفكر والفن والعلم والسلوك العام. هذا مع الإعتراف كذلك بأن حضارة الغرب هي الرائدة عصرياً في ابتكارات ثقافة الاعتراض والكشف والفضح ضد أو مقابل منجزاتها؛ بحيث يتم تحييد بعض إيجابياتها ومراكمتها نوعياً، ما يسمح بتشكيل ذخيرة للوعي النقدي، تغذي تغليب خطٍ للمتقدم النسبي نحو آفاق المدنية أكثر فأكثر. هذا هو امتياز الغرب الأوروبي في عين طلائعه الفكرية علي الأقل، وهو أيضاً ما يدعم تمييزه عن الغرب الآخر وراء الأطلسي، وخاصة في حقبة الأمركة الإمبراطورية الراهنة. ذلك أن الأمركة قد أمست هي إيديولوجيا العنف المطلق المحرر من كل أعبائه الأخلاقية والتمدينية المضافة علي حقيقته زوراً وبهتاناً. فصار في إمكان العنف أن يصول ويجول، سافراً عن وجهه القبيح، متبجحاً، بل مستقوياً بعرائه ذاك من كل قيد أو قيمة أو قناع، أو خشيةٍ من أي نقد واحتجاج، أهلي داخلي أو خارجي. بينما تتشبث الغربنة الأوروبية بفرادة نموذجها ذاك. لكنها دون أن تتحرر تماماً من تراث العنف وسطوته، فلا تمارسه بأداته المنادية المفضلة: الحرب، بل بتلك الحرب الأخري، الموصوفة بالرخوة أو الناعمة، التي قد تنحرف إلي درجة التحريض ضد الآخر التقليدي، العرب والإسلام. وتكون بذلك عوناً للأمركة؛ فتقدم لها فرائس جديدة، حطباً جاهزاً، لاستئناف جحيمها المعمّم عالمياً. إن إهانة (الآخر) بتحقير مقدساته، ليست نزوة فردية طارئة. إنها حلقة متكررة في مسلسل قديم قروسطي، كان اسمه صراع، أو حروب الإلغاء المتبادل بين الأمم وحضاراتها بأسلحة الديانات. ولم يغدُ التبشير بشرعة حقوق الإنسان كأعلي دستور ترتضيه جميع دول العالم لذاتها، ولعلاقاتها فيما بينها، إلا بعد أن استهلكت الحروب الكونية الكبري تجارب الإعدام الجماعي في مختلف أشكالها التدميرية وفظائعها الجنونية، فكان منتظراً أن يهل القرن الواحد والعشرون باستراتيجية عالمية جديدة تكون قادرة أساساً علي تقنين مبدأ القوة ولجم وحوشها الفالتة. لكن التوقعات المتفائلة بغلبة المدنية الإنسانية علي حضارات العنف الكلياني، القائمة علي فلسفات الإلغاء المتبادل، تحت أية تسميات قوموية أو أدلجية أو اقتصادية، لم تلبث أن اصطدمت بتلك الصدفة الخارقة، التي ينال فيها من هو في أدني درجات الضعف والظلم ممن هو في قمة الاقتدار والطغيان، والمتمكن منفرداً من احتكار مركزية التهديد الأعظم للكينونة البشرية. فقد جاءت حادثة الحادي عشر من سبتمبر برد الفعل الأول من نوعه، في تاريخ الطغيان المعاصر، مفعماً برمزية صارخة، كثيفة الدلالات صانعة لكل معاني الثورة المقموعة الشاملة بالنيابة عن مظلومي الأرض قاطبة، لكنها في الوقت عينه، شكلت المناسبة المستحيلة لانطلاق طاقة الظلم والطغيان حتي حدودها القصوي، متحررة هذه المرة من آخر تسويغ أخلاقوي، ما عدا حجة الثأر والانتقام ضد كل (آخر)، يتم تعيينه كعدو بحسب مزاج المعتدي نفسه. وهكذا تدخل إنسانية العصر مجدداً إلي حقبة حرب عالمية من نوع آخر، معممة ومخترقة للحدود، تحت يافطة اجتثاث الإرهاب، حتي لو تطلب الامر نسف أهم ثمار المدنية المشتقة من التوافق الدولي. علي أن الاختلاف بين الديانات ليس جريمة، لكن حرب الأمركة جرمت ديانة الإسلام، وضعت شعوبها وأوطانها دفعة واحدة في خانة الاتهام والإدانة الجماعية. فسوّغَت لجيوشها ومخابراتها وأغنيائها استباحة العالم العربي وحتي عمقه الإسلامي الآسيوي، سواء بالاحتلال العسكري المباشر أو السياسي والاقتصادي أو البوليسي، وبكل هذه العناوين جميعاً. وبذلك أمسي الحراك الاجتماعي مرتهناً بالنزاعات الدينية وأشباهها. فحيثما تتدخل الأمركة تستيقظ كل الوحوش الفئوية النائمة. ليس هذا فحسب. بل يكاد يمس العصر موبوءاً بكل أمراضه القديمة. والمفكرون يتحدثون عن عودة بربرية ما قبل التاريخ، كيما تكون هي نهايته كذلك. لم يتبق في الزمن الإنساني ثمة مستقبل للمستقبل. لقد بات الخيار الأخير أمام البشرية مشدوداً بين الفاشية أو العدمية. وكلاهما وجهان للخطيئة الأصلية، المتمثلة في قانون العودة الدائمة إلي خيار العنف المجاني كغاية في ذاته. تلك المجانية الشيطانية المتحدية للمعني، لإمكانية التأسيس في المختلف. أخطار أحوال العنف المجاني، عندما لا ينبثق من جهة مجهولة ما، ميتافيزيقية أو قدرية؛ بل حينما يصير تصميماً إرادوياً مخططاً له، وقراراً استراتيجياً لأكبر قوة دولية، عازمة علي حكم العالم كله، بوسيلة إحياء وحوش بدائيته المنصرمة افتراضياً، وإعادة تفعيل العلاقات الضدية ما بين فئات كل مجتمع، ملء شبكية الاجتماع الدولي دون تمييز بين المتقدمين أو المتأخرين في سياق تحصيل المبادئ المدنية. إن تجريم الديانات ومذاهبها لبعضها هو أسوأ تمرين كارثي وشيطاني تفتّقت عنه عبقرية الاحتلال الأمريكي العسكري للعراق، والسياسي للبنان. إنه يبطل ثقافة العقل أمام جموح الجماهير المستثارة فقط بغرائزها الأولية، محاولاً أن يلقي مسؤولية الفوضي والخراب علي عاتق منفذي السيناريو وضحاياه وليس علي مؤلفه ومخرجه. لكن الجمهور العربي مع ذلك لن ينجر إلي مجازر العنف المجاني بالسهولة التي يتصورها أساتذة الموت في البيت الأبيض والبنتاغون، بعد أن خسر هؤلاء حروبهم (الوقائية) من أفغانستان إلي العراق؛ واليوم يطمحون إلي التعويض عنها وجني أرباحها الوهمية بوسيلة اقتتال الضحايا فيما بينهم. أنظار العالم مشدودة إلي هذا المشرق العربي الذي قُدّر له أن يخوض معارك إفشال الأمبطرة المهيمنة وتمارينها الكارثية واحداً بعد الآخر، ومن قطر مشرقي إلي آخر، وذلك بالنيابة عن هذا العالم نفسه الذي وضعته الأمركة بين خيار الفاشية أو العدمية لكل مستقبله قبل أن يمسي بدون مستقبل هو عينه. * القدس العربي