مرّ العالم لتوه بالذكرى الثالثة للغزو الأميركي - البريطاني للعراق، ولا يزال القانون الدولي يهتز ويرتج من جراء الانتهاكات الصارخة والمخالفات الجسيمة التي قامت بها الولاياتالمتحدة وبريطانيا، ولا تزال تلك التجاوزات تتوالى من دون حسيب أو رقيب في أحسن تقدير أو بمباركة بقية الدول العظمى في أسوأ الاحوال. فالولاياتالمتحدة وبريطانيا حين شقتا عصا الأممالمتحدة في حربهما العدوانية ضد العراق وما تبع ذلك من زعزعة للأمن والسلم الدوليين، أسستا لعهد غير سعيد، ومنه ربما كُتبت بداية نهاية حقبة أمن عالمي لم تدم طويلاً، اذ تحول النظام العالمي من مرحلة «قوة القانون» إلى مرحلة «قانون القوة»، كما أشرنا في مقال سابق. واليوم حين يتذكر العالم بداية هذه المرحلة السيئة الذكر، هناك سؤال لا يزال يتردد بقوة في أذهان المحللين والقانونيين على حد سواء، وهو: لماذا لا يتحرك العالم العربي للمطالبة بإيقاف التجاوزات القانونية الدولية المتكررة من جانب القوات المحتلة في العراق؟ أما آن للصمت العربي حيال استهتار الولاياتالمتحدة بالقوانين الدولية أن ينتهي؟ فالتهمة الكاذبة التي أطلقها المسؤولون الأميركيون ومن تبعهم من الببغاوات البريطانية حول حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل - والتي كانت السبب المعلن لهذه الحرب المشؤومة- قد مرّت من دون أدنى تساؤل من المنظمات الدولية العالمية أو الإقليمية! وإذا كان ذلك الصمت تم في الماضي نتيجة خوف بعض الأنظمة من البطش الأميركي، فإنه يجب ألا يستمر اليوم في الوقت الذي نجد ناقدي السياسة الخارجية الأميركية أكثر من المدافعين عنها في كل مكان، بما في ذلك في الولاياتالمتحدة، بل في صفوف الحزب الجمهوري ذاته. فإدارة الرئيس بوش لم يبق لها اليوم أصدقاء كثر، لا في خارج الولاياتالمتحدة ولا في داخلها، اللهم سوى حفنة من أتباع المحافظين الجدد الذين دبّ الخلاف في صفوفهم أيضاً. وليس أدلّ الى ذلك من أن شعبية الرئيس ذاته هبطت إلى أدنى مستوياتها منذ توليه الرئاسة. وإذا كانت هذه حال الإدارة الأميركية في أرضها، فكيف يمكن أن تحظى تلك الإدارة بالاحترام من جانب بقية الدول؟ بل إنه لمن العقل اليوم أن ترفع الدول العربية صوتها عبر المنظمات الدولية كالأممالمتحدة والجامعة العربية للمطالبة بإقحام هذه المنظمات لما فيه مصلحة شعوب وحكومات المنطقة، ووضع حد للتصرفات الانفرادية التي تقوم بها الولاياتالمتحدة في العراق وغيره. وهو أمر إن لم تفعله الدول العربية اليوم فقد يكون الوقت متأخراً حين تريد أن تفعله. ولعل العالم يدفع اليوم ضريبة سكوته على تجاوزات الولاياتالمتحدة بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 في حربها ضد أفغانستان، إذ إن صمته يومئذ - بما في ذلك الدول العربية - على تلك الحرب وما صاحبها من انتهاكات قانونية دولية جعل الولاياتالمتحدة تتمادى في غيّها من دون أدنى مسؤولية. وأما الصمت العربي في ما يتعلق بحرب العراق فبدأ حين أطلق الرئيس الأميركي بوش تهديداً للرئيس العراقي السابق صدام حسين قبل إعلان الحرب بيومين حيث أمره باصطحاب ابنيه ومغادرة العراق خلال ثمان وأربعين ساعة. وهو تصرف لم يرافقه تفويض قانوني دولي، تبعه بعد ذلك عدوان مسلح شنته الولاياتالمتحدة وبريطانيا ضد دولة عضو في الأممالمتحدة من دون إذن من المنظمة الدولية المختصة. ولا شك أن الصمت العربي آنذاك أعان إدارة بوش على المضي قدماً في مواصلة الانتهاكات القانونية الدولية التي تلت ذلك الغزو. ومعلوم إنه وإن طال السكوت في الماضي على تجاوزات الولاياتالمتحدة في حربيها في العراق وأفغانستان، فإن الوقت لا يزال متاحاً للتعبير عن رفض الطريقة التي اتبعتها إدارة بوش بعد احتلال العراق. من ذلك مثلاً، الإفراط في استخدام القوة من جانب الولاياتالمتحدة ضد خصومها داخل العراق وقصف المناطق المدنية وإشاعة الانفلات الأمني وإثارة الفتنة الطائفية ومعاملة الأسرى. فالتدمير الذي طال الفلوجة وما نتج عنه من قتل للمدنيين وهدم للبيوت والمساجد واستخدام لليورانيوم المنضب -الذي أقرّت القوات الأميركية باستخدامه في الفلوجة رغم كونه محرماً دولياً -، وإلقاء القنابل العنقودية والانشطارية والقنابل التي تزن الواحدة منها عشرة أطنان والقنابل التي استخدمت للمرة الاولى في التاريخ ولا يعلم مدى تأثيرها وأضرارها وما تتضمنه من محتويات بيولوجية أو كيميائية أو غير ذلك مما لم يعلم أو لم يعلن عنه، وما شابهه اليوم من هجوم مماثل على سامراء، كل هذا يأتي مخالفاً لاتفاقات دولية وقعتها الولاياتالمتحدة والتزمتها منذ عقود طويلة، ومنها مثلاً «لائحة لاهاي» التي تحرم استعمال أسلحة أو مقذوفات تزيد بدون فائدة في آلام المصابين، و»تصريح بطرسبيرغ» القاضي بعدم استعمال قذائف قابلة للانفجار أو تحتوي على مواد ملتهبة، وكذلك «تصريح لاهاي» الذي يحرّم استعمال رصاص دمدم المتفجر الذي ينتشر بسهولة في جسم الإنسان، و»معاهدة واشنطن» التي تحرم استعمال قذائف تنبعث منها غازات خانقة أو ضارة بالصحة، و»تصريح جنيف» الذي يحرّم استعمال الوسائل البكتريولوجية الناقلة للأمراض، وغير ذلك الكثير من الاتفاقات الدولية. وفي ضوء تلك التعاهدات الدولية فإن الإثخان في القتل الذي طال الأبرياء في صفوف المدنيين من غير تمييز يعد مخالفة صريحة وخرقاً واضحاً لمعاهدة جنيف الرابعة 1949. المعاملة القاسية والمهينة التي تلقاها سجناء أبو غريب تعد الجريمة الأكثر فظاعةً في تاريخ انتهاكات حقوق الإنسان، وما لقيه أمثالهم في غوانتانامو وغيره مما لم يعلن عنه، وتدنيس القرآن الكريم – الذي أقر به مسؤولون أميركيون- يعد مخالفة واضحة وخرقاً صريحاً لمبادئ وأعراف القوانين الدولية. كذلك فإن رفض إدارة بوش إعطاء أسرى غوانتانامو حقوقهم القانونية الدولية المنصوص عليها في اتفاقية جنيف الثالثة لأسرى الحرب عام 1949 (المواد 4-20)، أمر غير مقبول، إذ إن هؤلاء ينطبق عليهم ما ينطبق على أسرى الحرب كما أبانت ذلك المادة (13) من اتفاقية جنيف المذكورة. وإذا كان «التهذيب العربي» مع السيد الأميركي حال دون انتقاد هذه التجاوزات حين غض الطرف عنها، فإن استمرار هذا الصمت حول الانتهاكات الصارخة التي قامت و لا تزال تقوم بها الإدارة الأميركية أمر يعد السكوت عنه كفراً بالقانون الدولي. بل إن رفع الصوت بالاعتراض في مثل هذه الحالات يعطي نوعاً من الاحترام للنفس عند الخصم. ولأي دولة أن تعترض بطريقتها الخاصة وحسب طاقتها. فالاعتراض قد يكون كلامياً أو فعلياً. فأما الاعتراض الكلامي فأدناه أن يشمل إصدار بيان ينم عن أسف دولة ما لإجراء اتخذته الولاياتالمتحدة مثلاً ودعوتها إياها لتعديل نهجها حيال ذلك الأمر، أو قد يكون التعبير أشد قليلاً بإصدار بيان يعبر عن استياء دولة ما مما فعلته واشنطن حيال أمر من الأمور ورفضها إياه وخوفها من نتائج ذلك الإجراء على المنطقة برمتها. أو قد يكون في صيغة شجب واستنكار معلنة، وهو أشد أنواع التعبير الكلامي عن عدم الرضا. وأما الاعتراض الفعلي فقد يكون باستدعاء دولة ما سفيرها في واشنطن للتشاور وهو تعبير ديبلوماسي عن عدم الرضا، أو -كدرجة ثانية- يكون باستدعاء السفير الأميركي إلى وزارة خارجية الدولة المضيفة لشرح أسباب قيام حكومته بهذا العمل أو ذاك. وأعلى درجات الاعتراض تكون بطرد السفير أو بقطع العلاقات الديبلوماسية والتجارية وهو أمر غير متوقع من أي دولة عربية أو إسلامية. وأياً كانت طريقة الاعتراض فإن المقصود هو كسر هذا الحاجز، إذ إن ما قامت به الولاياتالمتحدة من انتهاكات للقوانين الدولية في المنطقة يستحق كل أنواع الرفض المذكورة أعلاه، وإن جمود الدول العربية وعدم جرأتها على أدنى درجات الاعتراض أمر مخجل للغاية. والتساؤلات التي نطرحها اليوم ونحن نقف أمام الذكرى الثالثة لهذا الغزو المشين هي: لماذا يستمر هذا الصمت؟ لماذا لا تتحرك الجامعة العربية بجرأة ضد المخالفات الأميركية والبريطانية وتشجبها من على منبر الجامعة؟ لماذا لا تطلب الدول العربية من مجلس الأمن إدانة الأعمال غير الشرعية (مجرد طلب)؟ لماذا لا يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة اتخاذ موقف «أمين» في قضايانا؟ بل لماذا يزداد الرضوخ للمطالب الأميركية يوماً بعد يوم؟ لماذا لا تجرؤ دول الجوار – كما تسمى - على رفع صوتها ضد الاتهامات التي تطلقها إدارة بوش في دعمها للمقاومة العراقية بسبب عدم ضبط حدودها معها، وتطلب هذه الدول من القوات الأميركية أن تضبط هي حدود العراق من الداخل؟ لماذا لا يطلب العرب رسمياً من الولاياتالمتحدة والدول الأوربية التي كثيراً ما وعظتهم باتباع نهج الديموقراطية احترام نتائجها في فلسطين؟ هل بُحَّ الصوت العربي فلم يعد قادراً على التحدث؟ أم هل خانت البلاغة العربية أهلها فلم يعودوا قادرين على إعداد الخطب البليغة التي تصدع بها جدران الأممالمتحدة؟ إن الأمر الذي يجب أن يكون واضحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى هو أنه إذا لم تقف الحكومات العربية مجتمعة أو متفرقة في وجه الاستهتار الأميركي بالقوانين الدولية، فإنه ربما كسرت أضلاع دول عربية أخرى قبل يُكسر هذا الصمت!. الحياه