نادرون جداً هم الرؤساء في الأنظمة الجمهورية العربية الذين اختاروا العزوف عن الحكم نزولاً عند مبدأ التداول السلمي للسلطة, باستثناء لبنان الذي يفرض دستوره ولاية من ست سنوات قد يصار إلى تمديدها, حسب الأحوال إلى نصف هذه الفترة, إذا وافقت الغالبية في المجلس النيابي وبلاد الأرز على هذه المستوى, حالة فريدة خصوصاً إن الأنظمة الجمهورية في العالم العربي باتت شبيهة بالأنظمة الملكية والفوارق الدستورية بينها شكلية ما دامت النتيجة العملية واحدة تقريباً وسجل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967م, السابقة العربية الأولى في الإعلان عن تخليه عن الحكم متحملاً مسؤولية الوضع الذي آلت إليه جبهات الحرب من خسارة لنصف سيناء والقدس والجولان لكن الشارع المصري رفض استقالته التي عاد عنها وواصل حكمه حتى العام 1970م يوم صعقته أزمة قلبية فخلفه نائبه الرئيس السادات الذي أرداه رصاص الإسلاميين بحادثة المنصة في 6 أكتوبر- تشرين الأول 1981م ولم تسجل منذ ذلك التاريخ أية سابقة عربية في العزوف عن الحكم, وساد خط الرئاسة مدى الحياة خلافاً لما يحدث في دول العام مثلاً, وحتى في دول إسلامية مثل باكستان وهندوسية مثل الهند وهي اكبر وأعرق ديمقراطية في آسيا والعالم الثالث بشكل خاص وكان رؤساء أميركيون يضطرون اضطراراً إلى التخلي عن كرسي المكتب البيضاوي تحت وقع حدث خارجي أو ممارسة مخالفة للدستور كما حدث مع الرئيس نيكسون الذي أجبرته فضيحة ووترغيت على الترجل عن " صهوة الحصان" في آب (أغسطس) 1974م ،وحده الجنرال ديفول أغلق بوابات الإليزية بعصبية وحزن عام 1969م بعد فشل الاستفتاء الذي طرحه من أجل إصلاح مجلس الشيوخ وعاد إلى قريته كولومباي لي دوزوغليز (colombey – Les – Deux – Eglises). في مقاطعة الألزاس, ليموت بعد عام واحد (1970م) بطلاً لملحمة تحرير فرنسا روض التاريخ لكن السياسة بعد ثورة شباب 1968م دفعته إلى الحائط. والرئيس اليمني علي عبد الله صالح نموذج فريد بين رؤساء الجمهوريات العرب فريد لحظة تسلمه الحكم في حزيران – يوليو 1978م بعد مقتل الرئيس أحمد الغشمي بانفجار رسالة ملغومة كان قد حملها إليه مبعوث من رئيس الشطر اليمني الجنوبي آنذاك سالم ربيع علي فوضع الرئيس صالح حداً ﻟﭭالس الموت ورسخ الاستقرار وأرسى الأسس الموضوعية لحاله من التماسك الوطني الذي يتجاوز الحساسيات القبلية وفريد أيضاً عندما أنهى التشطير بين الشمال والجنوب عام 1994م فأعاد إلى اليمن وحدته الجغرافية من الحديدة إلى عدن ومن صعدة إلى المكلا العاصمة الإقليمية لحضرموت وفريد أيضاً وأيضاً بإنجازه رسم خط الحدود وبشكل نهائي مع سلطنة عمان أولاً ومن ثم مع المملكة العربية السعودية وقد حدث ذلك قبل أسبوعين وبعد مضي ستة أعوام على إعلان اتفاق جدة (12 حزيران – يونيو 2000م) فوقعت الخرائط النهائية لمعاهدة الحدود الدولية في ختام اجتماعات الدورة السابعة عشرة لمجلس التنسيق اليمني - السعودي واختيرت شركة ألمانية لتثبيت الشارات على امتداد تخوم يبلغ طولها 1800 كيلومتر والإنجاز تاريخي بين البلدين الجارين لأنه أنهى إشكالات عالقة منذ إعلان معاهدة جدة الأولى التي وقعها الإمام أحمد والملك سعود عام 1956م وطوى إلى الأبد صفحة من سوء التفاهم عقب الانقلاب العسكري في اليمن ضد حكم الأئمة بقيادة العقيد عبد الله السلال وتشجيع من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (26 – 9 – 1962م) وساد الوضع اليمني بعد ذلك مسلسل انقلابات انتهت إلى سقوط الرئيسين الحمدي والغشمي ووسط الإنهاك العام أطل الرئيس علي عبد الله صالح كخشبة إنقاذ وصمام أمان فوطد حكمه في صنعاء وأنهى التشطير مع الجنوب بعد حروب الرفاق في عدن معتنقي شعار المطرقة والمنجل اللذين ارتدا عليهم. وهل ننسى استعادة جزر حنيش من أرتيريا وقد كسبت صنعاء الدعوى في محكمة لاهاي والمعركة الكبرى التي يخوضها كل يوم ضد الفقر والفساد و70 مليون قطعة سلاح في أيدي اليمنيين المأخوذين بمعادلة " السلاح زينة الرجال" وإعادة بناء القوات المسلحة على أسس العلم وامتلاك التقنيات وهيكلة وتفعيل أجهزة الأمن والقضاء على التمرد الحوثي في جبال صعدة وحرب استئصال الإرهاب القاعدي؟ قد يخسر اليمن كثيراً لو أن الرئيس صالح أصر على عزوفه عن الترشح في انتخابات 23 أيلول – سبتمبر المقبلة ففي شخصيته القيادية الكثير من ملامح بيسمارك باني الهوية الجرمانية وفي أدائه السياسي المشدود إلى الإصلاح والتطور ورقي المجتمع اليمني سمات وعلامات من حكمه وحنكة قادة كبار في الشرق والغرب نجحوا في الرسو بأوطانهم عند شواطئ الأمان والأمن والوئام والمصلحة الوطنية العليا كما أن لإحساسه الإنساني وسمو مشاعره دوراً في لم الشمل اليمني.. ألم يصدر قرار العفو عن بعض المغامرين الذين حملوا السلاح ضد وحدة الأرض اليمنية وخرجوا على أصول اللعبة .؟ لاشك أن الحكم في اليمن نهج طويل من العذاب والجهد والمعاناة. وهو مغاير لأي حكم آخر في العالم حتى داخل الحوض العربي فثمة نسيج ديمغرافي واجتماعي معقد . وهناك أيضاً الديمقراطية التي تغري بتنمية الخصوصيات ولاسيما في المجتمعات الناشئة التي لم تأخذ بها من قبل. يضاف إلى هذه اللوحة المعقدة والمتشابكة وجود معارضة اشتراكية ووطنية وإسلامية وجاذبيات قبلية ومؤشرات اقتصادية كئيبة في بعض المناطق وهذه كلها ترتب تحديات كالجبال على الرئيس ومعاونيه كما على حزب " المؤتمر الشعبي " الذي يتزعمه". لقد كنا في " الحوادث " من أوائل الذين دعوا الرئيس اليمني إلى العودة عن قراره بالعزوف عن الحكم والامتناع عن الترشح لولاية سباعية جديدة وانطلقنا من الموقف على أساس معرفتنا به وبدوره وصوابية خياراته السياسية والاقتصادية والتربوية والتنموية والأمنية.. كما بمصداقيته العربية والدولية.واليمن في حاجة إليه لكي يواصل رحلة عناق الحداثة والرقي . فيعود سعيدا ً كما كان ، بموقعه الجيوسياسي الحيوي وحراسته لباب المندب واحتضانه لجزيرة سقطرى وميناء عدن الموعود بنهضة بنيوية شاملة قد تجعل منه رئة تجارية وأعمال ومبادلات على طريق النفط والترانزيت الدولية . وثمة عديدون اعتقدوا في أول الأمر ، أن صالح يناور عندما أعلن عن قراره إطلاق ديناميات التداول على السلطة وانطلقوا من ان اية سابقة عربية لم تحدث من قبل ، حتى أن النظم الجمهورية تتحول وراثية لكن الرئيس صالح كان جديا ً وحاسما . ولم تثنه عن عزوفه سوي تظاهرات اليمنيين الذين يرون فيه الأب الشقيق والرفيق ويعولون على خبرته وحنكته وصلابة عوده من اجل الارتقاء ببلدهم إلى مصاف الدول الحديثة التي لا تفصم العرى مع جذورها وخصوصياتها . بل أن الثوابت العميقة فيها تنسج تحولاتها ، ودائما ً نحو الأعلى والأفضل . نعم أن قلوب اليمنيين التي كانت واجفة ، دخلت في مدار الطمأنينة بعد قبول الرئيس بالترشح لولاية ثالثة والفوز الكاسح في متناول يده ولا فرصة لأي منافس في السباق تبقى رمزية الإعلان عن عدم الترشح ومضامينه ودلالاته السياسية فالرئيس علي عبد الله صالح أراد أن يسجل لنفسه ولشعبه إنجازاً تاريخياً يتمثل بمبدأ التداول السلمي للسلطة كما انه ابتغي لفت الانتباه إلى حجم المصاعب الاقتصادية والاحتقانات السياسية التي ترخى بظلالها على الوضع العام منذ سنوات . وأكد في الوقت نفسه على ثقته بالمنجزات الحاصلة مثل تكبير الهامش الديمقراطي وترسيخ السياق المؤسسي وتعزيز حرية الصحافة وإنعاش الحياة السياسية وتحديداً آليات محاربة الفساد وهذا الرصد يضاف إلى " ذخيرة " أخرى تمثلت بتحقيق الوحدة واكتشاف النفط وترشيح الاستقرار الوطني والتوجه نحو الدولة الحديثة . لا يسعنا إلا أن نستبق موعد الاستحقاق الانتخابي في نهاية أيلول – سبتمبر المقبل ونقدم التهاني للرئيس مؤسس الدولة اليمنية الحديثة ، الذي أعادها إلى الخريطة الإقليمية والدولية كموقع قوة وصاحبة مصداقية وجسر تفاهم حضاري.