يبرر دعاة الدولة الإسلامية رفضهم للدولة المدنية بالقول أن الحكم في الدولة المدنية للشعب، بينما الحكم في الدولة الإسلامية هو لله سبحانه وتعالى، وهذا صحيح، لكن الله سبحانه وتعالى لا ينزل من عليائه ليحكم في الأرض بنفسه، وإنما استخلف الإنسان في الأرض، وبالتالي فإن الله يحكم عن طريقنا نحن البشر، ونحن كبشر تختلف تفسيراتنا للشريعة الإسلامية وتفسيراتنا لها، فالشيخ عبد المجيد الزنداني على سبيل المثال كان أحد أعضاء لجنة صياغة دستور الجمهورية العربية اليمنية الدائم لعام 1970، والذي ظل معمول به حتى قيام الوحدة، وقد ثبت المادة الخامسة من الدستور التي تنص على أن الحزبية بكافة أشكالها محظورة، وكان يبرر ذلك أن الشريعة الإسلامية تحرم العمل الحزبي، وفي عام 1990 كان واحداً من أبرز مؤسسي التجمع اليمني للإصلاح، فهل تغيرت الشريعة الإسلامية؟ أم تغير فهم الشيخ الزنداني لها؟، طبعاً الذي تغير هو فهم الشيخ الزنداني وتفسيره للشريعة الإسلامية، وهذا يشبه تغير موقف الشيخ محمد الصادق مغلس الذي شارك في انتخابات 1993 البرلمانية، وأصبح عضواً في مجلس النواب، ثم بعد ذلك اعتبر ان الانتخابات ألية من آليات النظم السياسية للدول الكافرة. كان المنادون بالدولة الإسلامية في الستينات من القرن العشرين يرفضون حكم المشير عبد الله السلال باعتباره حكماً فردياً، ويطالبون بحكم مجلس رئاسي، وبعد انقلاب 5 نوفمبر 1967 تم تشكيل مجلس جمهوري رأسه القاضي عبد الرحمن الإرياني، وبعد الوحدة انتقدوا مجلس الرئاسة الأول، لأن المجالس الرئاسية هي من التقاليد الشيوعية، وفي أواخر عام 1993 قبل الشيخ الزنداني أن يكون عضواً في مجلس الرئاسة الثاني، ثم عدل الدستور عام 1994 ليستبدل المواد التي كانت تنص على مجلس رئاسة بنصوص تنص على رئيس جمهورية، وبرر ذلك بأن المجالس الرئاسية من التقاليد الاشتراكية، وبشكل عام فبعد مرور ما يزيد على 1400 سنة من التاريخ الإسلامي، بات هناك فرق ومذاهب إسلامية عديدة، لا تتفق كلها حول كثير من القضايا، ولها تفسيرات مختلفة لكثير من الإحكام، وأذكر في حال اليمن بقضية الموقف من الانتخابات، ففيما أجازها العلماء المنضوون في التجمع اليمني للإصلاح، فإن الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله كان يعتبرها محرمة وكفر بواح، لأنها حسب قوله تساوي بين العالم والمغنية، بل أن الشيخ محمد الصادق مغلس، أختلف مع نفسه حول الانتخابات، فقد كان يرى أن الانتخابات لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، فترشح في الانتخابات البرلمانية الأولى عام 1993، وفاز كمرشح مستقل في الدائرة ( 18 )، ثم ترشح مستقلاً أيضاً في نفس الدائرة عام ( 1997 )، ولم يفز، ثم غير رأيه بعد ذلك في الانتخابات وتبنى موقفاً متطابقاً مع رأي الشيخ مقبل الوادعي، حيث قال: "إن الانتخابات الديمقراطية فيها مساواة غير شرعية ، فعند الترشيحات مثلاً يتساوَى المسلم وغير المسلم كمرشحين ما دام كل منهما مواطنا ً، وكذا العالم والجاهل ، والرجل والمرأة والصالح والطالح ، وكذلك يتساوَى كل أصناف هؤلاء كناخبين عند انتخاب المرشحين ، ثم يتساوَى أيضاً كل أصناف هؤلاء من المرشحين الناجحين في المجلس النيابي عند التصويت في قاعة المجلس ، فصوت العالم المجتهد مثل صوت شبه الأمي ، بل مثل صوت العلماني". مثال أخر على اختلاف تفسير العلماء للشريعة الإسلامية يتمثل في الخلاف حول الولاية العامة للمرأة، الذي نشب بين علماء التجمع اليمني للإصلاح في المؤتمر العام الرابع، حيث وقف الشيخ عبد المجيد الزنداني وعدد من العلماء والمشايخ الأجلاء موقفاٌ معارضاً، فيما وقف علماء آخرين موقفاً مؤيداُ، وقد انتصر هؤلاء الآخرين عن طريق آلية مدنية هي الاقتراع والتصويت. كان الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية كلاهما يحملان القرآن ويستشهدان به، لذلك قال الإمام علي لعبد الله بن عباس عندما بعثه للاحتجاج على الخوارج: " لا تخاصمهم بالقرآن فان القرآن حمال أوجه"، وفي تاريخنا المعاصر تجسد هذا التباين في تفسير النص القرآني وتوظيفه في صياغة الحكام العرب للسياسات العامة الداخلية والخارجية لدولهم، فقد صاغ الزعيم العربي جمال عبد الناصر سياساته تجاه العدو الإسرائيلي مستهدياً قول الحق سبحانه وتعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، ولما جاء ( الرئيس المؤمن ) أنور السادات، صاغ سياساته تجاه إسرائيل مستهدياً بالآية الكريمة " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها". لذلك كله فإن الحل هو في دولة مدنية تعاقدية. والتي إن تمعن علمائنا الأجلاء في طبيعتها وخصائصها ووظائفها سوف يجدون أنها لا تتعارض مع التوجهات العامة للشريعة الإسلامية، ولكن قدرنا نحن اليمنيون بمختلف توجهاتنا أن ننتقد الأفكار والتوجهات دون أن نقرأها، وأن نعتمد أحياناً الثقافة الشفهية في حكمنا على القضايا والمواقف، فنسمع من فلان في جلسة أو مقيل، ثم نتبنى رأيه دون تمحيص، فقد تسرع بعض اليساريين أحياناً وتجنوا على الاشتراكية باسم الاشتراكية، وتجنى المسلمون على الإسلام باسم الإسلام، فانتقدوا العلمانية والاشتراكية دون قراءتها ومعرفتها معرفة دقيقة، وتطرف بعضهم وتبنوا أساليب إرهابية في التعامل مع الأخر الحضاري، فأضروا بالإسلام والمسلمين أكثر مما أضروا بالأخر.