بعد الاطماع الاستعمارية البرتغالية في السواحل اليمنية جاءت الأطماع الاستعمارية الأخرى , بدءاً من الاطماع الهولندية والالمانية وصولاً الى الاطماع الاستعمارية البريطانية والفرنسية .. كل جهة كانت ترى نفسها وصية على هذه السواحل وفي كل نظام عالمي اتسم بكثير من التوحش والرغبة في الآخر , وعدم تشكل نظام عالمي يحتكم الى المبادئ .. كانت الحركة الاستعمارية هي السائدة وكان ينظر اليها كنوع من الاعمال المشروعة , وعلينا وعلى سواحلنا وعلى مقدراتنا تنافس الأوروبيون بعد الانهيار الذي لحق بدول اسلامية عديدة في المنطقة .. وبادر الهولنديون لدخول غمار المنافسة الاستعمارية , ولاسيما بعد ان تضاءل النفوذ البرتغالي وانحسار قوته.. وحسب مصادر تاريخية فإن الهولنديين اختاروا البحار الشرقية عند المدخل الجنوبي للبحر الاحمر , وبداية من القرن السابع عشر اتجه الهولنديون وعبر البوابة التجارية للنفوذ الى المنطقة , فقد أسس الهولنديون شركة الهند الشرقية الهولندية للمقاولات سنة 1602م , وكانت بمثابة حكومة مستقلة في آسيا .. وهذا ما دفعها في العام 1614م بأرسال اسطولٍ إلى البحر الأحمر وخليج عدن للبحث عن أسواق تجارية وفي ذات الوقت جمع معلومات استخبارية عن الموانئ في البحر الاحمر .. وعند وصول قائد الاسطول الهولندي "فان دن بروكة" إلى عدن اخبره بان الباب العالي في الاستانة اعطاه تصريحاً بمزاولة التجارة مع اسواق الموانئ الشرقية واليمنية .. ولكن حاكم عدن حينها أمره بالمغادرة, وافشل الأمر وغادر عدن متجهاً إلى ميناء الشحر في حضرموت وانشئ هناك وكالة تجارية هولندية , وكذلك امتد بحركته الى ميناء المخا .. وتحرك بعدها الى صنعاء وكان الوالي العثماني في صنعاء قد صد الهولنديين وعندما لم يجد الهولنديون ترحيباً كثيراً بهم في اليمن عادوا أدراجهم دون أن يحققوا طموحهم التجاري, فاتجهوا إلى رأس الرجاء الصالح وانشأوا لهم هناك قاعدة تمون سفنهم المبحرة عبر رأس الرجاء الصالح .. ومجاراه للحركة الاستعمارية الاوروبية كان الفرنسيون أكثر تحركاً واكثر جرأة , بل واكثر عنفاً في تواصلهم مع العرب , ومدفوعين بالمنافسة مع البريطانيين وركزوا على سواحل البحر الأحمر , وبدأو تأكيد تواجدهم بإنشاء شركة "ارشيلو" الذي أصبح مشرفاً على التجارة البحرية في العام 1627م , وفي ذات العام حصلوا على موافقة ملكية فرنسية مدتها عشرة اعوام لتقييم الشركة مستعمرات في الشرق .. والتنافس بين البريطانيين والفرنسيين حول السواحل اليمنية قد تجلى بصورة ملفتة في القرن الثامن عشر , وطمعاً في فرض السيطرة على طرق المواصلات , كما يؤكد ذلك الدكتور خالد باوزير .. لذلك كانت تحركات الفرنسيين تقابل برد فعل بريطاني على الحث على العودة الى الطريق التجاري القديم في البحر الأحمر , لذلك الفرنسيون تحركوا لتنشيط التجارة مع مصر وطريق البحر الأحمر, فاتفقوا في العام 1785م مع سلطان الدولة العثمانية على شروط من تلك ضبطتها اتفاقية العثمانيين مع الانجليز في البحار الشرقية.. وقد بدأ النشاط العسكري الفرنسي عندما شرعت الحكومة الفرنسية بمساعدة قنصلها في القاهرة في التخطيط لغزو مصر , وكان ذلك تمهيداً لحملة نابليون بونابرت على مصر في العام 1698م .. وهكذا كان المستعمرون الاوربيون العنوان الابرز الذي يتخفون خلفه هو "التجارة " وتبادل المنافع فيما هي في الباطن ترتيبات لإقامة مستعمرات دمرت العلاقات التجارية التي كانت قائمة , وإزاحة النفوذ العربي والإسلامي .. ومن مكاتب تجارية تحولت الى ثكنات عسكرية وقوات فرضت الاستعمار على المنطقة بقوة السلاح .. وهذه نقط نماذج .. لم تصل الى العمق , لأننا كما أسلفنا نحتاج من الباحثين المزيد من الاطلاع على الوثائق الاجنبية التي سوف تكشف الكثير وسوف تزيح جبال التجاهل والتغاضي عن تاريخنا عن تاريخ الصراع والرغبة الاوروبية المحمومة في الهيمنة وفي فرض السيطرة الاستعمارية الاوروبية في المنطقة .. واذا ما عدنا الى قراءة كتاب الدكتور سيد مصطفى سالم خلال تلك الفترة فإننا نجده يتحدث عن ملامح التنافس الاستعماري داخل حوض البحر الأحمر في القرن التاسع عشر حيث يشير الى ان هذا هو الاطار العام الذي احاط بالبحر الاحمر ثوابته , فقد خضع البحر الاحمر لسيطرة العثمانيين , وفقد أهميته لسيطرة القوى البحرية الأوروبية على مصادر ومراكز التجارة الشرقية واستئثارها لنفسها . وسارت أحداث البحر الأحمر في عدة نقاط : أولاً : ضعف اقتصاد حوض البحر الاحمر خلال القرن التاسع عشر الى حد كبير بعد أن تحول الى بحيرة محمية وتقلصت التجارة والحركة فيه ولم تعد إلا بين موانئه فقط لنقل منتجات حوضه المحدودة وكان هذا المصير نتيجة أعمال التخريب التي أصابت أدواته من سفن وموانئ على يد البرتغاليين ثم سيطرة هؤلاء مع باقي القوى البحرية على مصادر تجارة الشرق وما صاحب ذلك من عنف وقرصنة بحرية فيما بينهم أدى أضعاف النشاط التجاري في شواطئ البحر الأحمر . ثانياً : المحاولات اليائسة لإعادة النشاط التجاري إلى البحر الأحمر منذ أواخر القرن السادس عشر باءت بالفشل نظراً للسيطرة الاوروبية على تجارة الشرق واختيارهم راس الرجاء الصالح ممراً بحرياً لتجارتهم . ثالثاً : الجهود العثمانية في البحر الاحمر خلت من الجانب التجاري واعتمدت على الجانب العسكري مما جعل العثمانيين عبئاً على دول البحر الاحمر وهم كانوا قد جاءوا لمطاردة البرتغاليين في البحر الأحمر .. رابعاً : ظل البحر الأحمر موضع اهتمام الدول الاوروبية نظراً لطول المسافة عبر طريق راس الرجاء الصالح خاصة بعد ان تمرد علي بك الكبير على الدولة العثمانية وسمح لفرنساوبريطانيا بأن تصل سفنها إلى السويس بعد أن كانت جدة هي آخر محطات السفن الاوربية في البحر الأحمر . واذا كان القرن السادس عشر بداية الانقلاب التجاري , فأن القرن التاسع عشر كان بداية الانقلاب الصناعي وكما كان الانقلاب الاول بداية تغييرات اقتصادية وسياسية في حوض البحر الاحمر , فان الانقلاب الثاني كان أشد تغييراً وأعمق أثراً ليس في مصير البحر الاحمر فقط بل وفي مصير العالم كله وخاصة بعد أن تسارعت خطوات الانقلاب الصناعي منذ بداية القرن العشرين فقد تحول حوض البحر الاحمر من بحيرة محمية إلى البحيرة المستعمرة بعد أن سقطت أجزاء كثيرة من تحت سيطرة دول اوروبية .. واصبح البحر الاحمر في خدمة الدول الاستعمارية.. وجاء مشروع شق قناة السويس في العام 1854م وافتتاحها في العام 1889م ليحدث هزة كبرى في كيان البحر الاحمر وقاد ذلك الى احتلال بريطانيا لمصر عام 1882م واستمرت في ضم المحميات حول عدن .. فيما احتلت فرنسا ميناء أوبخ . " أو يوك" عام 1884م لتقيم بعد ذلك مستعمرتها في جيبوتي, وسارعت ايطاليا إلى احتلال ميناء عصب عام 1869م ومن هناك بنت مستعمراتها في ارتيريا وفي العام 1895م , وانطلقت بريطانيا من عدن لتحتل زيلع وبربرة الصوماليتين في عام 1884م واتجهت السلطة العثمانية إلى السيطرة على صنعاء عام 1872م . يتبع في العدد القادم .