المحور الرابع: التنسيق المصري اليمني لحماية الأمن القومي العربي ومواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر من 1970- 1973م إن حرب اليمن التي انتهت عمليًا ببدء الاستعداد لحرب 1967م، قد خلفت مرارات قاسية فما كاد الجيش المصري يخرج من عمليات اليمن بعد سنوات طويلة من الإنهاك والاستنزاف، حتى سقط في مصيدة حرب 1967م، التي تكالبت فيها الدول الأوروبية وأمريكا وإسرائيل من أجل القضاء على المدّ القومي العربي الواسع، الذي قادته مصر الثورة العربية، غير أن الفترة التي أعقبت هزيمة 1967م قد مهَّدت الطريق من جديد، لكي يفتح العرب أعينهم على المخاطر الأجنبية التي تحيط بهم، وجعلتهم يدركون أهمية البحر الأحمر باعتباره عمقا إستراتيجيا في حربهم ضد إسرائيل، وخاصة عندما تزايد ارتياب العرب من مخططات الإستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى حرمانهم من السيطرة على البحر الأحمر. فمنذ بداية العام 1970م أدرك العرب خطر النشاطات الإسرائيلية في البحر الأحمر، وازدادت مخاوفهم عندما وردت إلى مسامعهم أخبار التحركات الإسرائيلية على الشاطئ الإرتيري القريب من باب المندب، حيث كانت الإستراتيجية الإسرائيلية منذ بداية السبعينات وخصوصًا منذ حادثة ناقلة النفط (كورال سي) 1971م قد عملت على توسيع وجودها ونشاطها العسكري في جزر البحر الأحمر، وكانت خلفيات هذا الهجوم على الناقلة الإسرائيلية قد جاء ردًا على الوجود الإسرائيلي في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر. وبعد أن لمست جمهورية مصر العربية نجاح عملية الهجوم على الناقلة الإسرائيلية (كورال سي) بدأت بالاتجاه جنوبًا لتضييق الخناق على الإستراتيجية الإسرائيلية، وذلك عندما أحس قادة الفكر العسكري المصري أنهم أهملوا البحر الأحمر طويلًا رغم ما يتمتعون فيه من مميزات إستراتيجية لا تتوافر لدى العدو الإسرائيلي وتتمثل في الآتي: - أن مصر لها سواحل طويلة على البحر الأحمر، يوجد بها العديد من الموانئ والقواعد البحرية ويسهل العمل منها بعكس إسرائيل. - إدراك قادة الفكر العسكري المصري أن الساحل اليمني هو الساحل المواجه شرقًا على الأراضي الآسيوية للبحر الأحمر الأمر الذي يمكن بالتنسيق استخدامه عند الضرورة. - أن موقع اليمن الجيوبولتيكي وامتلاكها مقومات السيطرة على المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر، فضلًا عن أنها عمليًا المتحكمة في أهم النقاط الإستراتيجية لباب المندب، أو الجزء الأكبر منه، كل هذه العوامل تجعل اليمن مسيطرة على هذا المنفذ مع جمهورية مصر المتحكمة بمنفذ قناة السويس شمالًا، الأمر الذي يساعد على فرض عملية تنسيق مصرية يمنية لتواجد قوات مصرية ويمنية في هذه المناطق عند لزوم الأمر. - علم القيادة المصرية أنه بالرغم من قلة إمكانيات اليمن العسكرية، فإنها على استعداد للمشاركة في أي عمل عربي جماعي للوفاء بمسئوليتها في حماية الأمن القومي في البحر الأحمر، إذا ما وفرت لها الدول العربية الإمكانيات العسكرية والاقتصادية اللازمة لدعم قواتها المسلحة، كما أنه يمكنها تقديم تسهيلات للقوات المصرية في موانئها ومطاراتها، وهذا ما أثبتته اليمن لاحقًا. وإذا كانت هذه الميزات تتمتع بها الجيوبوليتكيا اليمنية والمصرية، فإن إسرائيل لا تتمتع إلا بميزة العلاقات الوثيقة مع إثيوبيا التي منحتها بعض التسهيلات العسكرية في موانئ الساحل الإرتيري المحتل وجزره. ومما تجدر الإشارة إليه أن الأهمية العظمى التي تحتلها قناة السويس في البحر الأحمر كانت تشكل مصدر قلق للإستراتيجية الإسرائيلية، إلا أن مصر كانت تدرك أن قناة السويس منطقة مكشوفة يسهل توجيه ضربات عسكرية عليها. وبذلك يمكن القول إن هذه المميزات التي تتمتع بها الجيوبوليتكيا اليمنية والمصرية، هي التي حملت الفكر العسكري المصري على التفكير في القيام بتنسيق مشترك مع جمهوريتي اليمن حينها لحماية الأمن القومي للبحر الأحمر ومواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة. ومن جهة أخرى كانت حادثة الناقلة الإسرائيلية لا تقل أهمية عن الموقع الجيوبولتيكي، في تشجيع قادة الفكر المصري على التنسيق مع جمهوريتي اليمن، فقد ساعد نجاح هذه العملية على تشجيع التنسيق العربي المشترك لمواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية ومواصلة تعقب السفن الإسرائيلية. أما اليمن فلعل ما أعلنه مجلس رئاسة اليمن الديمقراطي من أنه أمام واقع يؤكد أن الأساطيل الأمريكية والإسرائيلية قد زاد نشاطها في المحيط الهندي، وأن إسرائيل بدأت بالفعل تمارس نفوذها العسكري في الجزر القريبة من جزيرة ميون اليمنية على مدخل البحر الأحمر، وأن جمهورية اليمن الديمقراطية قد أصبحت شبه جزيرة تحيط بها الإستراتيجية الإسرائيلية و هو ما جعل اليمن تبحث، عن أقوى وأضمن أشكال التحالف والتعاون العربي لمواجهة الخطر الإسرائيلي، وحتم عليها البحث عن أنسب وأفضل صيغة للتلاحم الثوري العربي المتمثل في جمهورية مصر العربية التي تُعد محورًا أساسيًا من محاور الصراع ضد مخططات الإستراتيجية الإسرائيلية وحليفاتها في الوقت الذي كان على الدول العربية ألا تغفل عن وضع إستراتيجيتها القومية العليا وأن لا تغفل عن أهمية دور اليمن في هذه الإستراتيجية ، ورأت اليمن أنه لا بد من التحرك عربيًا لمواجهة هذا التغلغل، ولا بد من المشاورة والتنسيق مع القاهرة. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن بداية التنسيق، قد جاء حينما تضامنت مطالب جمهوريتي اليمن للجامعة العربية مع مطالب جمهورية مصر العربية، لوضع إستراتيجية عربية شاملة تهدف إلى حماية أمن البحر الأحمر من خلال مشاريع عربية مشتركة، حيث توحدت هذه المطالب في العامين 1970 و1971م حين بعثت اليمن برسالتين إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بخصوص النشاط الإسرائيلي المتزايد في المنطقة. وبناء على التقارير والمعلومات حول النشاطات الإسرائيلية، التي كانت قد أعدتها الدول العربية بموجب طلب الجامعة العربية مسبقًا، عقب مذكرة اليمن إليها، شُكلت لجنة لتقصي الحقائق حول استئجار إسرائيل من إثيوبيا جزر أبو الطير وحالب ودهلك، علمًا بأن جزيرة أبو الطير التي تتبع جنوباليمن قد أعطتها بريطانيا لإثيوبيا قبل انسحابها من عدن في نوفمبر 1967م. وأكدت الجامعة العربية بدورها في مذكره بعثتها إلى وزارة الخارجية المصرية في (19) يوليو عن تواجد إسرائيلي في الجزر الإرتيرية، وأوضحت في مذكرتها الآثار العامة للنشاطات الإسرائيلية في المنطقة، وأكدت المذكرة أن إسرائيل تتوق إلى حرمان العرب من سيطرتهم العسكرية والسياسية على البحر الأحمر، ولاحظت أن إستراتيجية إسرائيل ومصالحها، تشمل تأسيس وجود لها، بوصفها قوة بحرية أحمرية، تعمل على تعزيز علاقاتها مع دول العالم الثالث، لاسيما إفريقيا. وهذا ما كانت اليمن قد أثبتته من خلال إدراكها أن إسرائيل تسعى بالأساس إلى توطيد علاقاتها مع الدول الإفريقية القريبة من المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، للحيلولة دون استقلال بعض الدول (مثل استقلال إريتريا عن إثيوبيا) حتى لا تثار أي فرصة للحديث عن عروبة إريتريا، ومن ثم تعود الأفكار الخاصة بعروبة البحر الأحمر. وهو ما حدث فعلًا عندما اندفعت الإستراتيجية الإسرائيلية لمواجهة الدعم العربي للثورة الإرتيرية من خلال توثيق علاقاتها مع إثيوبيا لتحقيق الهدف المشترك لهما، وهو الاحتفاظ بساحل إريتريا، وكسر الطوق العربي المتوقع على البحر الأحمر، ونزع صفة القومية العربية عن البحر الأحمر، ولذلك وضعت إثيوبيا شواطئ إريتريا المحتلة وجزرها، تحت سيطرة الإستراتيجية الإسرائيلية. أدى كل ذلك إلى تحريك الفكر العسكري المصري؛ لإحساسه بضرورة تدعيم النشاط البحري في البحر الأحمر، حتى باب المندب لعرقلة الملاحة الإسرائيلية، وفي ظل هذه المستجدات والمتغيرات تقدمت جمهورية مصر العربية بمذكره لمؤتمر وزراء الدفاع العرب في إطار الجامعة العربية خلال النصف الأول من العام 1971م حول أهمية التنسيق العسكري البحري في البحر الأحمر. وبذلك بدأ العام 1971م بمرحلة جديدة في الإستراتيجية العربية والتنسيق المشترك ضد الإستراتيجية الإسرائيلية وتمثلت الإستراتيجية العربية بالاهتمام بعروبة إريتريا وتحصين جزر اليمن، وخاصة ميون، ضد إسرائيل. وفي إطار التنسيق اليمني المصري لحماية الأمن القومي للبحر الأحمر ومواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية قامت لجنة عسكرية مصرية في عام 1971م بزيارة استطلاعية، إلى كل من جمهوريتي اليمن الشمالية والجنوبية، وأحاطت أعمالها ونشاطها بنطاق عميق من السرية حيث شملت الزيارة الاستطلاعية التي قامت بها اللجنة جزيرة ميون في مدخل باب المندب، وساحل عدن ومضيق باب المندب، وجزيرتي حنيش الصغرى والكبرى، وزقر وكمران . وركَّزت في استطلاعها على الحصول على معلومات مفصلة عن منطقة جنوبالبحر الأحمر، والجزر المنتشرة فيها من حيث الموقع والأهمية الإستراتيجية، ومدى صلاحية الجزيرة والسعة التكتيكية ومصادر المياه وأسلوب الدفاع عنها، وإمكانية المراقبة، والإنذار والإمداد والنقل والعوامل الجوية السائدة، وبعد الاستطلاع خلُصت اللجنة إلى أن جزيرة ميون بحكم موقعها الجغرافي في مدخل باب المندب ذات أهمية قصوى ، نظرًا لأنه يقع بالقرب منها على ساحل البر اليمني جبل الشيخ سعيد، وهو ما يساعد على تأمين التغطية الأمنية والحماية المطلوبة للجزيرة والكشف عن الأهداف البعيدة قبل اقترابها من الجزيرة، وبعبارة أخرى فإن جبل الشيخ سعيد يمثل نقطة إنذار مبكر لاستعداد الجزيرة اللازم للتصدي لأي قوة بحرية معادية تحاول النفوذ من بوابة مضيق باب المندب. بالإضافة إلى أن موقع جبل الشيخ سعيد، منح الجزيرة سهولة الدفاع عنها والتمسك بها، كما أن أي تدخل إسرائيلي ضدها سيكون أمرًا مستبعدًا، إلا في حالة الارتكاز على مجموعة الجزر الإرتيرية، وهذا أمر من الجائز وقوعه نتيجة للوجود الإسرائيلي القائم، طبقًا للتسهيلات الإثيوبية في مجموعة جزر (دهلك) ومينائي (عصب) و(مصوع) ومن هذا الموقع يمكن للإستراتيجية الإسرائيلية إما الاكتفاء بالمراقبة والإنذار، وإما تطوير الاتجاه إلى التعرض لأي نشاطات بحرية عربية في المنطقة. وبناءً على تلك المزاعم التي أُثيرت عبر مجلة التايم الأمريكية في 19 مارس 1973م عن تسلل أفراد إسرائيليين لاحتلال جزيرة جبل زقر، فقد نفى كل من رئيس أركان القوات المسلحة والقائد العام للقوات المسلحة، تلك المزاعم وأكدوا من خلال زيارتهم لهذه الجزر من عدم تواجد أي قوات أجنبية عليها، إلا أنه كان قد أُثير في الجامعة العربية من جانب مصر خبر عن إنزال سابق لإسرائيل في جزيرة حنيش، الأمر الذي جعل الجامعة العربية تشكل فريق مسح جوي. وفي إبريل 1973م قامت لجنة عسكرية مصرية أخرى بمحاولة ثانية للدراسة على الطبيعة في كل من شطري اليمن، وضمّت اللجنة أحد قادة التشكيلات البحرية الرئيسية، وثلاثة مختصين آخرين في التخطيط من القيادة العامة للقوات المسلحة، ويبدو أن اللجنة قابلت مجموعة من الصعوبات في عدن، حيث كان الوضع بالغ الحساسية، في حين أشاد أعضاؤها في تقريرهم بالتفاهم الذي قُوبلوا به في صنعاء، التي سهلت لهم استطلاعًا بحريًا وجويًا لجزر جبل الطير والزبير وزقر وحنيش الكبرى والصغرى وميون. وقد تبيّن للجنة العسكرية المصرية بقايا آثار للوجود الإسرائيلي، وهذا ما حمل مجلس الوزراء المصري في اجتماعه برئاسة السادات في 5 إبريل 1973م، إلى إقرار حتمية العمل العسكري، والتدخل لمنع تدفق البترول في البحر الأحمر، وكان هذا القرار يتجنب الحرب التحريرية الشاملة، ولكنه كان يركز على حرب محدودة طبقًا للإمكانيات العربية. وفي سبتمبر 1973م ناقش مجلس الجامعة العربية نتائج الدراسة السابقة، التي كانت الجامعة العربية قد أنجزتها في فبراير 1972م، الخاصة بالتغلغل الإسرائيلي في جزر البحر الأحمر، وبعد النقاش، دعت الجامعة العربية -في قرار لها- الأمانة العامة إلى ترتيب انعقاد مؤتمر لأقطار البحر الأحمر العربية، بما يتيح لها التوصل إلى مواقف مشتركة بخصوص التنسيق والتعاون فيما بينها لمواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية. وفي هذا الصدد كانت جمهورية اليمن أولى الدول المبادرة لمواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية من خلال التنسيق العربي المشترك، وهذا ما كان له الأثر البالغ في نجاح معركة أكتوبر 1973م. على أية حال كان للتنسيق اليمني المصري خلال الأعمال الاستطلاعية والدراسة الميدانية، التي قامت بها اللجنتان العسكريتان المصريتان في العامين 1971 و1973م، الفضل في إعداد التصور الكامل عن إمكانية اعتراض النشاط العسكري المصري لخطوط المواصلات البحرية الإسرائيلية عبر جنوبالبحر الأحمر، وبالذات في مدخل باب المندب، وعند القرن الإفريقي، وكان هذا التصور يندرج في إطار الأهداف الإستراتيجية العامة التي كانت مصر تعدها بالتنسيق مع شطري اليمن لحرب أكتوبر1973م. وعلى ما يبدو فإن السلطات اليمنية قد أيدت التنسيق مع جمهورية مصر لأنها كانت تخشى من إقدام إسرائيل على احتلال جزر يمنية، وهذا بدوره يضع اليمن أمام خيار المواجهة والتصادم دفاعًا عن السيادة اليمنية في الوقت الذي لا تمتلك فيه الدولة اليمنية أي مقومات للمواجهة العسكرية، خاصة فيما يتعلق بالقوات البحرية وبذلك كان خيار التنسيق مع مصر هو الوسيلة الوحيدة لحماية السيادة اليمنية. وعلى ضوء ذلك وافقت السلطات اليمنية في صنعاءوعدن على طلب الرئيس السادات بالسماح بإنزال بحري مصري في جزيرة حنيش لحصار أي تحرك إسرائيلي بحري في البحر الأحمر أثناء الحرب ، وقامت كل من جمهوريتي اليمن وجمهورية مصر باستخدام تلك الجزر في حرب أكتوبر بموجب طلب الحكومة المصرية ، وبذلك وضع شطرا اليمن كافة إمكانياتهما المتواضعة في خدمة المجهود الحربي العربي. المحور الخامس: دور اليمن في حرب أكتوبر 1973م في أوائل أكتوبر 1973م أُعلن عن بدء تنفيذ المناورة السنوية للقوات البحرية المصرية، وفي صمت تحركت الغواصات المصرية في البحر الأبيض المتوسط إلى مناطق محدده لها، تحمل مظاريف مغلقة بين طياتها السر الذي يُحدد المهام القتالية، كما تحركت غواصات البحر الأحمر تحت ستار إجراء إصلاحات لها في أحد موانئ باكستان، وتحركت ثلاث قطع مصرية منها مدمرتان وفرقاطة، والمدمرة (دمياط) والمدمرة (طارق) وتمركزت المدمرتان في حنيش الكبرى، وعملت على تمشيط المنطقة ما بين باب المندب وجزر حنيش وزقر، وفي الوقت المناسب تم شحن الصواريخ البحرية، وتجهيز لنشات منصات الصواريخ والمدفعية الساحلية في هدوء تام، حتى حانت ساعة الصفر فاندلعت الحرب في الساعة الثانية من ظهر يوم 6 أكتوبر 1973م فهاجمت الجيوش المصرية والسورية إسرائيل . وما إن حانت ساعة الصفر، حتى تلقى قائد القوات البحرية المصرية في مضيق باب المندب رسالة تتضمن تعليمات بالمهام المناط به تنفيذها، ومن أهمها التعرض لخطوط المواصلات البحرية للعدو في المضيق ، ومنذ الساعات الأولى لبداية الحرب، أعلنت مصر رسميًا أن البحر الأحمر بمياهه الدولية في خليج العقبة والسويس شمالًا حتى باب المندب، والقرن الإفريقي جنوبًا منطقة عمليات عسكرية تُحظر الملاحة فيها ، وبالرغم من أن اليمن كانت إمكانياتها العسكرية محدودة لا تستطيع تحقيق رقابة فعالة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، فإنها استطاعت من خلال التنسيق مع قوات جمهورية مصر العربية، أن تغلق مضيق باب المندب في وجه إسرائيل ، وذلك من خلال تواجد بعض الوحدات من القوات البحرية المصرية بالاشتراك مع القوات اليمنية على الجزر اليمنية القريبة من باب المندب. وكانت غرفة القيادة البحرية اليمنية في الحديدة مُنسقة بين البحرية اليمنية والبحرية المصرية ، وقد برز التنسيق اليمني المصري منذ بداية عملية إغلاق المضيق في 6 أكتوبر 1973م، عندما قامت مدمرتان مصريتان، كانتا مرابطتين بالقرب من جزيرة ميون بمنع الملاحة الإسرائيلية من المرور عبر مياه المضيق بمساعدة الزوارق المسلحة التابعة لشطري اليمن سابقًا، وتم ذلك بتنسيق متكامل بين جمهورية مصر وجمهوريتي اليمن الشمالي والجنوبي . فمنذ بداية المعركة ساعد تواجد قوات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بالقرب من باب المندب على تأمين الأسطول العربي من الناحية الجنوبية للبحر الأحمر، وبذلك أسهمت جمهورية اليمن الديمقراطية في نجاح الحصار الذي ضُرب على إسرائيل في باب المندب، وهذا بدوره يعتبر مساهمة فعلية في تحرير الأراضي العربية المحتلة . أما الجمهورية العربية اليمنية فقد برز دورها عندما قامت بإرسال قواتها في 14 أكتوبر1973م إلى عدد من جزر البحر الأحمر، لمنع أي محاولة إسرائيلية تستهدف احتلال تلك الجزر، واستخدامها لفض الحصار العربي ، وبهذا العمل أحكمت القوات البحرية اليمنية سيطرتها على المضيق من أي التفاف إسرائيلي على دول المواجهة، واستثمرت موقعها الإستراتيجي لمصلحة الأمن القومي العربي، وحرمت العدو من أي مساعدة بحرية تأتي لنجدته عن طريق البحر الأحمر . وبذلك ساعد التنسيق اليمني المصري على إغلاق المضيق أمام البواخر الإسرائيلية المتجهة إلى ميناء إيلات، والبواخر التي تحمل مواد إستراتيجية تخدم أغراض إسرائيل الحربية، مهما كانت جنسية هذه البواخر، وأدت هذه التدابير إلى شل ميناء إيلات، ومنعت وصول جميع البواخر التي تحمل العلم الإسرائيلي، كما منعت وصول ناقلات النفط إلى الكيان الصهيوني . وبهذا التنسيق المتكامل حُرمت إسرائيل من الإمداد بالوقود طوال فترة الحصار، ولم تدخل سفينة واحدة إلى ميناء إيلات أو تخرج منه، منذ بداية الحصار حتى اتفاقية فك الاشتباك في 8 يناير 1974م , ويتضح من ذلك أن لهذه الإجراءات التي قامت بها جمهوريتا اليمن الشمالية والجنوبية آنذاك بالتنسيق مع جمهورية مصر العربية، أثرا إيجابيا وُضع بموجبها باب المندب تحت سيطرة الأسطول العربي بقيادة مصر وسوريا وبذلك يمكن القول إن حرص جمهوريتي اليمن في المحافظة على أمنهما الوطني والأمن العربي القومي من خلال المشاركة مع القوات المصرية في جنوبالبحر الأحمر، وتقديم التسهيلات، يعد أحد أهم العوامل، إن لم يكن العامل الرئيسي، الذي ساعد القوات العربية بقيادة مصر لإعلان حظر الملاحة في البحر الأحمر، وضرب الحصار بإقفال باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية وتحطيم أسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي. وهكذا جاءت حرب أكتوبر لتحطيم أسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي، من خلال نجاح مصر في تثبيت أقدامها في سيناء، وعلى خط طويل بامتداد قناة السويس، الذي لا يكتمل بعدها الإستراتيجي والعسكري إلا إذا وضعنا في الحسبان القفزة الجبارة التي قام بها الأسطول المصري وطوى بها البحر الأحمر كله من مدخله الشمالي في السويس إلى مدخله الجنوبي في باب المندب، الذي حقق بها عملية الحصار البحري لإسرائيل . ويعتبر التنسيق والتضامن العربي في حرب أكتوبر من المتغيرات البارزة، التي لم تعهدها الدول العربية في الجولات العسكرية الإسرائيلية العربية السابقة ، فقد كان سببًا في عجز القوة البحرية الإسرائيلية واختراق الحصار، ما يعني أن القيادة الإسرائيلية وجدت نفسها في وضع لا يمكنها فيه تعزيز قوتها في البحر الأحمر بشكل يساعدها على فك الحصار بالقوة، لأن كل ما بنته إسرائيل من أهداف إستراتيجية في مضيق تيران قد تهاوى عند إغلاق مضيق باب المندب في وجه إسرائيل أثناء الحرب. ومن خلال ذلك يمكن القول إن شطري اليمن أسهما إسهامًا كبيرًا في استعادة الأراضي العربية المحتلة من خلال مشاركتهما الفاعلة في الوقوف في وجه الإستراتيجية الإسرائيلية جنوبالبحر الأحمر. الخاتمة: خرج هذا البحث بجملة من النتائج، يمكن إيجازها في الآتي: - كان لجمهوريتي اليمن الشمالي والجنوبي دور كبير في التنبيه إلى خطر التغلغل الإسرائيلي في المنطقة وإثارته ، وذلك من خلال تكرار مخاطبة جامعة الدول العربية عن التواجد الإسرائيلي وتحركاته، وذلك ما دفع الجامعة العربية لإعداد الدراسات والتقارير العسكرية في المنطقة، التي تهدف لمواجهة إسرائيل. - أعلنت جمهوريتا اليمن بشكل مستمر، من خلال مخاطبتهما لجامعة الدول العربية، أنهما على استعداد للمشاركة في أي عمل عسكري رغم قلة إمكانياتهما العسكرية، وذلك من باب الوفاء بمسئولياتهما في حماية أمنهما القومي، وهذا ما حدث في أكتوبر1973م. -بالرغم من الانتصار الذي حققه التنسيق المصري- اليمني على الإستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر أثناء حرب أكتوبر 1973م، فإنه أعطى إسرائيل دافعًا قويًا لرسم مخططاتها والاستعداد لما قد يواجهها من تنسيق عربي مشترك في المنطقة مستقبلًا. -كان للتنسيق الأمني الاستخباراتي اليمني- المصري دور كبير في الحد من توسع إسرائيل في المياه الإقليمية، كما كان له الدور الأكبر في تحقيق الانتصار. التوصيات: - يوصي الباحث باستمرار عملية التنسيق بين اليمن ومصر، وبقية الدول العربية المطلة على البحر الأحمر لمواجهة أي مخططات في المنطقة. - عقد اتفاقيات دفاع مشترك بين الدول المطلة على البحر الأحمر، تُلزم كل الأطراف المشتركة بالدفاع عن أمن المنطقة. - الاهتمام بالقوات البحرية اليمنية وتطويرها بما يواكب العصر. - تأمين الجزر اليمنية من خلال إيجاد قواعد عسكرية قوية. - الاهتمام بالجزر الواقعة على طول الساحل اليمني ومراقبة المنطقة من خلال إيجاد شبكة رادار واتصالات قوية تستطيع كشف أي محاولات تمس أمن الجزر والمنطقة. - تأسيس مركز أكاديمي متخصص بدراسات البحر الأحمر، سياسيًا وإستراتيجيًا وعسكريًا واقتصاديًا. *أستاذ تاريخ العلاقات الدولية جامعة ذمار