جاء التنسيق اليمني المصري المشترك في الفترة من 1970- 1973م لمواجهة التغلغل الإسرائيلي في جنوب البحر الأحمر وسواحله الشرقية والغربية، لا سيما أن إسرائيل كانت قد استخدمت كل الأساليب السياسية والعسكرية لإيجاد موطئ قدم لها في المنطقة لفرض سيطرتها وتأمين تجارتها، وهذه المتغيرات السياسية كانت أهم الأسباب التي جعلت الباحث يتطرق إلى هذا الموضوع محاولًا الإلمام به للاستفادة منه مستقبلًا. وتكمن إشكالية الدراسة في أنها تسعى في محاورها إلى الإجابة الموضوعية عن طبيعة التنسيق اليمني المصري وماهيته في الفترة من 1970- 1973م، وتحاول الإجابة الموضوعية عن جملة من التساؤلات والإشكاليات التي سوف يثيرها البحث. وتهدف الدراسة إلى إبراز الدور المهم الذي قامت به جمهوريتا اليمن وجمهورية مصر في مواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية، والتذكير به للحصول على رؤية مستقبلية في حال حدوث أي أخطار أجنبية أخرى، وقد استخدم الباحث المنهج التاريخي التحليلي الذي يعتمد على جمع المادة العلمية وترتيبها حسب التسلسل الزمني وإخضاعها للمناقشة والتحليل. وقد احتوى هذا البحث على مقدمة وخمسة محاور وخاتمة وتوصيات: تناول المحور الأول أهمية الموقع الجغرافي لليمن ومصر بالنسبة للبحر الأحمر، وتطرق المحور الثاني إلى ظهور الإستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر، أما المحور الثالث فقد تناول دور اليمن في طرح قضية الأمن القومي للبحر الأحمر لدى الجامعة العربية، وجاء المحور الرابع ليناقش التنسيق المصري اليمني لحماية الأمن القومي العربي، ومواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر من 1970- 1973م، وتناول المحور الخامس دور اليمن ومشاركتها في حرب أكتوبر 1973م، وخرج البحث بجملة من النتائج والتوصيات سيتم عرضها في نهاية البحث. المحور الأول: الموقع الجغرافي لليمن ومصر بالنسية إلى البحر الأحمر قبل استعراض التنسيق المشترك بين جمهوريتي اليمن ومصر في موضوع حماية الأمن القومي العربي، ومواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر(1970- 1973) لا بد من الإشارة إلى أهمية الموقع الجيوبولتيكي للبلدين بالنسبة إلى البحر الأحمر. يُعد البحر الأحمر منذ القدم من أهم بحار العالم مكانة، نظرًا لما يتمتع به من أهمية جيوبولتيكية وإستراتيجية وتجارية، وتنبع هذه الأهمية من كونه أقصر الطرق المائية التي تصل بين الشرق والغرب، بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي من جهة، والبحر العربي والمحيط الهندي من جهة أخرى, فضلًا عن أنه يضم حول سواحله تسع دول هي على الساحل الإفريقي من الشمال إلى الجنوب: مصر، السودان، إثيوبيا (التي تحتل الساحل الإرتيري)، جيبوتي، وعلى الساحل الآسيوي: فلسطين، الأردن، السعودية، اليمن الشمالي، اليمن الجنوبي. فالبحر الأحمر من البحار الطويلة التي تقع في المناطق المدارية الجافة، ويمتد طوليًا بين السويس شمالًا وباب المندب جنوبًا حيث يبلغ طوله حوالي 2000كم2، وقد أعطى موقع البحر الأحمر الجيوبولتيكي لليمن ومصر بُعدًا إستراتيجيا هيأ لهما عملية الترابط والتنسيق المشترك على أرض الواقع، فهو يُعد عنصرهما الأساسي، فاليمن مدخله الجنوبي، ومصر مدخله الشمالي ومما يميزه أيضًا أنه يحتوي على (380) جزيرة بعضها مأهول بالسكان وبعضها الآخر خالٍ أو مهجور بسبب وعورة طبيعتها البركانية وتشكل هذه الجزر قيمة إستراتيجية بالنسبة إلى الدول المطلة عليه، ولعل أهميتها تكمن في انتشارها وموقع بعضها الإستراتيجي المسيطر على مداخله، حيث يمكن استخدام معظمها للأغراض العسكرية باعتبارها نقاطًا مهمة أو قواعد انطلاق للسيطرة على الملاحة فيه. ومن أهم هذه الجزر الواقعة في المناطق الضيقة من البحر الأحمر عند باب المندب جزيرة (ميون) التي تقع داخل المضيق، وتتميز بموقعها الذي يتيح التحكم في البحر الأحمر من جهة الجنوب، وتليها في الأهمية جزيرة (حالب) الإرتيرية التي تقع في خليج عصب عند الطرف الجنوبي من الساحل الإرتيري، كونها من أقرب الجزر الإرتيرية إلى باب المندب، وكذلك أرخبيل دهلك القريب من مصوع المطلة على الساحل الإرتيري، الذي يتكون من جزيرتين رئيسيتين و(124) جزيرة صغيره، أكبر هذه الجزر هي دهلك التي تبلغ مساحتها (290) ميلًا مربعا وطولها 40 ميلًا، وكذلك أيضًا جزر (حنيش) الكبرى والصغرى اليمنية، وجزيرة (زقر) التي تتميز بقيمة إستراتيجية كبرى بفضل ارتفاعها الذي يتيح إمكانية مراقبة الأنشطة البحرية ورصدها، وخاصة التي تجري في المياه المحيطة بها.. أ- اليمن تقع في الجزء الجنوبي الغربي من القارة الأسيوية، ومن شبه الجزيرة العربية، يحدها من الشمال السعودية والربع الخالي، ومن الجنوب بحر العرب والمحيط الهندي، ومن الشرق سلطنة عمان ومن الغرب البحر الأحمر وتمتد اليمن على مساحة شاسعة حيث تسيطر على أكثر من (2200) كم من السواحل المطلة على البحر الأحمر، والبحر العربي وخليج عدن والمحيط الهندي بالإضافة إلى موقعها المتميز على مضيق باب المندب، الذي يُمكنها من الإطلال المباشر على خطوط الملاحة البحرية العالمية، ويمنحها صفة المدخل الرئيسي إلى شرق القارة الإفريقية، كما أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقناة السويس كونها المخرج الأساسي للبحر الأحمر من جهة الشمال.. ب- مصر تقع في الركن الشمالي الشرقي من القارة الإفريقية، ويحدها من الشمال البحر الأبيض المتوسط، ومن الجنوب السودان، ومن الغرب الصحراء الليبية، ومن الشرق البحر الأحمر وخليج العقبة، ويبلغ طول الساحل الشرقي لمصر على البحر الأحمر نحو (1950)كم( )، وبحكم موقعها على البحر الأحمر، وسيادتها على قناة السويس 1869م وخليج العقبة، فقد زاد ذلك من أهمية موقعها الجيوبولتيكي المتميز في قلب الوطن العربي، حيث اكتسبت أهمية كبرى بعد افتتاح قناة السويس، التي ربطت بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وأصبحت بذلك تربط بين قارات العالم الثلاث إفريقيا وآسيا وأوروبا. ومما زاد موقع مصر أهمية هو وجود قناة السويس في البحر الأحمر، كونها أقصر طريق بين الشرق والغرب مقارنة بطريق رأس الرجاء الصالح الدائري الطويل، إذ إن قناة السويس اختصرت ثلثي المسافة تقريبًا، كما أعادت لمدخل البحر الجنوبي عند القرن الإفريقي أهميته الجيوبولتيكية، وأعادت أيضًا حدة الصراعات بين الدول الاستعمارية بكل ما تعنيه هذه الصراعات من انعكاسات ومخاطر محلية ودولية وإقليمية، خاصة عندما بدأ البترول المكتشف في الخليج العربي والجزيرة العربية يتدفق بكميات تجارية ضخمة. ومن هنا كانت إسرائيل تمثل أخطر الدول الاستعمارية، التي شكَّل تغلغلها في نهاية عقد الستينات وبداية السبعينات تهديدًا عسكريًا واقتصاديًا على الدول المطلة على البحر الأحمر، لا سيما جمهوريتا اليمن الشمالية والجنوبية، وكذلك جمهورية مصر العربية، وهذا ما سوف نلاحظه من خلال محاور هذه الدراسة. المحور الثاني: الإستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر بدأت الإستراتيجية الإسرائيلية حيال البحر الأحمر منذ العام 1949م بعد تأسيس وجودها في خليج العقبة، بهدف الاتصال الخارجي عن طريق البحر الأحمر، ولتحقيق ذلك الهدف بدأت إسرائيل بتأسيس وجود لها على البحر الأحمر، بغية استخدامه لتحقيق مصالحها العسكرية والسياسية والاقتصادية، ولذلك كان المخطط هو السيطرة على البحر الأحمر ذاته، فعملت على احتلال الأراضي العربية في الجزء الشمالي، واحتلال الجزر الواقعة في الجزء الجنوبي من المنطقة، من أجل تأمين حريتها في الملاحة التي ترتبط، مباشرة، بالأمن القومي الإسرائيلي. فقد قامت الإستراتيجية الإسرائيلية في العاشر من آذار 1949م باحتلال قرية (أم الرشراش) التابعة للسيادة الأردنية المطلة على الساحل الشمالي لخليج العقبة, وفي 1952م أنشأت إسرائيل على هذه القرية مرفأ (إيلات), وبعد إنشاء هذا المرفأ أصبح المنظور الإسرائيلي للبحر الأحمر على أنه ممر مائي دولي ينبغي أن يظل مفتوحًا لسفن جميع الدول بما فيها إسرائيل، وهذا هو المحور الذي يوليه الإسرائيليون اهتمامًا عميقًا، وبسبب تخوفهم من أن ينجح العرب من تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة عربية، ومن ثم يفرضون حصارًا على السفن الإسرائيلية, قامت بالتنسيق مع كلٍ من بريطانيا وفرنسا لشن هجوم على مصر في (29) تشرين الأول/ أكتوبر 1956م تمخض عنه احتلال سيناء، محطمة بذلك القيود التي كانت مصر قد فرضتها على سفنها في مضائق تيران وخليج العقبة. وبعد أحد عشر عامًا من هذا العدوان أقدمت إسرائيل مرة أخرى في حزيران 1967م على مهاجمة مصر وسوريا مباغتةً (حرب الأيام الستة) بسبب الحصار الذي فرض على مضيق تيران، الذي هدد وقتها وجود إسرائيل, وكان من أهم نتائج هذا الحصار احتلال إسرائيل الضفة الغربية للأردن، وغزة، وشبه جزيرة سيناء التابعتين لمصر، ومرتفعات الجولان السورية, واستمرت إسرائيل باحتلال هذه الأراضي العربية إلى أن تم اتخاذ قرار حرب 1973م. وبعد عدوان حزيران 1967م بدأت الإستراتيجية الإسرائيلية تتجه في علاقاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية نحو الدول الإفريقية حتى تستطيع تأمين تواجدها بالقرب من المدخل الجنوبي للبحر الأحمر لحماية ملاحة سفنها. وعلى هذا الأساس قامت الإستراتيجية الإسرائيلية بالتوغل في بعض الدول الإفريقية من خلال الإغداق عليها بالمساعدات، وفي مقدمة هذه الدول إثيوبيا، التي كانت حينها تحتل إريتريا( )، ونتيجة لهذه السياسة ضاعفت إسرائيل من وجودها في البحر الأحمر لتدعيم علاقتها الوثيقة بإثيوبيا واستطاعت إسرائيل من خلال ذلك الحصول على تسهيلات عسكرية وبحرية ذات قيمة عسكرية واضحة عند باب المندب، لتراقب من خلالها التحركات العربية، ولترصد أي عملية هجومية مُنتظرة، مثل تلك التي تعرضت لها الناقلة الليبيرية (كورال سي) في عرض البحر الأحمر في يونيو 1971م أثناء عبورها باب المندب وهي تحمل شحنة النفط لإسرائيلي. وتحت هذه الذريعة كان اهتمام الإستراتيجية الإسرائيلية بأن يكون لها وجود حقيقي على ساحل إريتريا، ليكون بمثابة امتداد عسكري للسيطرة على مدخل البحر الأحمر، لتؤمن طرق تجارتها ومصالحها من جهة، ومن جهة أخرى تستطيع مراقبة تحركات جمهورية اليمن الشعبية وتطويق جمهورية مصر العربية، ولذلك قامت إسرائيل بمحاولات -بدعم من واشنطن- من أجل السيطرة على جزر البحر الأحمر من إيلات شمالًا إلى باب المندب جنوبا, كون النظام الإسرائيلي في إطار تحقيق أهدافه الإستراتيجية في منطقة البحر الأحمر، يذهب إلى إيجاد عمق إستراتيجي في هذه المنطقة، يتيح له رصد أي نشاط عسكري عربي في المنطقة، وكسر أي حصار عربي قد يحدث مستقبلًا. وفي كل الأحوال نجحت الإستراتيجية الإسرائيلية باحتلال بعض الجزر الإستراتيجية المتناثرة في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر، إما مباشرة أو بالإعارة والتأجير من إثيوبيا، أو عن طريق التعاون والتنسيق بينها وبين إثيوبيا والولايات المتحدة , فعلى سبيل المثال تم اتفاق بين إثيوبيا وإسرائيل على وضع قوات إسرائيلية في جزيرة (دهلك) وما جاورها وكذلك بناء محطات الرادار. ومن هذه الجزر اتخذت إسرائيل منطلقًا لتهديد الأمن القومي اليمني، وهو ما أشارت إليه الأمانة العسكرية لجامعة الدول العربية في العام 1972م إذ أكدت في دراسة أعدتها على أن الإستراتيجية الإسرائيلية تقوم بنشاط حول جزيرة (ميون) بغرض استطلاع الجزيرة ومعرفة مدى تسليحها، ومن ثم احتلالها لضمان حرية الملاحة لسفنها. كما عملت الإستراتيجية الإسرائيلية من خلال تواجدها على هذه الجزر، على الحد من الدبلوماسية اليمنية تجاه الصراعات في المنطقة، ومنها الصراع الإرتيري الإثيوبي، كون استمرار هذا الصراع هو ما قد يتيح لإسرائيل التواجد في هذه المنطقة. من جانب آخر استفادت الإستراتيجية الإسرائيلية من مواقعها في جزر وسواحل إريتريا, حيث أوجدت عمقًا إستراتيجيا لسياستها في البحر الأحمر، من خلال تصعيد الصراعات في المنطقة لإعاقة تعريب البحر الأحمر, فعملت على دعم النظام الإثيوبي في إحكام قبضته على الأراضي الإرتيرية المحتلة, حرصًا منها على مصالحها الإستراتيجية، ونظرًا لتخوفهم من انتصار النظام القائم آنذاك في إريتريا، إذ رأت أن استقلال إريتريا لن يخدم إستراتيجيتها( )، مع أن النظام الإرتيري المتمثل في(جبهة التحرير الإرتيرية) قد قام منذ بداية كفاحه المسلح بربط نفسه بصورة متزايدة بدعوة القومية العربية، وتلقى دعمًا عربيًا منذ العام 1961م، كون الدول العربية كانت تأمل في نجاح الثورة الإرتيرية، وولادة دولة عربية مستقلة تشكل طريقًا لتحويل البحر الأحمر إلى بحيرة عربية، ومكافحة التغلغل الإسرائيلي في المنطقة. كما أن استقلال إريتريا سيضع البحر الأحمر بصورة رئيسية تحت السيطرة العربية , إلا أن إسرائيل نجحت في اختراق الثورة الإرتيرية في عام 1970م، عبر أسياسي أفورقي أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، الجبهة المنشقة عن الجبهة الأم (جبهة تحرير إريتريا) وتمكن من ذلك بمساعدة قاعدة (كانيو ستيش) الأمريكية الموجودة في أسمرة، حيث تمكن أسياسي أفورقي من الانفصال بتنظيمه المعادي للإسلام والعرب بشكل عام، وعمل على خدمة المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية( )، ومع كل النجاحات التي حققتها الإستراتيجية الإسرائيلية خلال الفترة السابقة، فإن الفترة التي أعقبت حرب يونيو 1967م، قد مهدت الطريق من جديد لكي يفتح العرب أعينهم بشكل جاد على حقيقة المخاطر التي تحيط بهم , وهذا ما سوف يتم توضيحه في المحور الرابع من هذا البحث. المحور الثالث: دور اليمن في طرح قضية الأمن القومي في البحر الأحمر 1970- 1973م بدأت معالم السياسة اليمنية في طرح قضية خطر الإستراتيجية الإسرائيلية تتضح بعد استقلال جنوب اليمن عن بريطانيا عام 1967م وانتهاء الحرب الأهلية في شمال اليمن عام 1970م. ولقد مثّل رحيل القوات البريطانية عن جنوب اليمن عامل ضعف للإستراتيجية الإسرائيلية في جنوب البحر الأحمر بشكل عام، وفي عدن بوجه خاص، لاسيما أن مركز إسرائيل في عدن كان قد حظي بتأمينه من قبل الاحتلال البريطاني، يتضح ذلك عندما أعرب وزير خارجية إسرائيل (أبا إيبان) في 20/ فبراير 1967م عن قلقه بشأن مركز إسرائيل في عدن، حين ذكر أنه يجب منع القوات المصرية التي تساعد الجمهوريين في شمال اليمن من السيطرة على جنوب اليمن بعد استقلاله عن بريطانيا، وفي 14 إبريل من نفس العام حذر (Eliahu sasson) إلياهو ساسون وزير الشرطة الإسرائيلي من احتمال سيطرة مصر على عدن، واحتلال باب المندب، وقال إن ذلك سيشكل تهديدًا للملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، وإزاء ذلك برز الموقف اليمني، حيث أعلن عبد القوي مكاوي أمين عام جبهة تحرير الجنوب في 17 إبريل 1967م أن بلاده سوف تقف ضد إسرائيل وتغلق باب المندب في وجه سفنها، وهذا ما دفع (ليفي أشكول) رئيس الوزراء الإسرائيلي في (9) مايو من العام نفسه ليصرح بأن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء تهديدات الزعماء اليمنيين الجنوبيين، بشأن إغلاق باب المندب في وجهها. من خلال ذلك يتضح أن رحيل بريطانيا عن جنوب اليمن عام 1967م، قد أثار مخاوف إسرائيل وضعفها في جنوب البحر الأحمر، وهذا ما دفع الإستراتيجية الإسرائيلية إلى خلق علاقات سياسية وعسكرية مع دول الساحل الشرقي لإفريقيا؛ من أجل الحصول على مواقع إستراتيجية تمكنها من تأمين تواجدها في المنطقة، لاسيما أن رحيل بريطانيا قد مثَّل بداية لمعالم السياسة اليمنية المناهضة للإستراتيجية الإسرائيلية، والمتمثلة بطرح القيادات الجنوبية لموضوع خطر الإستراتيجية الإسرائيلية، إذ دعت من خلاله إلى حماية الأمن القومي للبحر الأحمر وإقفال باب المندب ورفع الشكاوي إلى جامعة الدول العربية. وكان تزايدت النشاطات الإسرائيلية على الساحل الإرتيري بالقرب من باب المندب منذ العام 1970م، قد جعل الوضع في البحر الأحمر أكثر خطورة نتيجة للتهديدات الإسرائيلية المتزايدة في المنطقة، وخاصة باب المندب، الأمر الذي جعل قضية البحر الأحمر في الفترة من 1970- 1972م تحوز أولوية في اجتماعات جامعة الدول العربية، وقد جاء ذلك أولًا وأساسًا على يد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والجمهورية العربية اليمنية بحكم قلقهما من النشاطات الإسرائيلية في سواحل إفريقيا وخاصة في جزيرتي حالب ودهلك, التي أتاح لها تواجدها في هذه الجزر أن تمد نشاطاتها الاستخباراتية والتجسسية إلى اليمن الشمالي. وتحت هذه التهديدات رفعت جمهورية اليمن الجنوبية في أغسطس 1970م بمذكرتها إلى جامعة الدول العربية، تطالب فيها بعقد اجتماع للأمانة العامة لجامعة الدول العربية، لبحث موضوع التحركات الصهيونية في جنوب البحر الأحمر وجزر الساحل الإرتيري المواجهة لباب المندب، والوقوف بحزم في وجه هذه الأطماع، وعلى ضوء مذكرة جمهورية اليمن الجنوبية عقدت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية اجتماعها بتاريخ 15/9/1970م لمناقشة هذا الموضوع وأصدرت قرارها رقم (2670) الذي يوصي الدول المطلة على البحر الأحمر بجمع المعلومات ورفع التقارير عن هذه التحركات, التي على ضوئها قامت الأمانة العسكرية لجامعة الدول العربية خلال العام 1972م بإعداد دراسة أكدت فيها نشاطات الإستراتيجية الإسرائيلية حول جزيرة ميون بغرض احتلالها، لضمان حرية ملاحة السفن الإسرائيلية, وهي الدراسة التي أكدت أهمية المذكرات والمعلومات التي سلمتها اليمن للجامعة العربية خلال العامين السابقين. وفي إطار حرص اليمن على طرح قضية أمن البحر الأحمر، والخطر الإسرائيلي، طالبت وزارة خارجية اليمن الديمقراطية الشعبية في 23/2/1971م بإدراج موضوع تحركات الكيان الصهيوني في جنوب البحر الأحمر في جدول أعمال الجامعة العربية، لمعرفة ما استجد حول هذا الموضوع، وعلى نفس المنوال تلقت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في إبريل 1971م رسالة من الحكومة اليمنية في عدن تُعقب فيها على الرسالة السابقة، وتؤكد التحركات الإسرائيلية المعادية. وفي يونيو 1971م بعثت حكومة عدن برسالة إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية حول مستجدات حادثة الناقلة الليبيرية (كورال سي) التي تم ضربها في 11/ يونيو 1971م, أثناء عبورها مضيق باب المندب في اتجاهها إلى الكيان الصهيوني، وأوضحت مذكرة اليمن أن السفينة الحربية التي اعترضت الزورق العربي، الذي هاجم الناقلة الليبيرية، كانت سفينة حربية صهيونية تعمل في القواعد العسكرية الصهيونية، التي تم إنشاؤها على سواحل إريتريا قرب باب المندب. وهي الحادثة التي قام عقبها (حاييم بارليف) رئيس الأركان الإسرائيلي بزيارة سرية في 11 سبتمبر1971م إلى إثيوبيا وعرض تركيب محطات للرادار على السواحل الإرتيرية، لرصد عملية تهريب الأسلحة من جمهورية اليمن الديمقراطية إلى ثوار إريتريا، وزار بارليف وقتها كلًا من أسمرة ومصوع والقاعدة الإسرائيلية في جزيرة حالب، وقد أدت حادثة الناقلة إلى تكثيف النشاطات الإسرائيلية في الجزء الجنوبي للبحر الأحمر وخاصة في الجزر الإرتيرية. وفي 29ديسمبر 1971م تلقت الجامعة العربية مذكرة من جمهورية السودان تعرض فيها معلومات، وتؤكد صحة المعلومات التي قدمتها اليمن للجامعة العربية بخصوص التغلغل الإسرائيلي في البحر الأحمر. وبذلك ظلت جامعة الدول العربية تتلقى وتصدر المذكرات بشأن التحركات الإسرائيلية في جنوب البحر الأحمر، حتى عام 1972م وهو العام الذي أعدت فيه الأمانة العسكرية لجامعة الدول العربية دراسة حول الأهمية الإستراتيجية للجزر العربية في البحر الأحمر والنشاطات الإسرائيلية في المنطقة، وبالذات حول جزيرة ميون بغرض استطلاع الجزيرة، ومدى تسليحها ومن ثم احتلالها لضمان حرية الملاحة، كما تضمنت الدراسة استعداد اليمن الجنوبي ورغبته في تحسين وتسليح الجزر التابعة له بالتعاون مع الأقطار العربية لمواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية. شكل احتلال إسرائيل لجزر الساحل الإفريقي فرصة متاحة لإمكانية مد نشاطاتها الاستخباراتية والتجسسية لرصد نشاطات شمال اليمن، ونتيجة لذلك أعلنت سلطات اليمن الشمالي في 11 يوليو 1972م وفي 19 مارس 1973م عن اكتشافها نشاطات استخباراتية عن المنطقة، مرتبطة بإسرائيل. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنّ السلطات اليمنية الشمالية قد اكتشفت شبكة تجسس خطيرة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، اتخذت من أسمرة مركزًا لها، وفي عام 1972م قبضت السلطات اليمنية الشمالية على جاسوس إسرائيلي في مدينة الحديدة ادَّعى أنه إثيوبي يدعى عبد القادر كبير، كان قد وصل إلى صنعاء بصفته محاميًا، إلا أنه تبين أن اسمه الحقيقي (باروخ زكي مزراحي)، وأنه من ذوي الرتب الكبيرة في المخابرات الإسرائيلية، وقد أسندت إليه مهمة جمع المعلومات في منطقة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، ومن خلال تواجده في الحديدة كان قد التقط مجموعة من الصور، التي أظهرت المنشآت والمواقع الحيوية في الحديدة والبحر الأحمر، وباب المندب والجزر اليمنية، وعلى إثر ذلك قامت السلطات اليمنية الشمالية بعد استكمال إجراءاتها بتسليمه إلى جمهورية مصر العربية بإصرار من إبراهيم الحمدي، عندما كان نائبًا لرئيس الوزراء للشئون الداخلية مضحيًا بالأمن القُطري لصالح الأمن القومي العربي. ومن خلال العرض السابق عن دور اليمن في طرح قضية الأمن القومي في البحر الأحمر 1970- 1973م يتضح الآتي: - أدى التواجد العسكري الإسرائيلي جنوب البحر الأحمر وما جرى خلال الفترة من 1970- 1973م من محاولات لاحتلال جزر يمنية ومن تحركات لتدويل باب المندب إلى لفت انتباه النظامين في صنعاء، وعدن إلى ضرورة الوقوف أمام هذا الخطر المحدق باليمن، وتحديدًا جزره في البحر الأحمر، لتبدأ وقتها ترتيبات وإجراءات أهمها طرح القضية على جامعة الدول العربية، إضافة إلى تحركات تهدف إلى تأكيد السيادة اليمنية على جزرها. - كان لحرص جمهوريتي اليمن على حماية الأمن القومي العربي في البحر الأحمر ومواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة خلال الفترة من (1970- 1973م)- دور أساسي وكبير في تحذير الجامعة العربية وإثارة هذه القضية في أروقة الجامعة العربية، وعلى ضوء تحرك اليمن قامت الجامعة العربية بدورها من خلال طلبها من بقية الأقطار العربية المطلة على البحر الأحمر رفع التقارير والمعلومات عن نشاطات الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، وبناء عليها تمكنت الجامعة العربية من إعداد الدراسات الاستراتيجية، والتنسيق لمواجهة خطر الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، وهذا كان له أثر في انتصار العرب في حرب أكتوبر 1973م. -حرص اليمن على التنسيق مع مصر فيما يخص الأمن القومي للوطن العربي، وعلى التعاون الأمني لمواجهة خطر الإستراتيجية الإسرائيلية. * أستاذ تاريخ العلاقات الدولية جامعة ذمار