في قلب معترك الشرق الأوسط، وبين الرمال الحارقة والسياسات المتداخلة، يُعاد اليوم رسم خرائط النفوذ والتحالفات، لا وفقاً لحسابات الدول وشعوبها، بل عبر هندسة استعمارية خبيثة تتقنها منذ عقود غرف القرار الصهيو-أمريكية. فلم تعد الحروب تُخاض عبر جيوش تقليدية فقط، بل بتكتيكات خداع استراتيجي، تديرها واشنطن وتل أبيب كأنها مسرح دمى، تحرك فيه اللاعبين وفق توقيت دقيق، وتضع العناوين الكبرى: "فرق تسد"، "اضرب الحليف بالحليف"، و"اصنع عدواً وهمياً لتبرير الضربة القادمة". يحيى الربيعي وها نحن اليوم أمام فصل جديد من هذه اللعبة، تتجه فيه أعين الاستراتيجيات الغربية نحو إيران، لا عبر المواجهة المباشرة، بل عبر بوابة الخليج العربي، وتحديداً المملكة العربية السعودية. فالتسريبات الاستخباراتية، والتقارير الإعلامية الغربية، والتصريحات الرسمية المتواترة من البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأمريكية، تكشف ما يشبه سيناريو محكم الإعداد، الهدف منه ضرب إيران من على الأراضي السعودية، وتحميل الرياض وحدها كلفة الرد، في الوقت الذي تتفرج فيه واشنطن، وتواصل تل أبيب التمدد في حلمها الكبير: "إسرائيل الكبرى". مشروع استراتيجي كهذا لا يمكن قراءته بمعزل عن التاريخ، فالوثائق السرية التي كشف عنها مركز الأرشيف الوطني الأمريكي، ومذكرات هنري كيسنجر، وخرائط مشروع برنارد لويس الذي نُشر لأول مرة في مجلة وزارة الدفاع الأمريكية عام 1983م، كلها تشي بأن الهدف النهائي هو إعادة تشكيل المنطقة على أساس التفتيت العرقي والمذهبي والطائفي، وتدمير أي إمكانية لنشوء محور سيادي مستقل عن الهيمنة الغربية. وبحسب تحقيق وثائقي بثته قناة BBC عام 2013م حول العلاقات الأمريكية الخليجية، فقد أشار كبار الباحثين في معهد بروكينغز إلى أن "التحالف الأمريكي مع الخليج ليس زواجاً من حب، بل زواج مصلحة سرعان ما يتم التضحية به حين تقتضي الضرورة"، واليوم تبدو الضرورة مهيأة: واشنطن تسحب قواتها من قواعدها في قطر والبحرين، وتعيد نشرها في قاعدة الأمير سلطان في السعودية، وفق صور أقمار صناعية نشرتها صحيفة نيويورك تايمز في مايو الماضي. هذا التحرك لا يعني فقط إعادة التموضع، بل يعني تسليم الرياض ورقة الحرب، وإغلاق الباب عليها، لتكون وحدها في مرمى الرد الإيراني، تحت غطاء أمريكي مخادع، فبمجرد انطلاق أي طائرة من الأراضي السعودية لضرب طهران، تصبح القواعد السعودية أهدافاً مشروعة للرد الصاروخي الإيراني، وهنا تتحقق المعادلة الجهنمية: السعودية تدفع الثمن، أمريكا تتنصل من المسؤولية، وإيران تُستنزف. في المشهد السياسي، يبدو الأمر وكأن التقارب السعودي الإيراني، الذي رعته الصين في اتفاق مارس 2023م، لم يكن إلا هدنة تكتيكية سمح بها الغرب مؤقتاً، قبل أن تبدأ واشنطن بتحريك أدواتها لعرقلة أي تقارب استراتيجي. تقارير استخباراتية غربية كشفت في يوليو الماضي عن ضغوط أمريكية شديدة على الدبلوماسيين الخليجيين لعدم الوثوق بطهران، واتهامات مبطنة للصين بمحاولة خلق محور خارج السيطرة الأمريكية. ما يحصل اليوم هو محاولة لضرب عصفورين بحجر: تصفية البرنامج النووي الإيراني، وضرب الطموح النووي السعودي في مهده، فواشنطن التي تمنع الرياض من التخصيب تحت ذرائع الانتشار، هي ذاتها التي غضت الطرف عن تقدم إيران في هذا المجال لعقدين، لماذا؟ لأن اللعب تحت الطاولة يتقن استراتيجية العصا والجزرة: دع إيران تقترب من القنبلة قليلاً، ثم أخفِ الاتفاق، ثم ارجع فاوضها، ثم لوّح بالحرب، وكل مرة تُبتز فيها دول الخليج. هذا النمط من الهندسة السياسية ليس بجديد، ففي حرب العراق 1980م، دعمت واشنطن صدام ضد طهران، ثم دمرت العراق بعد أن انتهت مهمته، واليوم، يتكرر المشهد: دفع الرياض لمواجهة إيران، ومن ثم التخلي عنها تحت عنوان: "أنتم من اخترتم التحالف". وكأننا بالمشهد الأوسع يكتمل لاسيما إذا ما فهمنا- بصورة أو بأخرى- أن مشروع "إسرائيل الكبرى" لم تكن يوماً مشروع خيال سياسي، وإنما سياسة موثقة بخطط صهيونية، تتضمن إخراج الدول المحيطة بفلسطين من المعادلة تدريجياً: العراق، تم تدميره؛ سوريا، تم إنهاكها؛ لبنان، محاصر؛ الأردن، مرتهن؛ مصر، مُحيدة؛ والآن تُستدرج السعودية. في هذا السياق، ما يجري من تحويل السعودية إلى منصة انطلاق محتملة لأي عمل عسكري ضد إيران، ليس إلا محاولة لصناعة عدو جديد بديل عن تل أبيب، وتفجير صراع سني-شيعي جديد يقضي على ما تبقى من روابط القوة بين الأمة، ويدفع شعوبها إلى الاقتتال بدلاً من التوحد حول القضية المركزية: فلسطين. إن نقل مركز الثقل العسكري الأمريكي إلى "ينبع" السعودية، بالقرب من منشآت أرامكو والموانئ الحساسة على البحر الأحمر، بحسب ما كشفت عنه صحيفة نيويورك تايمز، يؤكد أن الرؤية الاستراتيجية لم تعد مقتصرة على الخليج، بل تمتد إلى البحر الأحمر وباب المندب واليمن، وبالتالي، فالمسرح المقبل لن يكون إيرانياً سعودياً فقط، بل حرب إقليمية كبرى تُطبخ على نار هادئة، وقد تنفجر في لحظة خاطفة. اليوم، تقف السعودية على مفترق طرق خطير: إما أن تكون ساحة حرب، أو أن تتحول إلى فاعل سيادي مستقل يرفض التورط في مشاريع التدمير الأمريكية، وأمام هذا الواقع، لا بد من سؤال مصيري: هل سيُسمح للرياض أن تخرج من الصف وتبني مشروعها النووي المستقل، أم أن مشهد العقاب الجماعي سيتكرر كما حدث مع كل من تجرأ على الخروج من بيت الطاعة الأمريكي؟ الخلاصة، أن الأمة كلها أمام خيارين: إما أن تقرأ الخريطة كما هي، وتتوحد في وجه العدو الحقيقي، أو تواصل الانخداع بواجهة الصداقة الغربية التي لا تحمل إلا خناجر مخبأة خلف الابتسامات الدبلوماسية، وإن لم يتم كبح هذا السيناريو سريعاً، فإن أول من سيدفع الثمن لن يكون طهران أو تل أبيب، بل كل من حمل على أرضه قواعد أمريكية وظن أنها تحميه، بينما هي في الحقيقة تحوله إلى هدف حرب مقبلة باسم مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وما خفي أعظم.