موسكو، 16 مارس/كتب المعلق العسكري لوكالة نوفوستي الروسية فيكتور ليتوفكين التعليق التالي: في الثاني عشر من شهر مارس الحالي غادر أول 150 عسكريا من أفراد قوات دعم السلام الأوكرانية معسكرهم الواقع في ضواحي بلدة الصويرة العراقية التي تنتشر فيها كتيبة المشاة الآلية -72 الأوكرانية. وفي الخامس عشر من الشهر نفسه توجه أولئك العسكريون إلى مدينة نيقولايف في أوكرانيا. وسيبقى في العراق تحت قيادة الجنرالات البولنديين 1472 من العسكريين الأوكرانيين الذين يتعين عليهم أيضا حسب قرار مجلس الرادا (البرلمان الأوكراني) والرئيس فيكتور يوشينكو مغادرة أراضي هذا البلد قبل أواسط شهر أكتوبر القادم. وبهذا الشكل تكون أوكرانيا قد حذت حذو إسبانيا، والدومينيكان، وهولندا في الانسحاب من بلاد الرافدين. ويبدو أن كييف لن تتخلى عن قرار سحب القوات الأوكرانية من العراق والذي سيكلفها حوالي 11 مليون دولار. أما الولاياتالمتحدة التي ردت بعصبية في شهر ديسمبر 2004 على قرار الرئيس الأوكراني السابق ليونيد كوتشما بشأن سحب العسكريين الأوكرانيين من العراق فأنها تتظاهر هذه المرة بأن شيئا لن يحدث من جراء هذا الانسحاب. ويوجد لدى الولاياتالمتحدة ما يكفي من الحلفاء المستعدين لعمل كل شيء من أجل دعم البنتاغون في أي مكان على الكرة الأرضية، بما في ذلك على "مشواة" بغداد نفسها. فجورجيا مثلا قامت بمضاعفة أفراد قواتها المسلحة في العراق من 200 إلى 500 ضابط وجندي. ولا تنحصر المشكلة في هذا المجال بالطبع حيث سيتعين على القوات الأمريكية نفسها أن تترك هذا البلد المضطرب في يوم من الأيام. وسيكون الانسحاب الأمريكي في أسرع وقت ممكن، وليس كما يقال في وزارة الدفاع الأمريكية خلال 3-4 سنوات. ولم تنجح حسابات السياسيين والعسكريين الأمريكيين في غزو العراق، وتشكيل نظام موال لواشنطن فيه بشكل سريع. وقد جرى تطبيق القاعدة العسكرية القديمة التي تقول: "إن احتلال بلد ما لا يعني تحقيق النصر عليه". ولم يتمكن البيت الأبيض وحلفاؤه من تشكيل حكومة عراقية قادرة على إدارة شؤون البلاد، أو قوات جيش وشرطة تستطيع حفظ النظام والقانون. أما انتخابات الجمعية الوطنية التي أجريت في الثلاثين من شهر يناير الماضي فإنها لم تجلب السلام والهدوء إلى العراق، كما هو واضح. وأصبح من المستحيل إيقاف العمليات الإرهابية التي تجري كل يوم في شوارع المدن العراقية. كما لم يتم تجاوز الخلافات بين الشيعة والسنة، أو حل مسألة الأكراد. ولم تقدم أية مجموعة مالية من المشرق العربي على الاستثمار في اقتصاد العراق، وإحياء طاقاته الصناعية والنفطية. كما أن الشركات الأمريكية لم تتمكن إلى حد الآن من وضع أيديها بشكل كامل على الثروات الغنية لبلاد الرافدين. وفي الوقت نفسه تضع التفجيرات وأعمال التخريب المتكررة التي تستهدف أنابيب نقل النفط علامة استفهام كبيرة على الجدوى الاقتصادية للاستثمار في قطاع النفط العراقي. والمهم في كل هذا وذاك هو ازدياد الخسائر البشرية التي تمنى بها القوات الأمريكية في العراق من يوم إلى آخر. ففي الأول من شهر يناير 2004 أشارت الإحصائيات الرسمية إلى مصرع 463 عسكريا أمريكيا، وجرح 2687 آخرين، منهم 370 في حوادث متفرقة. أما في أوائل نوفمبر الماضي فقد بلغت خسائر القوات الأمريكية 1119 قتيلا، و8200 جريح. وتجاوز عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية في الوقت الحاضر 1500، بينما وصل عدد الجرحى إلى أكثر من 10 آلاف. وقد وجدت وزارة الدفاع الأمريكية نفسها مضطرة لزيادة المنحة المالية التي تقدمها لأسر الجنود والضباط الذين يقتلون في العراق وأفغانستان. وبهذا الشكل أصبح أقارب العسكريين الذين يعادون إلى الولاياتالمتحدة ملفوفين بالعلم الأمريكي، يحصلون على نصف مليون دولار وليس 250 ألفا كما كان في السابق. ومن الجدير بالذكر أن أعداد الشباب الأمريكي من قوات الاحتياط والمحترفين الراغبين بالتوجه إلى العراق للمشاركة في الحرب بدأت تتناقص من يوم إلى آخر. وقد وصل الأمر في الكونغرس ومجلس الشيوخ الأمريكيين إلى التطرق إلى مسألة العودة إلى التجنيد الإلزامي العام الذي ألغي في أواسط سبعينات القرن الماضي بعد انتهاء الحرب في فيتنام. وفي هذه الأثناء يحاول وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أن يثبت أن أفراد القوات الأمريكية في العراق (حوالي 150 ألف) يقومون بتأدية واجباتهم على أكمل وجه. ويرى أن حل المشاكل يمكن أن يتم من خلال تخصيص موارد مالية إضافية. ويتعين على الولاياتالمتحدة أن تخصص مبلغ 9ر81 مليار دولار لتغطية نفقات الحرب في العراق وأفغانستان في العام الحالي، ومن ثم 50 مليار دولار في المستقبل. وهذه المبالغ تقع خارج نطاق الميزانية العسكرية للولايات المتحدةالأمريكية والبالغة 419 مليار دولار. ومن الجدير بالذكر أن كل أسبوع يمر على القوات الأمريكية في العراق يكلف دافعي الضرائب في الولاياتالمتحدة مليار دولار. كما يقدر الخبراء الاقتصاديون الأمريكيون النفقات العامة للعملية العسكرية وما يعقبها من أعمال بناء في العراق بحوالي 280 مليار دولار. وبهذا الشكل تصبح الحرب على العراق أغلى عملية في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية على الرغم من أن المسألة لا تنحصر في الموارد المالية وحدها. وتتركز المشكلة في الوقت الحاضر على عدم قدرة الجيش الأمريكي على مغادرة العراق في المستقبل المنظور لأن انسحابه سيعني فشل السياسة التي تنتهجها الولاياتالمتحدة في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وتراجعا أمام الإرهاب الدولي الذي يرغب بأن يعترف الآخرون بأنه شن هجوما واسع النطاق على قوات التحالف في بلاد الرافدين بعد سقوط نظام صدام حسين. وسيكون من المستحيل الاستسلام أمام الإرهاب الدولي لأن ذلك سيمنح الإرهابيين على اختلاف أشكالهم قوة إضافية، ويساعدهم على ارتكاب جرائم أكبر وأوسع نطاقا. ومن الطبيعي أن لا تقف موسكو موقف اللامبالاة من الوضع الذي أوقعوا أنفسهم فيه السياسيون والعسكريون الأمريكيون. وأعتقد أن الكرملين مستعد بصدق لمساعدة شريكه الإستراتيجي "على الخروج من هذا المأزق مرفوع الرأس". وكان من الممكن تنظيم مؤتمر دولي حول الوضع في العراق تحضره جميع الأطراف المعنية، ويتم فيه تحقيق ولو إجماع مبدئي، وتطويره فيما بعد. وتستطيع موسكو تقديم الدعم والمساعدة لقوات الجيش والشرطة العراقية الجديدة ليس فقط بالأسلحة، بل وفي مجال إعداد الكوادر والمختصين. وأعلنت موسكو استعدادها للمساعدة في تدريب وإعداد الكوادر ليس في منطقة الشرق الأوسط بالطبع، بل في المناطق الروسية التي يجري فيها لأعوام متتالية تنظيم دورات تدريب لمراقبي وأفراد بعثات دعم السلام ورجال الشرطة للأمم المتحدة... وأرى أن هناك أمر مهم يستطيع إعاقة موسكو عن تقديم الدعم والمساعدة في هذا المجال. ويرى خبراء عسكريون مستقلون أن العمليتين العسكريتين للولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، ومحاولاتها المتكررة والملحة للتسلل إلى جورجيا وأذربيجان ما هي إلا جزء من حملة إستراتيجية واسعة النطاق لواشنطن في الشرق الأوسط يقع هدفها النهائي في إيران. لقد وضع السياسيون والعسكريون الأمريكيون نصب أعينهم مهمة حقيقية وطويلة الأمد تتمثل في الإحاطة بإيران من جميع الجهات، والضغط عليها من الجو، ومن الخليج، ومحاصرتها بحاملات الطائرات، وطائرات "أواكس" وتهديدها بصواريخ "توماهوك"، والانتقام منها على الإهانة التي وجهتها لواشنطن في عام 1979 عندما قام 80 طالبا إيرانيا باحتجاز 52 دبلوماسيا أمريكيا لمدة 444 يوما في سفارة الولاياتالمتحدة في طهران، ولمعارضة إيران للمصالح النفطية الأمريكية، ومجابهة سياستها في منطقة الشرق الأوسط. ولن تستطيع موسكو أن تؤيد واشنطن في سياستها تلك في أي حال من الأحوال لأن إيران جار قريب لروسيا، وشريك اقتصادي مضمون لا يهدد أحدا، ولا يدعم أية قوى إرهابية، رغم كل الادعاءات الأمريكية، بل على العكس تقوم إيران بمحاربة الإرهابيين. كما أن موقف طهران من مشكلة أفغانستان التي حكمها في ذلك الوقت رجال طالبان وتنظيم "القاعدة" معروف للعالم. وبهذا الشكل يبدو الحديث حول تقديم مساعدة متعددة الجوانب للولايات المتحدة من قبل روسيا والدول الأوروبية الأخرى سابقا لأوانه إذا لم تقدم واشنطن على تعديل موقفها تجاه طهران.