بددت الحملات الانتخابية في جبل لبنان التي تميزت في اليومين الاخيرين بحدة بالغة لم تعرفهما اي انتخابات من قبل، كل اعتقاد انها محصورة بالصراع على مقاعد انتخابية فقط. ورسخت معطيات تملكها اوساط عدة ان ما يجري لن يقف عند حدود. اعلان النتائج سيتعداه الى فترة طويلة من المرحلة المقبلة. وتوضح هذه الاوساط ان شبح معركة رئاسة الجمهورية يظلل المعركة الانتخابية الدائرة في المناطق المسيحية تحديداً. وهو امر لم يعد خافياً، وخصوصاً ان ثمة سيناريوات مختلفة لترتيب الوضع اللبناني في مرحلة ما بعد الانتخابات بدءا من تأليف حكومة منبثقة من الغالبية الجديدة التي تضم تحالف القوى المعارضة، ووضع منهج لاستكمال ما تطالب به هذه الغالبية من تصفية بقايا النظام الامني. وهو الامر الذي بات يحتل الاولوية المطلقة في ضوء مسلسل الاغتيالات. وقد بات لهذا المطلب غطاء دولي جديد بتأكيد الامين العام للامم المتحدة كوفي انان الاتجاه الى اعادة فريق التثبت من الانسحاب السوري العسكري والمخابراتي من لبنان في ضوء المعطيات التي توافرت لدى المنظمة الدولية عن بقاء عناصر امنية سورية في لبنان. كما ان هذا الغطاء تعزز بتوجيه الرئيس الاميركي جورج بوش تحذيراً الى سوريا واعلان الادارة الاميركية امتلاكها معطيات عن قائمة اغتيالات سياسية لاركان في المعارضة اللبنانية اتهمت سوريا بالعمل عليها. وهذا المعطى الجديد لم يأخذ مداه كاملا بعد على المستوى السياسي الداخلي نظراً الى انشغال المتنافسين في الانتخابات بعناوين محلية وسط التنافس المحموم، في حين ان هذا الامر، اي الوضع الامني والاغتيالات، سيؤدي بعد انتخابات جبل لبنان تحديداً الى دفع الخطاب السياسي الداخلي الى مكان آخر، عنوانه الهجوم المضاد على الاغتيالات، واقامة سلطة جديدة قوية ومتماسكة مما يعني حتماً فتح معركة رئاسة الجمهورية. وسط هذه المعطيات المعقّدة، لم يكن غريباً ان تنشأ حال من الاحباط الشديد لدى اوساط محايدة، وهي ترى المناطق المسيحية بنوع خاص تتخبط في صراعات انتخابية مفرطة في انفعالها، وكأن الصراع بين العماد ميشال عون واركان "لقاء قرنة شهوان" بنوع خاص هو باب الديموقراطية الوحيد المفتوح في لبنان. وقد ادت الحملات الاعلامية التي انفجرت على نطاق واسع في اليومين الاخيرين الى اثارة تساؤلات عميقة عن المصير الذي سيؤول اليه الوضع المسيحي من الزاوية السياسية والثقل في الشراكة مع سائر الافرقاء والطوائف، وكيف يمكن هذه المناطق ان تتفاعل مع تقرير مصير السلطة المقبلة اذا خرجت من الانتخابات مثخنة بالجروح على ما حصل تماماً بعد اتفاق الطائف. ويقول سياسي مسيحي محايد ومتمرس ان اكثر ما يخشاه هو ان تتكرر تجربة الطائف بحيث يدخل المسيحيون غداة حروب تصفية بعضهم بعض مجلس النواب مشرذمين ومثقلين بالعداوات، فلا يعود لهم تأثير حقيقي، في حين ان سائر القوى والطوائف الاخرى تكيفت مع الواقع الذي نشأ بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعادت الى المجلس الجديد بقواها كاملة وبعضها عاد بقوة مضاعفة. وهو يرى انه كان في الامكان ترتيب تسوية بالحد الادنى بين العماد عون و"لقاء قرنة شهوان" من دون الوصول الى ما وصلت اليه الصراعات الحالية في اقل من ثلاثة اسابيع. وكأن هذه القوى سقطت في منزلق سببه الاول والاخير الصراع على الاحجام والزعامات والحصص مما اطلع كل المفاهيم المبدئية التي ينادي بها هؤلاء من جهة، وكشف الخاصرة المسيحية الرخوة بإزاء الآخرين من جهة اخرى. ويخشى ان ينجم عن هذه الحالة وضع هو اشبه بالاشمئزاز الشامل لدى المسيحيين ولو كان معظمهم اليوم ينخرط في الفرز الانتخابي الحاد الذي لا بد ان يبرد حين تطرح العناوين الكبرى للمصير السياسي غداة الانتخابات. فأبعد من الغرائز الانتخابية المتفجرة والمتفاقمة على اقل من عشرين مقعداً انتخابياً في النهاية، لم يبلغ الوضع اللبناني حداً يسمح بترف استعارة بعض وجوه الحملات الانتخابية في الغرب التي تبيح مبدأ الغاية تبرر الوسيلة أياً تكن هذه الوسيلة، لأن التمادي في هذا الاسلوب وسط المعطيات اللبنانية القائمة حوّل المعركة في جبل لبنان حرب تصفيات لا هوادة فيها على طريقة "يا قاتل يا مقتول". فموضوع الفساد مثلا يطرح بكثير من التناقضات المتفجرة بدليل ان اركان "لقاء قرنة شهوان" يتعرضون لحملة شعواء من العماد عون اكثر من سائر الاطراف الذين كانوا في السلطة، علما، ان هذا الموضوع يمس حقبة طويلة من اقصى الجنوب الى اقصى اقصى الشمال. في حين لا يجد تفاعلاته السياسية الا في بقعة جبل لبنان، وفي حين يتحالف عون مع شخصيات متهمة بهذا الموضوع. انها باختصار معركة تجتذب الآخرين الى التفرج ربما بشماتة او بحسابات باردة على تصفيات ساخنة لم تشكل سوى مفاجأة سيئة أياً تكن نتائجها الانتخابية، وخصوصاً انها تأتي عقب انسحاب سوري طالما انتظره اللبنانيون وجمهور المعارضة المسيحية في شكل خاص. فاذا بهذه الانتخابات تفسد عليهم ما ستستفيد منه الآخرون. "النهار"