منذ أشهر، تتردد على ألسنة المسؤولين والدوائر الاقتصادية في عدن كلمات مثل "التعافي التدريجي"، و"ضبط الإنفاق"، و"خطة إنقاذ اقتصادي"، إلا أن الواقع الذي يعيشه المواطن في الجنوب العربي وتحديدًا في عدن، الضالع، أبين، شبوة، وحضرموت، يكذب كل هذه الوعود. فالأسعار تواصل صعودها الجنوني، وسعر صرف الريال اليمني أمام الدولار يهوي بلا كوابح، في وقت تتكاثر فيه التصريحات وتقل فيه الحلول. في خضم هذا المشهد المتأزم، تظهر التساؤلات حول ما إذا كان هناك بالفعل "سر للتعافي"، أم أن ما يُروّج ليس إلا وهمًا مغلفًا بلغة اقتصادية منمقة، لذر الرماد في العيون وامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد. فحتى اللحظة، لم يشهد الشارع الجنوبي أي تحسن ملموس في حياة الناس اليومية. الدولار، في السوق المحلية، تجاوز حاجز 1800 ريال في بعض المناطق، وسط غياب أي تدخل فعلي من البنك المركزي أو الحكومة، التي يبدو أن همّها الأكبر هو البقاء السياسي، لا تحسين حياة الناس.
أما المجلس الرئاسي، برئاسة رشاد العليمي، فقد أصبح أشبه بمجلس ديكوري عاجز عن اتخاذ قرارات سيادية حاسمة، أو حتى الظهور بمظهر المتماسك. فالمجلس، الذي تأسس على أمل أن يضبط الفوضى السياسية والعسكرية، أصبح اليوم جزءًا من حالة الجمود، وربما المعضلة نفسها. العليمي، الذي كان يُراهن عليه كوجه مدني قادر على كبح جماح مراكز القوى، أصبح متهمًا بالتواطؤ مع منظومة الفساد، أو في أقل الأحوال، بالصمت على انهيار المؤسسات.
الجوع لم يعد حالة ظرفية عابرة، بل بات سمة من سمات الحياة اليومية. المواطن الجنوبي صار محاصرًا بين أسعار تقصم الظهر، وأجور لا تكاد تكفي لأيام معدودة، واحتكار تجاري خنق السوق، وسط صمت الجهات الرسمية التي تبدو وكأنها تخوض معركة باردة ضد شعبها. في الأسواق، بات الناس يسألون عن بدائل لأبسط ضروريات الحياة، والعديد من الأسر تتخلى عن اللحوم، والخضروات، وحتى الخبز في بعض الأحيان.
المؤشرات جميعها تنذر بانفجار شعبي محتمل، فحالة الغليان لا تحتاج إلا إلى شرارة. لم تعد الاحتجاجات بعيدة، ولا الشعارات المطلبية محصورة في نقابات أو ناشطين على وسائل التواصل. الناس بدأت تفكر بصوت عالٍ في "الخروج الكبير"، في "الغضب المشروع"، في "سقوط الأقنعة". ومثلما سقطت عروش في مراحل سابقة من تاريخ اليمن بفعل الفقر والفساد، فإن مؤشرات مشابهة اليوم تتراكم بصمت.
التغيير في تركيبة المجلس الرئاسي لم يعد ترفًا سياسيًا أو مطلبًا نخبويًا، بل ضرورة شعبية ملحة. هناك أصوات تتحدث علنًا عن ضرورة استبدال العليمي، وربما حل المجلس الرئاسي بالكامل، وتشكيل مجلس إنقاذ وطني جنوبي مستقل، أو مجلس عسكري مدني قادر على إدارة المرحلة بما يناسب حجم التحديات. هذه الرؤية، وإن بدت راديكالية للبعض، تعكس عمق فقدان الثقة في الطبقة السياسية الحالية.
الرهان الوحيد الذي لا يزال قائمًا هو وعي الشارع، وقراره بتحويل هذا الغضب المشروع إلى فعل سياسي منظم، يفرض التغيير من الأسفل لا من فوق. فالمعادلة القديمة القائمة على تقسيم السلطة، ونهب الموارد، وتقديم المبررات، لم تعد قابلة للحياة. الجنوب، الذي قدّم آلاف التضحيات على أمل استعادة دولته، يجد نفسه اليوم غارقًا في دولة بدون روح، ومجلس بدون إرادة.
هل نحن أمام بداية نهاية التركيبة الحالية للسلطة؟ هل سيشهد الجنوب موجة غضب تعيد ترتيب المشهد؟ هل تتبلور قيادة بديلة تستجيب لطموحات الناس بدلًا من الاكتفاء بإدارة الأزمات؟ كلها أسئلة ستجيب عنها الأيام المقبلة، لكن المؤكد أن زمن الصمت قد ولى، وأن الجنوب مقبل على مفترق طرق لن يكون سهلًا ولا تقليديًا.