عندما يخطئ القيادي النزيه، تكون الاستقالة خياره الطبيعي حفاظًا على سمعته ومبادئه، أما الفاسد فيبحث عن مظلة تحميه من العزل والمحاسبة. هكذا عوّدتنا التجارب، وهكذا تكشف الوقائع يومًا بعد يوم زيف الشعارات التي تتغنى بها بعض القيادات. لقد بات واضحًا أن هذه المنظومة لا تقبل في صفوفها رجل دولة حقيقيًا أو مسؤولًا نزيهًا؛ فوجود أمثال هؤلاء يفضح عورات الفساد، ويهدد بإسقاط المشروع التدميري الذي ينهش الوطن والمواطن.
ولنا في الماضي القريب شواهد حيّة: ملفات فساد بمليارات الريالات كشفها الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة بحق إحدى القيادات في كبرى الشركات النفطية المحلية، انتهت بحماية المتهمين ومنحهم حصانة من المساءلة، فقط لأنهم عرفوا كيف يشترون رضا "القائد" وحاشيته. وكذلك قضية أراضي الدولة بعدن، حيث جرى تعطيل قرارات قضائية، والإبقاء على مسؤول متورط في تجاوزات خطيرة، لأنه قدّم المقابل المطلوب، بينما ضاعت أراضي الدولة.
اليوم، تتجلى الصورة بشكل أوضح مع استقالة القيادي الجنوبي الشاب سالم ثابت العولقي من منصبه رئيسًا للهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني. استقالة جاءت هادئة في صياغتها، لكنها مدوية في مضمونها؛ فقد أكد العولقي أنه حاول تنفيذ إصلاحات مؤسسية وقانونية ومالية، والعمل على استعادة أراضي الدولة، وحصر التعديات، ومعالجة الاستثمارات المتعثرة. لكن التدخلات في صلاحياته القانونية وعرقلة مسار الإصلاح دفعت به إلى تقديم استقالته.
الرسالة هنا أبعد من مجرد مغادرة منصب؛ إنها صفعة في وجه منظومة لا تسمح إلا بوجود الفاسدين والمتواطئين تحت عباءتها. فالمناصب، كما يبدو، تُدار وفق قاعدة: "من يتعاون معنا ويبقى بعيدًا عن كشف الملفات، يبقى محميًا، ومن يحاول الإصلاح يُقصى."
استقالة العولقي لم تسمّ الجهة الضاغطة، لكن الجميع يعرفها. إنها شهادة جديدة على أن مشروع هذه القيادات لا يحمل للوطن سوى المزيد من الخراب، وأن كل محاولات الإصلاح ستظل محاصرة ما دام الفساد هو الحاكم الفعلي.
إن استقالة سالم ثابت العولقي ليست مجرد إجراء إداري، بل وثيقة إدانة صريحة تكشف عورة الفساد المستشري، وتفضح كذب الشعارات التي يخدعون بها الناس. وعلى الشعب أن يدرك أن المعركة الحقيقية ليست بين أحزاب أو تيارات، بل بين مشروع دولة يسعى للإصلاح، ومشروع عصابة لا تعيش إلا على النهب والخراب. والتاريخ لا يرحم، ومن يقف مع الفساد اليوم سيجد نفسه غدًا في قفص الاتهام أمام الشعب قبل أن يكون أمام القضاء.