بعد قراءة دقيقة لخطة السلام في غزة، كمدخل للسلام في الشرق الأوسط، نقول للحكام العرب "احفظوا رؤوسكم... إنه دونالد ترامب" الذي لا تعرف ما إذا كان صهره جاريد كوشنر (زوج إيفانكا) هو الذي يتجول في رأسه أم الشيطان. رئيس للولايات المتحدة لم يكن يوماً رجل القيم الذي يعنيه الآخر، لكأنه مثل غولدا مئير خرج للتو من مؤخرة يهوذا، وهو الذي يستظل بأفكار كل منظري اليمين الأميركي، وقد رأوا في العرب ما رآه أحدهم ليو شتراوس غداة حرب حزيران 1967، "الحثالة القبلية التي لا تلبث أن تتقيأها الأزمنة...". أين الفلسطينيون في الخطة؟ هؤلاء هم فلسطين، وهؤلاء هم القضية التي حملت وزير الخارجية الفرنسي السابق أوبير فيدرين على القول: "مثلما رأى اليهود في المحرقة التي حدثت لهم في أوشفيتز العامل الأساسي في قيام الدولة الإسرائيلية، يرى الفلسطينيون في المحرقة التي حدثت لهم في غزة، والتي فاقت بهمجيتها أي محرقة أخرى في التاريخ، العامل الأساسي في قيام الدولة الفلسطينية".
قرأنا البنود العشرين للخطة. البند الأخير نص على ما يلي: "ستطلق الولاياتالمتحدة حواراً بين إسرائيل والفلسطينيين للاتفاق على أفق سياسي لتعايش سلمي ومزدهر". كم سمعنا مثل هذا الكلام منذ الإعداد لاتفاق "وادي عربة" في 26 تشرين الأول 1994، متاهة لغوية، وتبقى القضية في الدوامة الدبلوماسية. ولكن لنفاجأ بقول موقع "أكسيوس" إن بنيامين نتنياهو أدخل تعديلات جوهرية على الخطة، بعدما صيغت أميركياً وإسرائيلياً، باطلاع بعض الحكام العرب.
بديهي أن نرى في الخطة محاولة لاستيعاب الزلزال الذي يمكن أن يحدثه طوفان الدم في غزة، دون أن تكون بعيدة عن المشروع الخاص بتغيير الشرق الأوسط، وبالشراكة بين واشنطن وتل أبيب. ترامب لا يأبه بتحذيرات دبلوماسي مخضرم مثل ريتشارد هاس، وهو يهودي، والذي توجه إلى الرئيس الأميركي بالقول: "إذا كنت تريد أن تغادر البيت الأبيض على عكاز خشبي، ابق على خطى بنيامين نتنياهو في دفعك إلى الوحول الأبوكاليبتية في الشرق الأوسط".
هذا هو دونالد ترامب الذي لا يعنيه رأس أي حاكم عربي، باعتبار أن ما من دولة عربية قادرة على الاطلاع بأي دور عسكري بأبعاد جيواستراتيجية لحساب أميركا. البلدان العربية تعرضت للكثير من الهزات، على أنواعها. دائماً الاستعانة بالولاياتالمتحدة التي غالباً ما تكون هي وراء اصطناع تلك الهزات للإبقاء على استنزافها المنهجي لثروات العرب...
لاحظنا مدى الحرارة التي تعامل بها الرئيس الأميركي أخيراً مع نظيره التركي رجب أردوغان، وبعدما بات جلياً الدور الذي اطلعت به أنقرة من أجل شق الطريق بين دمشق وأورشليم، مقابل إشراكها في المسار الخاص بتغيير خرائط الشرق الأوسط. سوريا المنهكة والمشتتة أمام الاستسلام، لا السلام، حين تكاد تظهر دبابات إيال زامير في شارع المزة في دمشق، وبعدما كان أردوغان قد لاحظ أن مشروع "إسرائيل الكبرى" يلحظ اقتطاع أجزاء من بلاده.
لكن كلام نتنياهو، وقد أضيف إليه كلام السفير الأميركي مايكل هاكابي، لا يترك مجالاً للشك أن التغيير سيكون وفق الرؤية التوراتية، وكنا قد لاحظنا حساسية بعض العبارات التي صدرت عن ترامب والتي تشي بأنه يفكر كقائد بعث به الله لإنقاذ المسيحيين واليهود، ليفاجأ بأن عشرات ملايين المسيحيين في أصقاع الدنيا، وحتى في الداخل الأميركي، يرون في نتنياهو الفوهرر الذي يقود الكرة الأرضية إلى النهاية.
كل ما فعله أردوغان لاستخدام سوريا، وهي بوابة الشرق الأوسط، في عقد صفقة جيوستراتيجية يمتد مفعولها إلى حدود الصين، لم يجد صدى لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي يدرك جيداً أن حركة التاريخ غالباً ما تشبه حركة الثعبان. تالياً لا إمبراطورية فارسية ولا سلطنة عثمانية في الشرق الأوسط، خصوصاً وأن طهرانوأنقرة تعملان بديناميكية استثنائية للولوج في الزمن التكنولوجي، وحتى في الزمن النووي.
رأينا كيف أن اللوبي اليهودي ضغط على شركة "لوكهيد مارتن"، قطب الصناعات الجوية في الولاياتالمتحدة، لتطلب من الكونغرس وقف تزويد تركيا بمحركات F110 اللازمة للطائرة الشبح من الجيل الخامس "Kaan" (الكلمة التركية التي تعني "ملك الملوك"). هذه ضربة صاعقة لأردوغان الذي يعتبر أن إنتاج هذه الطائرة يؤدي إلى إرساء نوع من التوازن في القوى، ما يمكنه من بعث الحياة في مشروعه الذي ولد ميتاً، والرامي إلى إحياء السلطنة العثمانية...
لكن الصحافي التركي يرى أن لا مجال للتوازن ما دامت القنبلة النووية حكراً على الدولة العبرية، ودائماً بتغطية أميركية، لتبقى اللعبة التركية على هامش التطورات. ها هي طائرات تزويد الوقود تحط في قاعدة "العديد" في قطر. من أجل ماذا...؟ الحيلولة دون آيات الله ومحاولة إعاقة مسار السلام الأميركي - الإسرائيلي في المنطقة، أم من أجل إزالة آخر عائق دون الامساك المطلق بمنطقة وصفها برنارد لويس "العربة العتيقة التي تجرها آلهة مجنونة".
فات الحكام العرب الذين لا يعرفون إلى أين تتجه دولهم، وإلى أين عروشهم، إقامة أقواس النصر احتفاء بخطة دونالد ترامب للسلام في غزة، والتي تفتح الطريق أمام "السلام" في سائر أنحاء المنطقة. متاهة دبلوماسية ولغوية أخرى لإبقاء العرب في الثلاجة. لا مسافة بين الثلاجة والمقبرة...