أثار البيان الذي أعلنته جماعة التغيير في إقليم كردستان تساؤلات كثيرة ربما في مقدمتها هل ستأخذ كردستان تسلسلا في قائمة الدول التي تتعرض لانتفاضات شعبية مصحوبة بالفوضى والتخريب، متناسية ان الوضع في كردستان لم يكن حصيلة انقلاب عسكري او استحواذ على السلطات، بل ان الإقليم كيان فيدرالي يتمتع بنظام حكم ديمقراطي منتخب بشكل مباشر وحر من قبل الأهالي المؤيدين والمعارضين، وربما هناك الكثير من تلك التساؤلات ولكن يبقى السؤال الأهم لماذا هذا البيان وما الغاية منه في مثل هذه الظروف، خصوصا اذا ما علمنا ان السلطات الثلاث لم تأت بانقلاب عسكري أو تسلط انفرادي دونما دور للآخرين ومن ضمنهم أصحاب البيان الذين شاركوا بشكل فعال في كل الأحداث منذ أولى ساعات الانتفاضة في ربيع 1991م وحتى يومنا هذه سواء كانت تلك الأحداث مما يعتز ويفتخر بها المواطن او يأسف لها ويخجل من ذكراها!؟ وبعيدا عن التاريخ والجغرافيا وكيف ومتى واين، وصولا إلى الحال بعد سنوات طوال في أول ربيع 1991م حينما بدأ الزمن يسجل ولادة كيان وملاذ للسلم والأمان، تعبقه إرادة السكان ومن يمثلهم بعيدا عن السطوة والتسلط والنفوذ، حيث اختار الثوار والأهالي معا قانون الديمقراطية وقبول الآخر لحياة جديدة في الإقليم، ومن أجل ذلك كانت أول انتخابات حرة شفافة على هذا الجزء من دولة العراق بعيدا عن الدكتاتورية والاستبداد وذلك منتصف عام 1992م، ومنها انبثق أول برلمان كردستاني مثلت فيه جميع طوائف وفعاليات ومكونات الإقليم كل حسب استحقاقه الانتخابي بشهادة دولية معروفة آنذاك، لتنطلق أول حكومة كردستانية يمنحها البرلمان ثقته لتقود الإقليم إلى آفاق التقدم والازدهار. لم تكن التجربة سهلة خصوصا اذا ما علمنا الإرث الثقيل من تراكم التخلف في كل مناحي الحياة في المدن والأرياف، بعد ان حطمت الحروب طيلة عقود من الزمان البنية التحتية للمنطقة تماما، فقد كانت المنطقة محاصرة بشكل مزدوج من قبل الأممالمتحدة والنظام العراقي بعد غزو الكويت، وتعرضت إلى ضغوط هائلة من مختلف دول الجوار حتى أدت إلى نشوب الحرب الأهلية التي كادت ان تدمر البلاد برمتها، لولا نداء العقل والروح الوطنية لدى كل المتخاصمين الذين أيقنوا ان مركبهم ان غرق فأنهم سيغرقون جميعا دون استثناء، ففي كل هذه الأحداث صغيرها وكبيرها كانت كل الأطراف تشترك كل حسب حجمه وتأثيره سلبا او إيجابا بما فيهم أصحاب البيان الذي يدعو الى استقالة الحكومة والبرلمان الذي يتمتعون فيه بعدد غير قليل من الكراسي المؤثرة. لقد نجحت كل الأحزاب والحركات السياسية في انجاز السلام الاجتماعي والأمن الداخلي من خلال توافقها ونضالها ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، وهيأت نفسها وإقليمها للدخول إلى حقبة ما بعد صدام حسين، وقيام الدولة العراقية الاتحادية الديمقراطية التعددية، لتساهم بشكل جدي ومؤثر في حياة العراق السياسية والاقتصادية الذي أبعدت عنه لعقود طويلة، ولكي تنجح في توحيد الإدارتين في إدارة واحدة اندمجت فيها وما زالت تندمج كل المؤسسات والوزارات وخاصة المؤسسة العسكرية والأمنية. واليوم وبعد أن أفرزت الانتخابات الأخيرة في الإقليم هذا البرلمان الذي تستحوذ فيه المعارضة التي تتبلور الآن، على أكثر من ثلث المقاعد بما فيهم جماعة التغيير التي حققت بفضل نجاح التجربة الديمقراطية انتصارات مهمة جدا في الانتخابات التي وصفها المراقبون الدوليون بأنها واحدة من الانتخابات النظيفة ضمن قياسات دولية وأوربية متداولة، وهي بالتالي أي هذه الجماعة وغيرها من الفعاليات الكردستانية اشتركت وساهمت في كل عمليات النجاح والتقدم التي حصلت في الإقليم وفي ذات الوقت لها حصتها ايضا من التلكؤ والأخطاء والفساد والإفساد اينما كان ومهما كان وحسب حجمها وتأثيرها. ان مؤسسات الاقليم كما قلت ويعرف الجميع لم تأت بانقلاب كولينيالي او بأجندة اجنبية، بل جاءت نتيجة مخاض جماهيري في عملية تحول من شرعية الثورة الى الشرعية القانونية والدستورية اشتركت فيها كل الأحزاب والحركات الوطنية الكردستانية، وساهمت بكل ما جرى من إحداث وتطورات منذ انتفاضة الربيع عام 1991م ولحد يومنا هذا، سواء ما كان منها ايجابيا او سلبيا، وليس هناك عنصر واحد من خطوط المسئولين المتقدمين في الدولة اعتبارا من رئيس الإقليم ونزولا الى رؤساء الوحدات الإدارية والحزبية لم يمتد تاريخه النضالي إلى سنوات طويلة في القتال من اجل حرية ومستقبل كردستان، كما انه لا احد ينكر وجود فساد في المال والإدارة، ولا احد يتعالى على نقاط الخلل والأخطاء او ينكرها هنا وهناك، ويكذب من يدعي ايضا إننا واحة سويسرية او أوربية كما يحاول بعض المتفائلين جدا ان يخلطوا بين الحلم والحقيقة، كما انه ليس هناك عاقل يستطيع ان يقول اننا انجزنا شعار الإنسان المناسب في المكان المناسب، او يدعي بعدم شيوع المنسوبية والمحسوبية والعشائرية في نظامنا الاجتماعي والسياسي، او أن نظامنا الإداري او المالي او الاقتصادي او حتى الاجتماعي خال من عيوب كثيرة ربما تصل في بعضها إلى الجرم الخارق للقانون؟ لكننا في ذات الوقت أنجزنا انتخابات عامة تميزت بالايجابية والشفافية العالية حسب توصيفها من قبل معظم المراقبين الدوليين، وأولهم الهيئة المستقلة للانتخابات العراقية وممثلي الاتحاد الأوربي والأممالمتحدة والجامعة العربية، رغم ما حصل من خروقات هنا وهناك، إلا أنها كانت في حدود قياساتها الدولية في افضل بلدان العالم ديمقراطية، هذه الانتخابات أنتجت برلمانا شرعيا ضم لأول مرة إعداد ليست قليلة ومهمة جدا من المعارضين للحزبين الرئيسيين، ومن ثم أنجزت كابينة حكومية نالت ثقة غالبية أعضاء البرلمان واعترض عليها من اعترض ايضا، وفي نفس السياق تم انتخاب رئيس الإقليم من عدة مرشحين ونال السيد بارزاني ما يقرب من 70% من أصوات الناخبين، لقد أنجزنا جميعا خلال عقد من الزمان فقط ما لم تنجزه الدولة العراقية منذ تأسيسها في أوائل القرن الماضي وحتى سقوطها في نيسان 2003م من مشاريع وطرق وجامعات ومدارس وأعمار مدن وقرى وتحديث للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. اذن مؤسسات إقليم كردستان لم تكن مصنوعة في دهاليز الحزب الواحد او ان رئيسها قاد انقلاب عسكري ليأتي الى قصر الرئاسة، وكذا حال حكومتها وكثير من المؤسسات الأخرى، فهي نتاج شرعية قانونية فرضتها نتائج الانتخابات العامة الأخيرة وهي بالتالي اتفاق بين كل الكتل والأحزاب والمكونات ومن ثم فهي تعكس اختيارات الأهالي في الاستفتاء الأخير، ولذلك لا اعتقد ان هناك أي فرصة لنجاح تمرد خارج عن القانون والدستور، فشعب كردستان يدرك جيدا إن كل ما موجود في الإقليم من برلمان وحكومة وقضاء وصحافة وإعلام وأجهزة أمنية وعسكرية إنما جاءت وليدة نضال دؤوب اشتركت وساهمت فيه كل القوى العاملة اليوم دون استثناء وكل حسب حجمه وقوته من اجل ذات الهدف التاريخي الوطني والقومي، ومن ثم فهي وليدة تجربة ديمقراطية امتدت منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، وتمثل عصارة نضال هذا الشعب طيلة تاريخه المعاصر، في كل أجزاء الوطن وتمثل بحق أمل الشعب الكردستاني برمته، انها ليست ملك فرد ما او حزب بعينه او طبقة محددة بل هو ملك كل الأمة شبابا وشيبا نساءً ورجالا، وان كان هناك إخفاق ما او نجاح معين أو رأي مختلف فقراءته وتقييمه إنما يكون تحت قبة البرلمان وعلى سلم القانون والدستور، وكل هذه المؤسسات هي المرجع والمحك وغيرها يرفضه الشارع ويعتبره خروجا عن الشرعية وانتهاكا لتقاليد النضال المشترك من اجل ذات الأهداف المقدسة. كردستان وليدة شرعية ديمقراطية، ومؤسساتها الرئاسية والبرلمانية والحكومية بكل أشكالها نتاج تجربة دستورية وقانونية اشتركت فيها كل الأطراف المؤيدة والمعارضة، وهي تمثل عصارة نضال أجيال من الفلاحين والعمال وكل طبقات المجتمع ومكوناته العرقية والدينية والمذهبية، وهي بالتالي حلم الملايين من أبناء هذا الشعب عبر التاريخ وحري على الجميع احترام هذا الانجاز والاعتزاز به والعمل من اجل تطويره وتقليل مساحة الخلل والفساد من خلال الآليات المعمول بها في كل الديمقراطيات الحقيقية في العالم للوصول إلى الهدف المرتجى لدى كل القوى بما فيها المعارضة التي تبلور واقعا جديدا نفتخر به جميعا لو نجحت في انجاز معارضة وطنية تخدم وتعمل من اجل المصالح العليا لشعب إقليم كردستان ومنجزاته التاريخية. [email protected]