تحتل اللغات أهمية كبيرة لدى الأمم والشعوب على مر العصور والأزمنة ، فهي وسيلة التواصل والتفاههم بين الأفراد والجماعات والأمم. والتخاطب سمة ضرورية لا غنى عنها لدى الإنسان والحيوان على السواء. كما أن اللغة تعد من أعلى رموز الهوية وأسماها، ومن أهم دعائم ومقومات التجانس والتلاحم عند الشعوب والقوميات ، لذا أوليت عناية بالغة على مر الأزمان. ومن أبرز مظاهر هذه العناية الاهتمام بتعليمها بدءً من الأبوين مروراً بالمدرسة وحتى الجامعة . وما لجوء الشعوب إلى فكرة الموسوعات المعجمية إلا حفاظاً على لغاتها من الاندثار وتسهيلاً لمعرفة الكلمات العصية . ولغتنا العربية ،لا يستطيع الوصف أن يفي بما حضيت به من قبل أبنائها وعلمائها المخلصين ، ولم تقف جهودهم عند جمع كلماتها واستقصائها في المعاجم الضخمة ، بل عُنوا كثيراً بالبحث في تاريخها واشتقاقها وتصريفها وآدابها وبلاغتها ، والغوص فيها لإظهار جمالياتها ، وكذا الإعراب وقواعدالإملاء والكتابة . وقد ظهرت نتيجة لذلك كتب جمة في مختلف فروع اللغة العربية ، ككتب الأدب والبلاغة والنحو والصرف وغيرها . وفوق ذلك كله العناية الإلهية والتكريم الرباني لها حيث أنزل بها القرآن الكريم وما أضفى عيها من قدسية ؛ جعلتها في جملة علوم الدين الإسلامي ، بل وبوابتها. ولقد ظلت اللغة العربية لغة التخاطب والكتابة على المستويين الرسمي والشعبي إلى أن طغت اللهجات العامية في القرون المتأخرة ، واكتسحت معظم الألفاظ والأساليب الفصحى ، ولم يصمد أمامها من هذه الكلمات والتراكيب الفصحى إلا القليل ، وهي في طريقها نحو الموت والاندثار ؛ إن لم تتخذ المعالجات الجادة لإيقاف هذة الظاهرة المخيفة ؛ وذلك باليقظة العربية الشاملة من قبل الحكومات ، ومؤسسات المجتمع المدني ، ومراكز البحوث ، والمؤوسسات التربوية والإعلامية ؛ للبحث عن الحلول والمعالجات لإنقاذ لغتنا العربية من هذا الخطر الذي دق ناقوسة بقوة ، وخاصة في واقعنا اليوم ليغرس آخر مسمار في نعش لغتنا وهويتنا وأساس وحدتنا وحاضنة ديننا وتراثنا وتاريخنا. كما يتحتم علينا في ظل موجات العولمة العاتية أن نحصن لغتنا من المفردات الدخيلة المستوردة ، والمصطلحات الأجنبية التي تتسلل إلى لغتنا يومياً وتغزوها في عقر دارها، ونعمل على الأخذ بأيدي الشباب العربي المنبهر بحظارة الغرب وثقافته ولغته ، وإعادتهم إلى أحضان لغتهم الأم وإعلاء شأنها ومكانتها وإعادة صياغة وجدانهم وانطباعهم إزائها. ومن المؤسف أننا نسمع اليوم كثيراً من مثقفينا المنهزمين يسيئون إلى لغتهم واصفين إياها بلغة الشعر والأدب ، والعاجزة عن مواكبة عصر العلم والتكنولوجيا! وهذا ناتج عن جهل وغباء ، وإلا فما ذنب اللغة في تأخرنا عن ركب العصر ؟ فاللغة مجرد وعاء نستطيع أن نصب فيها ما نشاء أدباً أو علما،ً لكن العيب والقصور في جانب العرب لا العربية . وتتجسد تلك القناعة الانهزامية في واقعنا بصورة واضحة ومستهجنة في شتى المجالات الحياتية ،لا سيما العلمية منها . ومما يضحك ويدعو للسخرية أن كل المشتغلين في الطب لا يكتبون بالعربية ، بل بالإنجليزية ، وهذا راجع إما إلى خجل من الكتابة بالعربية أو لإظهار المهارة في الكتابة باللغات الأخرى . وهل يستطيع عقل أن يفسر لماذا يكتب طبيب عربي لمريض عربي ، نوعية المرض والوصفة العلاجية بالإنجليزية ؛ فيحتاج المريض إلى مترجم حتى يفهم الوصفة الطبية، وكأن العلاج لاينفع إذا ُُكُتِب بالعربية !! فهل نحن إنجليز كي نتخاطب بلغتهم أم عرب لدينا لغة من أثرى وأبلغ اللغات ؟ ! ونحن هنا لا نقلل من شأن اللغات الأخرى وتعلمها والإنكفاء على الذات . كلا ! فالعصر عصر العولمة والانفتاح، والتواصل ، لكن لا للتخلي عن لغتنا، وتنحيتها عن موقع الصدارة لصالح اللغات الأخرى . ولكل ما أوردناه من أخطار مخيفة وأسلحة فتاكة ، تهدد لغتنا، نرى جملة من المقترحات والتوصيات ، تمثل معالجات متكاملة لإنقاذ لغتنا والنهوض بها إلى مصاف اللغات العصرية المزدهرة : والبداية من التعليم ، فكون المناهج الدراسية في عالمنا العربي مكتوبة بالفصحى لا يكفي ، حيث أن المعلم يعد المكمل الأساسي للمنهاج ، فينبغي على الجهات التربوية تأهيله وإعداده إعداداً لغوياً ، وليس معلم اللغة العربية فقط، كي يلامس الطالب لغته حية من المعلم مباشرة، مع ابتعاد المعلم عن العامية المبتذلة قد الإمكان .
وكذا وسائل الإعلام بكافة أنواعها : فبدخول وسائل الإعلام الناطقة بالفصحى إلى الأقطار العربية وانتشارها في وقتنا الحاضر؛ مثّل نهظة لغوية أعادت للعربية بعض عافيتها، حيث عملت على تقديم موادها بلغة سليمة وميسرة ، مخاطبة كافة الشرائح العربية ، وهو ما ساعد على تقريب المواطن العربي من لغته، وتمرينه على فهم الألفاظ والأساليب الفصحى ، إلا أن ذلك لا يعفيها من بعض الملاحظات . فعلى المؤوسسات الإعلامية اختيار عناصرها من ذوي الكفاءات والملكات اللغوية العالية ، ومن واجب الجهات الرسمية عند صياغتها لقوانين الإعلام أن تأخذ بعين الاعتبار سلامة اللغة الإعلامية ، باعتبارها من أعظم ثوابت الأمة ولا يترك الإعلام سائباً لمن هب ودب ليعبث بلغتنا ويشينها. وليس ما يوضع من خطوط حمراء في مجال الإعلام بأولى من لغة الضاد . كما أننا لا نغض الطرف عن المسؤولية الملغاة على كاهل مجامعنا العربية ومنها تعريب كافة الألفاظ والمصطلحات المستجدة في العلوم العصرية ، حتى لا يبقى لمتربص مسلك لاتهام لغتنا بالشيخوخة والعجز عن مواكبة العصر وعلومه ، ولا بد من إيصال النتائج إلى الجهات الرسمية المعنية وإيصائها بإدراجها في المناهج التعليمية ذات العلاقة. أخيراً ينبغي التنبيه إلى ما للقراءة والاستماع ، ومتابعة البرامج الإعلامية ، والمسلسلات التاريخية ذات اللغة الفصحى من دور كبير في تنمية الذخيرة اللغوية ، وإكساب مهارات التحدث والفهم الجيد لمفردات وأساليب اللغة العربية التي تشكل عمود تواصلنا والتقائنا كعرب من المحيط إلى الخليج ، وتميط عنا حواجز التخاطب والتفاهم، في زمن قطعت الحواجز السياسية أوصال أمة تجمعها أواصر الدين والدم واللغة والتاريخ والمصير المشترك.