غيّرت الثورة السلمية التي فجّرها شباب اليمن، منتصف فبراير الماضي، أشياء كثيرة في البلاد وفي حياة أبنائها، وفي هذا التقرير نحاول أن نقدم صورة لبعض ملامح هذه التغيرات. ومن ملامح التغيرات التي أحدثتها الثورة في اليمن، تغيير بعض الفنانين التشكيليين والرسامين موضوعات لوحاتهم وأعمالهم الفنية، وحصرها على الثورة وشهدائها، فها هو الفنان الشاب شهاب المقرمي، الذي صار يشاركه مرسمه شهداء الثورة، بدلاً من زعماء ومشاهير اليمن والعرب والعالم، الذين رسم لهم أكثر من 5000 وجه.
وجوه الشهداء فقد رسم شهاب، وهو رسام كاريكاتير، حتى الآن وجوه "96 شهيداً ومن ضمنهم كل شهداء جمعة الكرامة 18مارس الماضي التي شكلت انعطافة محورية في مسيرة الثورة إلى الأمام"، وبين يديه الآن مجموعة أخرى من وجوه الشهداء "لم يتبق لهم سوى الرتوش الأخيرة".
يتحدث المقرمي وكله أمل وتفاؤل عن مشروعه الشخصي الذي يوثقه، على غير ما عرفته حينما كان يعكف لإنجاز مشروعه الخاص بالقيادات والمشاهير، فبعد رده على "إسلام أون لاين"، وصلتني رسالة هاتفية قصيرة يطلب فيها إضافة عبارة تدلل على مدى التغيير الذي طال حياته الفنية جراء الثورة.
ويؤكد شهاب أنه قبل الثورة كان ينام وبجواره "هتلر وستالين وتشرشل وكاسترو"، لكنه "الآن يشاركه مرسمه "جمال الشرعبي ومحمد الثلايا وحلمي اليافعي"، والاثنان الأولان سقطا شهيدين في مجزرة جمعة الكرامة (18 مارس 2011) وهما يوثقان بكاميراتهما الجريمة التي ارتكبتها قوات صالح وحدث الانشقاق لنظامه بعدها.
ويقول شهاب ل "إسلام أون لاين": "إن الحماس موجود والإرادة كذلك تجاه ثورتنا التي نسهم جميعاً في نجاحها بكل ما نستطيع، وتجاه شهدائنا الذين ضحوا بأرواحهم من أجل يمن حديث مشرق"، ويضيف الفنان شهاب "وما نفعله يعد جزءاً يسيراً من الواجب تجاههم لا يساوي قطرة دم مما قدموه لهذا الوطن، فرحمة الله عليهم أجمعين".
أول وجه ويؤكد شهاب أنه استفاد "من هذه التجربة كثيراً، فكما تعلم أن الفنان الحق خاصة رسام الوجوه ورسام الكاريكاتير يستقي موضوعاته من الناس"، ويضيف لقد "أتاحت لي الثورة الاختلاط أكثر بالشباب في الساحات، فرسمت طموحاتهم وآمالهم وأحزانهم وأفراحهم"، ويواصل "كنت انتشي كلما هاجت الثورة وزاد أوارها، وأكبو كلما كبت".
ويعود بك شهاب إلى أول وجه رسمه بعد اندلاع الثورة وأثار انتباه المتلقين، وهو وجه الرئيس اليمني الراحل ابراهيم الحمدي، حيث كان الناس يتداولون ويتبادلون رسم وجهه طواعية لأنه كان رئيساً محبوباً، ويتهم الرئيس علي عبدالله صالح باغتياله قبل 34 عاماً للإستيلاء على السلطة وتحضر صورته بقوة في مسيرات شباب الثورة بمختلف الساحات.
ومنذ إندلاع الثورة، لم يهتم شهاب لرسم وجه أحد من خارج اليمن، سوى التونسي (محمد بوعزيزي) الذي أحرق نفسه لتهب بعد ذلك رياح ثورات الربيع العربي وأسفل صورته وضع صوراً مقلوبة للزعماء العرب الثلاثة الذين أطيح بهم، وأضاف إليهم صورة الرئيس صالح، ويرى أن البوعزيزي حطم أنظمة حكمهم الإستبدادية، وهو ما كان سبباً لتوقفه عن المنام وبجواره هتلر وستالين وغيرهما ليشاركه مرسمه بدلاً عنهم شهداء الثورة اليمنية.
ويستدرك شهاب الذي توقف عن الرسم في ثمانينيات القرن الماضي بعد تأثره بفتاوى دينية تحرم ما يبدع فيه وهو الرسم "لكن الشيء الذي لا يعلمه سوى الأهل في البيت والمقربون هو الأثر النفسي والانفعال القوي والمؤثر الذي يتركه تعايشي مع كل وجه رسمته في هذه الثورة ومنظر الدماء والأشلاء". font, sans-serif" حالة نفسية ويواصل سرد ما يعيشه من حالة نفسية وهو يرسم وجوه الشهداء: "فيمر بي مشهد اغتياله ولحظة توجيه الرصاص إليه، خاصة وجوه الأطفال، فأنتحب أسى عليه وعلى أسرته، وسخطاً على القتلة الذين من أجل الكرسي يغتالون زهورنا الندية التي خرجت واعتصمت سلمياً تنشد غداً جديداً ويمناً أفضل"، ويتابع بحزن "وبصعوبة أتمكن من الخروج من أسر هذا التأثير".
وفيما كنت أعتقد بصعوبة حصوله على صور الشهداء ليرسم وجوههم، فاجأني (شهاب) بإجابة أخرست أي أسئلة إلحاحية أخرى سأقذفها إليه لمعرفة طريقة حصوله على صورهم، حيث بدت المهمة لديه سهلة بعد أن "صار شهداؤنا كالنجوم تنتشر صورهم وأسماؤهم على الخيام في ساحات الحرية والتغيير وفي المواقع الالكترونية والصحف وعلى الألسن"، ويضيف إلى ذلك أن "أقرباء بعض الشهداء يأتون إلي مشكورين بصورهم كي أرسمهم". ويرسم الفنان المقرمي وجوه الشهداء بطريقته الخاصة على ورق مقوى من النوع المتوسط الجودة والثمن وذلك لضيق ذات اليد، مستخدماً الألوان الجافة حيناً والزيتية حينً آخر، وقليلاً القلم الرصاص.
ويضيف "وقد ساعدني الكمبيوتر في لوحتي (ملحمة الفداء)، حيث مكنني وعبر برنامج الفوتوشوب من جمع كل الذين رسمتهم من الشهداء ليشكلوا هذه اللوحة والتي يبلغ عدد أفرادها 100 وجه تقريباً"، مؤكداً بأنه سيقيم المعرض الأول لبروتريهات الشهداء الذين رسمهم قريباً جداً بإذن الله.
رسوم ثورية ولم يتوقف دور شهاب في الثورة عند رسم وجوه الشهداء، لكن "هناك الكاريكاتيرات الثورية التي تحرض الناس للتغيير"، وهناك وجوه ثورية أيضاً لعدد من الناشطين والناشطات في الساحات كوجه توكل كرمان (الناشطة اليمنية الحائزة على جائزة نوبل للسلام) يوم أن سجنت في السجن المركزي بصنعاء.
ويضيف شهاب "وهناك أيضاً اللوحات التشكيلية التي ما زال عدد منها في المرسم لم تكتمل بعد وبعضها منشور في الصحف وفي صفحتي في الفيسبوك"، ويتابع "ولدي أيضاً مجسم حروفي تشكيلي لجمعة الكرامة أتمنى أن تتوفر الإمكانات المادية لتنفيذه على الأرض وإقامته في جولة النصر في العاصمة صنعاء".
يشار إلى أنه في ثمانينات القرن المنصرم توقف شهاب عن الرسم، "بسبب إشكالية التحريم" ويضيف "فقضية التحريم عانى منها الفنان المسلم قديماً فاتجه إلى الخط والزخرفة.. أما أنا فقد عدت عودة قوية بعد فتوى الشيخ يوسف القرضاوى ورفع الحرج فى الرسم".
انقطاع وعودة ويضيف متحدثاً عن فتوى الشيخ القرضاوي "كان كلامه دواءاً شافياً، فالأصل فى الأشياء الإباحة ومن أدعى غير ذلك فعليه بالدليل"، ويتابع "وليس من رسم وجهاً جمالياً للذكرى كمن صنع التماثيل والأصنام للعبادة". فهو يرى ان "القرضاوى فقيه مجتهد يستنبط الأحكام وييسر على الناس، عكس المتشددين الذين ينفرون الناس ويعسرون عليهم"، ولذلك بدأ (شهاب) لوحته "بالشيخ القرضاوى ثم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر".
بعد الانقطاع الذي أنهته فتوى القرضاوي، رسم شهاب آلاف "الوجوه المؤثرة خيراً وشراً محلياً وعالميا ربما يتجاوزون ال 5 آلاف وجه"، ويضيف "اخترت منهم قرابة 700 وجه وشكلت منهم كتابي (وجوه رصاصية) الذي صدر قبل حوالي أربعة أعوام، ثم اخترت منهم 300 وجه وجمعتهم في لوحة واحدة هي (الذاكرة الشهابية) التي انتشرت كثيراً في المواقع الالكترونية عربياً وعالمياً".
ويعتبر هذه الذاكرة "منهج ثقافي وسياسي تاريخي متكامل"، ويضيف "فكل شخص فيها له قصة فيها عبرة ولها دور، قرب أو بعد عن الحركة الإسلامية، بدأتها بالشيخ القرضاوي وختمتها بالأستاذ ياسين عبدالعزيز، وبدءاً بعصر التنوير منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومروراً بالمجدد حسن البنا إلى ما بعد أسامة بن لادن".
ويتابع شهاب "تجد في (الذاكرة الشهابية) التناقض والاختلاف، تجد فيها الوسطية والتطرف، الخير والشر، ثوار ومجاهدين ومتمردين، وساسة ومصلحين، وزعماء ومجرمين، تجد فيها من يسعى لنهضة الأمة وتعرف من يوغل في ارتهان شعوبهم للأجنبي".